الثقافة قبل السياسة في المواجهة
زياد ماجد
فكرتان يودّ هذا النص طرحهما للمناقشة، حول الثقافة والمعركة السياسية في لبنان.
الفكرة الاولى مفادها أن المثقفين المحسوبين على “المعارضة” يبدون ذوي قدرة على التصنيف والاتهام والتخوين من موقع “السلطة” والاستقواء بها رمزياً وفعلياً على الخصوم، فيما المثقفون المفترض تأييدهم للأكثرية النيابية و”حكومتها” أو قربهم منها، وتالياً من “السلطة الرسمية”، يظهرون في الموقع المتعرّض للضغط والتهديد، ويسقط منهم، كما من “سياسيّي معسكرهم”، القتلى والجرحى. وفي ذلك مفارقة لافتة في معنى المعارضة والسلطة في لبنان اليوم.
الفكرة الثانية مرتبطة بعجز القوى الاستقلالية، وهي التي ننتمي إليها ويعنينا أمرها، عن بناء أفق ثقافي لمعركتها، أو حتى عجزها عن إنتاج ثقافة سياسية تعطي من خلالها الخطاب والممارسة بعداً يتخطّى لحظة الاصطفاف الراهن ليؤسس للديموقراطية والمواطنة في حمى الدولة ومؤسساتها. وفي هذا العجز عطب أساسي مرتبط بالحياة السياسية ككل في لبنان.
في ما يأتي عرض للفكرتين، وبعض الخلاصات على أساسهما.
المثقف والسلطة أو “المثقف السلطوي”
لا مبالغة بتاتاً في اعتبار مثقفي “المعارضة اللبنانية”، ولا سيما أولئك المحيطين بـ”حزب الله”، مثقفين سلطويين. فسلطة هؤلاء ليست مرتبطة بقوام منطقي، أو بإنتاج معرفي، أو بتفوّق سجالي، أو بقدرة على الإقناع وعلى إيجاد الروابط بين التزام سياسي وخلفية ثقافية. سلطتهم متأتية من سلطة سلاح أهليّ تعجز الدولة عن التعامل معه، وسلطتهم متأتية من صلاحية تخوين واتهام وتهديد وشتم يستمدّونها من واقع سياسي وطائفي وأمني وميليشيوي مرتبط بحزب مدجّج بالسلاح ومن خلفه دول (دولتان تحديداً، واحدتهما على تماس جغرافي وسياسي ومخابراتي مباشر مع لبنان وهي حكمته لسنوات)، ويمارسونها ضد الحكومة الدستورية نفسها، وضد أشخاصها وضد الجماعات والأفراد المؤيّدين لها أو المدافعين عنها.
أي أنهم يبدون أقرب الى مفهوم المثقف الخادم للسلطة في الأنظمة الشمولية أو شبه الشمولية، من كونهم معارضين أو حتى مستقلّين، ولو ادّعوا نزاهة وشجاعة واستقامة. فالصفات الأخيرة هي بالذات ما ينقصهم في موقعهم حيث خطابهم سلاح رمزي يُرفَع باسم أخلاق نسبية وقضايا كبرى داخل البلد وخارجه ليتحوّل أداة تهديد وتحريض كلامي، يرافقها سلاح فعلي يوجّه النيران غير الرمزية الى صدور الخصوم، أو الى ظهورهم.
ثقافة الديموقراطية الغائبة
يمكن القول إن العنصر الثقافي كان واحداً من أكثر نقاط الضعف بروزاً في المعركة الاستقلالية.
ذلك أن لا أفق إصلاحياً مبنياً على برامج تؤسس لثقافة سياسية جديدة جرى تظهيره ليشكل تحصيناً للاستقلال، ولا بعد ثقافياً للمعركة جرى بناؤه يربط الاستقلال الوطني بالحرية والديموقراطية، في معانيهما العريضة، وانعكاسات ذلك الواسعة اجتماعياً وسياسياً في البلاد.
