ماذا بقي من كتاب ‘الأدب والآيديولوجيا في سورية ‘؟
أحمد عزيز الحسين
لا يمكنُ اختزالُُ الحديثِ عن ‘الأدب والآيديولوجيا في سورية’ (دار ابن خلدون ـ بيروت- 1974) لنبيل سليمان وبوعلي ياسين، من خلال التركيز على طابعه الايديولوجي الصرف كما فعل نبيل الملحم في مقاله (ما بعد بوعلي ياسين . . . حكاية هوية) المنشور في موقع ‘الأوان’ بتاريخ 1أيار (مايو) 2009، فقد كان هذا سمة أساسية للنقد الأدبي في السبعينات من القرن المنصرم، في المشرق العربي عمومًا، وسورية خصوصًا، وإن كان الكتاب المذكور وصل بهذا اللون من النقد إلى القمة، ما حرَّض المعارضين له (وعلى رأسهم محيي الدين صبحي) على إدارة الظهر له، أو إقصائه من حقل النقد الأدبي، واعتباره نباتًا غريبًا عنه، ولا علاقة له بنسيجه، من قريب أو بعيد.
وقد مثّل هذا الكتابُ، مع ‘السهم والدائرة’ لمحمد كامل الخطيب، و’دراسات نقدية في الرواية والقصة’ لعبدالرزاق عيد، ومجمل كتابات حنا عبود ومساهمات سامي عطفة التطبيقية، حلقةً أساسيَّة لا يمكن إغفالُها في قراءة النص الأدبي السوري، وقام نبيل سليمان وبوعلي ياسين ومحمد كامل الخطيب برصد المعركة الثقافية التي اندلعت حول هذا الكتاب في الصحافة الثقافية السورية واللبنانية في كتاب مشترك لهم صدر عن دار ابن رشد ببيروت في منتصف الثمانينات من القرن المنصرم تحت عنوان ‘المعارك الثقافية في سورية’ (دار ابن رشد- بيروت- 1979).
وفي ظني أن كتاب ‘الأدب والآيديولوجيا في سورية’ لا يزال يحمل في طياته كثيرًا من الجدة والالتماعات الفنية الذكية التي لا تزال محتفظة بألقها حتى الآن، ومنها بشكل خاص ما ورد حول قراءة نتاج جورج سالم وعبدالله عبد بشكل خاص، وإن كان كثيرون يذهبون إلى خلاف ذلك. ومع أن النقد الأدبي في سورية حاول في العقدين الأخيرين أن يطعِّم نفسه بالمناهج النقدية الحديثة، وأن يستفيد مما كتبه المشتغلون في حقل الشعرية (الفرنسية أو الأنغلو- سكسونية) ومناهج النقد النصي عمومًا، إلا أن ما كُتب في نطاق هذا النقد حتى الآن لا يتجاوز كثيرًا ما قدمه الكتاب المذكور، من حيث إنه يقع في الشرك نفسه الذي وقع فيه، وينطلق من نظرة ايديولوجية (أو نقدية) مسبقة إلى النص الأدبي، ولا يستكنه خصائصه النوعية من خلال تحليل طبيعته وبنيته وآلية تشكيله الفني، بل يدخل إليه للبرهنة على صحة ما في ذهن صاحبه من تصور مسبق عن النص الأدبي عمومًا، أو عن المجتمع وما يدور فيه من تجاذب فكري أو صراع اجتماعي / سياسي.
وفي ظني أن النقد الأدبي في سورية لا يزال، حتى الآن، يقرأ الأدب بالطريقة نفسها التي قرأ بها بوعلي ياسين ونبيل سليمان الأدب في كتابهما المشار إليه؛ من حيث إنه يتعامل مع معطيات المناهج النقدية الحديثة بالمسطرية نفسها، ويطبقها على النصوص الأدبية بالميكانيكية نفسها، وينظر إلى تقنياتها السردية أو الشعرية كأحكام قيمة في حد ذاتها، وليس كأدوات خام تصلح لأن توظَّف توظيفًا محدّدًا يتناسب مع طبيعة النص، وتستدعيه الحبكة السردية وآلية التصوير الفني أولا ؛ فالراوي العليم عند بعض النقاد ‘الحداثويين’، أوالمحسوبين على ‘البنيوية’، يحمل حكم قيمة سلبيًّا بشكل مسبق، ويدل على هيمنة الكاتب على نصه، وعلى تحكمه بشخصياته، بغض النظر عن كيفية توظيف هذه التقنية في النص الأدبي المدروس، وعن كون بعض كبار الكتاب في العالم، وعلى رأسهم دوستويفسكي وتولستوي وهيمنغواي وتشيخوف ،استخدموه بنجاح لافت.
