أنا مكان !
خليل النعيمي
نرحل عَمْداً.
ولكن نرحل إلى أين؟ ولماذا؟
عندما يرحل الكائنُ يموت. يموتُ الذي كان قبل الرحيل، ويولَدُ غيرُه. ذلك، وحده، يكفي لكي نرحلَ. لئلاّ نكفَّ عن الرحيل.
السفرُ كلمات؟ لا! السَفَرُ مشاهد وأفكار. ولكن، هل ثمة كلمات دون أفكار؟ ومشاهد دون إبْصار؟ بلى! وهو ما يجعلنا نتريَّثُ، قليلاً، قبل الحديث عن السَفَر، فهو أخطر مما نتصوَّرُ بكثير.
من السفرِ نتعلَّمُ أن نهدِّئ إنفعالنا، أن نربِّيَ مُتْعتَنا، أن نتأقْلَم مع ما لَمْ يعدْ موجوداً، لأن المُبْصَرَ هو الذي يصير يحتلُّ مخيلتَنا. هو، وحده، يصبحُ ممَثِّـلَ الوجود.
بالسفر نتفتَّحُ على الحياة. نندمج بالطبيعة والكائنات. نتدرّبُ على ألاّ نحكمَ على الآخرين بسهولة، ولكن أن نتعلَّمَ منهم. نتعلَّمُ الصمتَ والتروّي، واحترام ما نراه. نتعلَّمُ الحركة، والحرية : حرية تصريف أجسادِنا بمتعة في فضاء الكون.
الأمكنةُ ليست صامتةً، وإنما تتكلّم. وهي عندما تتكلّم لا تحكي عن نفسِها، كما نفعل نحن، وإنما عن التاريخ. عن تاريخ الإنسانية التي صرفَتْ جهودًا كبيرة في إنجازِها ورِعايتِها.
حوارُ المسافرِ معها فَعَّال. هي لا تخبّئ نفسها، ولا تُظْهِرُ غير ما تُبْطِن. إنها تردُّ لنا ما استهلكَتْه من جهد بشريّ، أو حتى ما اختزنَتْه من عبقرية الطبيعة. تردُّه لنا بلا تزمّت أو تقتير. فالمكان الذي لم يأخذ من أحد شيئاً لا يعطي شيئاً لأحد. وهو لا يستحقُّ حتى الزيارة. إنه كالكائن البائسِ العديمِ الحيلة المسطّح المغرورِ بلا مزية، إنْ عرفْتَه لا يُغنيكَ، وإن جهلتَه لا يفوتُكَ شيء.
الأمكنة هي التي تجعلُنا نرى ما لَمْ نكن نراه قاعدين. نرى الماضي الذي لم نُبْصِرْه عندما كان حاضراً، ولم ندرك منه شيئاً بعد ما مضى، مع أنه كان كلَّ حياتِنا. هي التي تقول لنا مَنْ نحن، لأنها تفتح عيونَنا على المجهول. تملؤنا بحب جديد لأمكنتِنا الأولى التي رَحَلْنا عنها. فمَنْ لا يُحِبُّ المكانَ الذي سافر عنه، لن يُحِبَّه المكانُ الذي يسافر إليه. نحن لا ننفرُ من الأمكنة عندما نرحل، وإنما نبحث عنها. وفي هذا البحثِ الميتولوجي تكمن مغامرةُ السفرِ، ومتعةُ المسافرِ.
القاعدُ، وَجمْعُهُ القَعَدَة، وأنتم تعرفون، ولا بد، مفهومَ الخوارج عن القعدة الذين لا يخرجون للدفاع عما يعتقدون به واحتقارَهم العميقَ لهم، لكن ما يهمنا نحن، هنا، ليس الإيمانُ وإنما المعرفة. القاعدُ، هو الذي لا يطلب معرفة، ولا يستجيب للحياة، باعتبارها تنَقُّلاً وتحوُّلاً. وحالةُ القُعودِ عن السفَر، اليوم، وربما كانت دائماً كذلك، هي إحدى العوائق المعرفية التي لا يمكن تعويض خسارتِها. ولا أُبالغُ إذْ أُصِرُّ على ذلك.