مردّ هذا ليس فقط الأولوية التي فرضتها المعركة ضد الهيمنة السورية وحلفائها اللبنانيين على وجاهتها، ولا الضغط الأمني والاغتيالات المترتّبة على هذه المعركة وما تتسبّب به من إرباك وإنهاك. السبب يكمن ربما في معطيين مهمّين هما:
أ- طبيعة التحالف الذي جمع قوى متعددة الخلفيات والمشارب الفكرية والسياسية، ومختلفة التكوين، أكثرها أهلي طائفي، وأقلّها مدني علماني، لم يوحّد جهودها سوى الشعار الاستقلالي، وهو في كل حال كان كافياً لفترة محدّدة، ولم يبقها متماسكة سوى الاصطفاف المضاد لها، الأهلي والطائفي بدوره، وذي الثقافة أو بالأحرى الإيديولوجيا الشمولية، وحدّة خطابه وعنف مسلكه وهجومه الشامل عليها.
ب- عجز القوى والشخصيات الإصلاحية في 14 آذار عن طرح شعاراتها بفاعلية، والتصاق أكثرها كما أكثر المثقفين المؤيدين لها بالخطاب السياسي التعبوي للتجمع المذكور، حتى ولو قفز أحياناً من موقف الى آخر، وذلك نتيجة الشعور بواجب الاختيار بين معسكرين من جهة، ونتيجة الاستسهال والرغبة أحياناً في الاسترضاء أو القرب من القوى الكبرى وجماهيرها من جهة ثانية.
هذا من دون أن ننسى أن الطائفية، كسمة تكوينية لمعظم التيارات في المعسكرين وكنظام تصريف لحيوياتها وكمنطلق استقطاب وتمثيل داخل المؤسسات وفي مجمل أنحاء الحياة السياسية، هي في ذاتها عائق أمام إنتاج أي ثقافة إصلاحية أو تغييرية خارج التوازنات والاعتبارات المذهبية.
ماذا نستخلص؟
بناء على الفكرتين الواردتين أعلاه، ومع الإقرار بالواقع الطائفي وبتوازن القوى فيه، ومع الأخذ بأهمية التنوع والتعدد الديني في المجتمع الواحد، يمكننا ربما تأكيد:
– ضرورة ربط المعركة الاستقلالية بقضايا الإصلاح السياسي بوصفها تأسيساً لثقافة مواطنية تحصّن الاستقلال والاستقرار.
– ضرورة الدفاع عن الديموقراطية وعن الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة ونبذ العنصرية ورفض كل أشكال الرقابة السياسية والأمنية والدينية على الخلق والتعبير، بوصفها جميعها منطلقات ثقافية لا يمكن من دونها الانتصار في مواجهة الداعين الى العنف والى عقلية محاكم التفتيش. وهذا يتطلّب أيضاً عدم المساومة أو التساهل تجاه بعض الخطب والمسلكيات الصادرة عن عدد من مؤيدي القوى الاستقلالية أو الناشطين فيها.
– رفض كل أشكال الابتزاز وعدم الرضوخ للتخوين وحملات الشتم التي يطلقها بعض الكتبة والسياسيين، والاستمرار في الدفاع عن قيم الاستقلال والاستقرار بوصفها شروط حماية لبنان ومجتمعه من التفكك والتشرذم.
– رفض كل وسائل العنف والقمع والاستبداد، وجعل الثقافة منطلقاً لمقاومة السائد بلغته ومفرداته وممارساته العدوانية.
يبقى التأكيد، في خلاصة هذه العجالة، أن الحياد بحجة الثقافة أو بحجة عدم الرضا عن أداء مختلف الأطراف السياسيين، هو استقالة من المسؤوليات المواطنية وهروب من الواجبات الثقافية. فمن دون استقلال واستقرار، لا حرية مضمونة ولا إصلاح ممكناً ولا ثقافة حية. والواجب يقتضي الدفاع عن الحرية والإصلاح من قلب المعركة الاستقلالية ومن منطلق الحرص على الاستقرار في مواجهة مشاريع ربط البلاد باللاإستقرار الإقليمي المديد، ورهنها لصفقات أنظمة المخابرات والقمع و”الممانعة” اللفظية السمجة.
ففي ذلك انحياز الى الديموقراطية واحتمالاتها الثقافية. وفي ذلك انتصار للحرية في وجه الظلاميين والمستبدّين، مسلّحين بالرصاص أكانوا أم بكلمات التخوين ¶
ملحق النهار الثقافي