ويتساوى لدى نقاد آخرين، عند قراءتهم كيفية تجلِّي بعض التقنيات السردية في النصوص المدروسة، أيضًا، رواية لحيدر حيدر أو هاني الراهب مع رواية لعلي عقلة عرسان أو لقمر كيلاني، وهكذا يختلط الحابل بالنابل عند هؤلاء، وتفرَّغ التقنيات من وظيفتها البنائية أو الأسلوبية التي نُحِتت من أجلها في النقد الأدبي العالمي، وتغدو أداة أيديولوجية طيِّعة بيد الناقد يقوِّلها ما لا تقول، ويحمِّلها ما لا تحتمل، ويُخضِعها لأهوائه ومزاجه، ويكيِّفها لمصلحته، ولو كان ذلك يتعارض مع طبيعة النص المدروس.
وعند هذا النوع من النقاد يغدو الراوي المشارِك (أو المُمَثَّل) دليلا، أيضاً، على تمكن الكاتب من أدواته بشكل مسبق أيضًا، وعلى ديموقراطية الكاتب أو السارد، وعلى ابتعاده عن الوقوع في أسر ‘القص الاستبدادي’ الذي يتحكم فيه الكاتب بحركة شخصياته من موقع الراوي الإله (كما يقول فلوبير)، ويهيمن على السيرورة الجمالية في نصه، ويفرض حضوره على كل موتيف سردي في تسلسل الحبكة وتنامي الصراع، مع أن المشتغلين في حقل الشعرية، وعلى رأسهم تودوروف في كتابه ‘الشعرية’، حذروا من الوقوع في هذا المطب، ونبهوا إلى أن التقنيات التي تبنى بها النصوص أدوات خام لا أكثر، وينبغي ألا تحمل حكم قيمة مسبق لدى الناقد .
النقد الحداثوي في سورية، أو ما يُظن أنه كتَب تحت لوائه، لا يزال نقداً آيديولوجيًّا إذًا، إذا اعتبرنا الآيديولوجيا نظرة مسبقة تُفرَض على النص، وتقوِّله مالا يقول، سواء أعني هذا النقد بتحليل الدلالة الاجتماعية في النص كما فعل نبيل سليمان وبوعلي ياسين في كتابهما آنف الذكر، أو اقتصر على متابعة كيفية تجلي المتن الحكائي / الفني في مبنى سردي / فني مشغول بإتقان، وأظن أن هذه السمة ليست مقصورة على النقد الأدبي في سورية، بل هي سمة قارَّة في النقد الأدبي العربي عمومًا، سواء أكان هذا النقد مهيمناً في مصر أو لبنان أو سورية أو المغرب العربي، ولا أستثني في حقل السرديا ت إلا قلة، أذكر من بينها جابر عصفور من مصر، ويمنى العيد من لبنان، وعبدالله إبراهيم من العراق، وصلاح صالح من سورية، وحسن البحراوي من المغرب، وفيصل دراج من فلسطين، على تفاوت ما بينهم في استثمار المناهج النقدية الحديثة، بل إنني أزعم أن النقد الأدبي الذي يكتبه سعيد يقطين ومحمد مفتاح وفريد الزاهي ومحمد نجيب العمامي وعبدالصمد زايد وأيمن بكر وفرج بن رمضان وأضرابهم من النقاد العرب ليس سوى صدى لنقد الآخر بأشكال متفاوتة، وهو نقد يخلص للمنهج النقدي الذي يعتمده الناقد لا لطبيعة النص الأدبي المدروس؛ فتغدو النصوص عندئذٍ وثائق اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية لا أكثر.
أخيرا، أظن أن القراءة النقدية المنصفة لكتاب ‘الأدب والآيديولوجيا في سورية’ هي التي تأخذ بالحسبان طبيعة المرحلة التي صدر فيها هذا الكتاب، وحجم المعرفة النقدية المتوافرة لصاحبيه، وتأثير المناخ النقدي المهيمن على آلية القراءة وتحليل النصوص إجمالا، وإذا لم تراع ذلك كله فهي ترمي بالحاضن الثقافي والنقدي بعيدًا، وتهدر السياق التاريخي الذي ظهر فيه الكتاب، وتظلم صاحبيه في الوقت الذي تدعي فيه أنها تقوم بالتصدي لرفع الغبن الذي لحق بهما ثلاثة عقود ونيف.