السفر فعل معرفيّ وسياسيّ قبل أن يكون أيَّ شيء آخر. والأنظمةُ الشموليةُ، كلُّها، تمنع، أول ما تمنع، مواطنيها من السفر. لماذا؟ لأنها تَرْهبُ عدوى الحرية التي يمكن أن يصابَ بها المسافرُ من جراء مخالطتِه للآخرين. وتَخشى افتضاحَ عيوبِ نظامِها مقارنة مع أنظمةِ العالم المغايرةِ لها.
أذكر أنني عندما زرت البرازيل لأكتب عن ‘ريو ديجانيرو’ (ومعنى الاسم : نهر كانون الثاني) /يناير، كنت جالساً في مساء ‘ريو’ الآسر على شاطئ ‘كوبا كابانا’ الجميل، و المحيط الأطلسيّ يتلاعب بالأمواج والبشر. كان الفضاء مثيراً، والدنيا لها طعم آخر .
وقد نقلني السفرُ من حال العطالة الذهنية إلى الشغف بالطبيعة والكائنات. يومَها، كتبتُ الكثيرَ عن الناس وعن المدينة الساحرة ‘ريو’. وختمتُ مقالتي، بالكلمات التالية : ‘يجب ألاّ يمنعَ أحد من السفر، ولا من الجنس، ولا من التعبير’.
وأرجو أن تلاحظوا التدرُّجَ حسب الأهميةِ التي أحسستُها، آنذاك، ولا زلتُ : السفر، الجنس، وأخيراً التعبير. وهي عندنا، في العالمِ العربي، مقلوبة. أول ما نطالب به هو’حرية التعبير’ ومن بعد الأشياء الأخرى، دون أن نهتم بمسألة السفر والجنس إلا نادراً. لماذا؟ لأن الكلام، أو التعبير، مسألة نظرية، ولا يتطلَّبُ جهداً فيزيائياً خاصاً به. ويمكن لأي كائن أن يدعيه، أو يدعي بعضه، أو مثله، دون أن يكون مضطراً لممارسة جسدية محددة، أو خاصة بمثل هذا ‘الإنشاء’. أما السفرُ، والجنسُ، فلهما شأن آخر.
من وجهة النظرِ هذه، ليس السفرُ نافلاً، ولا زائداً عن اللزوم، وإنما هو فعل ضروريّ لكي يستقيمَ وجودُ الكائنِ، ويغدو لحياته معنى. لكن ما هو هذا المعنى؟ هل هو المتعةُ؟ هل هو الترويحُ عن النفس؟ هل هو التفرُّجُ؟ أي شيء يكمن في بنية الرحيل لا يعرفُه القاعدُ عنه، ولا ُيلِمُّ به إلاّ المسافرُ؟ إنه المغامرةُ. ولكن، بأي شيء يمكن للمسافر أن يغامرَ؟ وبأي معنى؟
نحن ندرك، اليومَ، الانتشارَ الكاسحَ لكلمة ‘المغامرة’ في الثقافة العربية السائدة، ونحذر من زيادة الطين بَلَّة، كما يُقال. لكننا نحن أيضاً مسكونون بهذه الكلمة. وأحياناً، تغدو الكلماتُ قيداً. ما همَّ، لنتابع.
المغامرة! وبأي شي؟ بسكونية الإقامةِ وراحتِها. بإمكانية الالتقاءِ بما، وبمَنْ، لَمْ يكن من الممكن لنا أن نعثر عليه في قعودنا. بنَقْض رؤيتِنا عن أنفسنا، عندما ندركُ أننا لسنا وحدَنا ‘الكاملين ‘ في هذا العالَم، بل أننا، على العكس مما نعتقد، أكثرُ الناس اضطراباً وجهلاً وتشنُّجاً وارتباكاً.
وأهمُّ ما في هذه المغامرة، هو الاكتشاف، أحياناً، بأننا لا شيء، تقريباً، ولن نكون شيئاً إلاّ إذا حاولنا أن نتجاوزَ ما نحن فيه من تخلُّف وابتسار. إلاَّ إذا تخلَّصْنا من الرضى الذاتي عن الذات، وحَذَفْنا من عقولنا عادة غضّ النظر عن هفواتِنا عندما يلائمنا الأمر، حتى ولو كان لهذه الهفوات تأثير تاريخي على حياتنا.
مغامرة المسافر تأتي من كونه يقبل في أن يخطوَ الخطوَةَ الأولى نحو إعادة النظر بكل شيء، بما في ذلك تاريخُه الشخصيّ، ورؤيتُهُ للعالَم. وتلك هي الخطوةُ الأساسيةُ نحو القطيعة. القطيعة مع الذات، ومع معطياتِها القديمة التي ستبدو، بصراحة، مهترئة منذ أن يتجاوز عَتَبَة بابِه .
منظوراً إليه من هذه الزاوية، السفر ليس هو الجغرافيا. وهذه ليست هي المسافة. إنه النقْلَةُ النوعية. نقْلَةُ الوعي من حال الخمود إلى حالة التلَقُّفِ، والاستثارة، والاستيعاب. وهي حالة يغدو فيها الكائن متهيّئاً لتقَبُّل ما يراه، لتمثُّلِه، وإدراكِ دلالاتِه.
كلنا نعرف أننا، أحياناً، نلتقي بكل شيء عندما نسافر خطوات، وأحياناً أخرى نقطع المسافاتِ بين قارتين دون أن نرى شيئاً. وكما قال ‘ديكارت’: ‘مَنْ لا يَرَ لا ينقُصْهُ شيء’. وأخشى أن تكون هذه هي حال القاعدِ عن السفر.
أسطورةُ السفرِ، كلُّها، تقريباً، تكاد تنحصر في هذه النقطة : الرغبة في الرؤية، والإحساس بالحاجة إلى… أما الكائن المكتفي فلا حاجة به لأن يسافر، إنْ لم يكن لغرض التَبَضُّع والفخفخة. وهم كُثُر كما نعرف.
وفي النهاية، الروائيُّ (واعذروني لأنني أحس أنه لا بد لي من أن أتحدثَ عن كائن له هذه الصفة، وإنْ لم أكنْ مضطراً إلى ذلك) بهذا المعنى، هو الآخر، رَحَّالَة. لأنه لا يكفُّ عن الرحيل داخل ذاته، ولا عن التنقُّلِ داخل سنواتِ حياتِه، وأحداثِها. وقد يكونُ هو، لهذا السبب ربما، معنيّاً أكثر من غيره بمسألة السفر. فهو كما يحب الأشخاص، ببساطة لأن عملَهُ مرتبط بهم، يأْلَفُ الأمكنةَ بسهولة. وبخاصة عندما يكونُ قد أدركَ، مبكِّراً، أن السفر، كالحب، نعمة من نِعَم الوجود. الوجود المفْعَم بالتَوْق إلى آخر أكثر غنى.
في زيارتي الأخيرة لتشيلي، كنت أتردد كثيراً على قصر ‘لامونيدا’. القصرُ الذي قُتِل فيه ‘أليندي’. وقبلَ الرحيل بقليل، ذهبت إليه، للمرة الأخيرة، وبقيت فترة، رجعْتُ بعدها إلى رفاق الرحلة ملتاعاً. فتساءلوا عمَّ أصابني. قلتُ: لا شيء. وعندما أَََلحُّوا، قرأت لهم الجملة الأخيرة التي كتبتُها في ساحة القصر:
‘ عدتُ إلى ‘ لامونيدا’ لأُوَدِّعَه.
أُحِبُّ أن أُوَدِّع الأمكنة.
ولا أُحب أن أُودِّع الناس.
أنا مكان’.
روائي من سورية يقيم في باريس، وهذا نص المداخلة إلى ندوة ‘أدب الرحلة العربية في ألف عام’ الذي نظمته ‘دار السويدي أبوظبي / لندن’ ووزارة الثقافة المغربية.
القدس العربي