الشاعرة السورية عائشة أرناؤوط: لا أستطيع أن أحمِّل الشعر أكثر مما يحتمل
الرباط ـ من سعيدة شريف: بحس شاعري مرهف وبتلقائية كبيرة عبَّرت الشاعرة والروائية السورية عائشة أرناؤوط في اللقاء الأدبي المفتوح الذي خصصه لها بيت الشعر أخيرا بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط، عن اختيارها للشعر كوسيلة أدبية للتعبير عما يختلج في نفسها من أحاسيس، وعن كون الشعر يشكل لديها منذ زمان جزءا من الوجود، إنه يشبه التنفس لديها، فحينما لا تكتب تشعر بالاختناق تماما. ولكن ذلك لم يمنعها من كتابة الرواية؛ حيث صدرت لها إلى جانب دواوينها الشعرية رواية وحيدة عام 2006 عن ‘دار كنعان’ السورية بعنوان ‘أقودك إلى غيري’، اعتبرها الكثير من النقاد قصيدة طويلة أو رواية شعرية إن صح هذا التجنيس.
كان اللقاء بالشاعرة والأديبة عائشة أرناؤوط، المقيمة منذ سبعينيات القرن الماضي بباريس، حميميا وصادقا تركت فيه الشاعرة الكلمة الأولى والأخيرة للشعر؛ لأنها تفضل أن يتعرف عليها الجمهور من خلال قصائدها لا من خلال حديثها، ولهذا قرأت الكثير من قصائدها القديمة والجديدة، بل وغير المنشور منها، من مثل قصيدتي ‘أعدك’ و’المغارة’ ، وبعض قصائدها المترجمة إلى اللغة الفرنسية من طرف الشاعر والكاتب المغربي عبداللطيف اللعبي والصادرة عام 2003 عن ‘دار المنار’ بباريس بعنوان ‘مقاطع مائية’؛ حيث قرأت هي القصائد باللغة العربية والشاعر عبد اللطيف اللعبي، الذي أدار اللقاء الأدبي، قرأ ترجمتها إلى الفرنسية.
ومن دواوينها: ‘الحريق’ 1981، ‘على غمد ورقة تسقط’ 1986، ‘الوطن المحرم’ 1987، ‘من الرماد إلى الرماد’ 1995 و ‘حنين العناصر’ 2003، قرأت الشاعرة عائشة أرناؤوط مجموعة من القصائد المتنوعة التي تنضح بالأسئلة الوجودية وبالقضايا الإنسانية، لدرجة أن من يستمع إليها لا يستطيع أن يجزم أن شاعرة أنثى هي التي كتبتها، وذلك لأن قصائدها غير مسكونة بذات الأنثى ولا ضاجة بالمطالب والقضايا النسائية كغيرها من قصائد الشاعرات العربيات الأخريات. ورغم مواظبة الشاعرة عائشة أرناؤوط على الكتابة الشعرية واشتغالها على القصيدة، فإنها لم تنشر الكثير مما كتبته، ولكنها في المقابل استطاعت أن تؤكد حضورها في المشهد الشعري العربي المعاصر بكثير من الرصانة والجدية؛ حيث أسهمت مع غيرها من المجددين بالانتقال بالقصيدة العربية إلى آفاق بعيدة في الحداثة بجرأة تعاملها مع اللغة وبصرامة ممارستها المتجددة على مستوى الشكل.
وفي تقديمه للشاعرة الضيفة، التي اقتنص بيت الشعر في المغرب تلك اللحظات معها من زيارتها الخاصة للمغرب، ذكر الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي أنه يصعب عليه تقديم صديقته الشاعرة عائشة أرناؤوط، التي تربطه بها وبزوجها الفنان التشكيلي الراحل صخر فرزات روابط قوية اقتسموا فيها أشياء كثيرة لدرجة جعلته يعتبرهما أناه الأخرى.
وأشار اللعبي إلى أن ‘المثير في تجربة الشاعرة عائشة أرناؤوط هو اختلافها كامرأة تكتب الشعر، فشعرها ينطق بالكائن البشري ولا يصنف المرأة ولا الرجل، فهمها هو إعادة بناء الكائن البشري في ازدواجيته. وفي شؤون الحب والغرائز والمحرمات تمارس عائشة الوقاحة الأنيقة جدا، وهي خاصية لأنها ليست من الشاعرات المستفزات، فهي تستفز ذاتها قبل أن تستفز الآخرين’.
وأردف اللعبي أن عائشة أرناؤوط تتجنب في شعرها الشعرية المفرطة، ولا تنحو منحى القصيدة الحديثة التي تظهر عليها الغزارة الشعرية. وقد قال أدونيس عن شعرها ‘إنه شعر مهووس بالبحث عن الجوهري من دون يقين بقدرته على معرفة أين تنتهي حدود الصدفة والعبث’.
وفي تصريح لصحيفة ‘العرب’ ذكرت الشاعرة عائشة أرناؤوط أن تنشئتها وسط عائلة فقيرة تولي العناية الكبيرة للثقافة والفن قبل الطعام، والتقاءها بالكثير من الكتاب والفنانين منذ الصغر كان لهما الأثر الكبير في توجهها للأدب وفي كتابتها للشعر، لدرجة أنه أصبح أمرا وجوديا بالنسبة لها فقالت ‘لا أستطيع أن أفهم تماما إذا كان هو فيَّ أم أنا فيه في الواقع. فمرة مثلا لظروف طارئة لم أستطع كتابة الشعر، شعرت بآلام في ذراعي ولم أدرك ساعتها أني كنت لا أكتب، اعتقدت في البداية أنه مرض عضوي، وإذا بي أكتشف أن الآلام التي كنت أشعر بها في يدي اليمنى وفي أصابعها هي نتيجة لعدم كتابتي لفترة معينة. وبعدها عدت إلى كتابة الشعر وفي ظرف أسبوع شُفيت تماما، بعدما قضى الأطباء شهرين كاملين في محاولة لعلاجي من دون جدوى. ولهذا فالشعر جزء من حياتي، فليس من الضروري أحيانا أن يكتب الإنسان الشعر، ولكن من الضروري أن يعيش لحظات الحياة شعريا، وأن يكون مدهوشا بالأشياء وأن يرى وجوهها الأخرى’.
وحول اختلاف شعرها عن الكتابات الشعرية النسوية التي تحبل بهموم ذات الأنثى وبالقضايا المطلبية للنساء وطغيان القضايا الوجودية والفكرية والإنسانية على شعرها، ذكرت الشاعرة عائشة أرناؤوط أن لتنشئتها وظروف حياتها العائلية أيضا دورا في ذلك، وفيما بعد مع زوجها؛ حيث لم تشعر نهائيا بالظلم، ولم يمارس عليها أي نوع من الاضطهاد الذي مورس على المرأة، فقد كانت مع عائلتها ومع زوجها إنسانا قبل أن تكون أنثى، فقد كانت متساوية مع إخوانها الذكور في جميع الأمور تقريبا، وهذا ما ساعدها، كما أشارت، في التوغل في كائنية الكائن خارج التصنيف.
وعن عملها الروائي الوحيد ‘أقودك إلى غيري’ ، الذي يرجع عنوانه إلى مقولة لنيتشه ذكرت الكاتبة أنه رغم كونها شاعرة فهي لم تدخل الشعر في الرواية ولم تحاول دعم العمل به، وإنما كان انزياحا طبيعيا في الحدث وفي الجو العام، وهو ما خدم الرواية لأنها ليست رواية شعرية بالكامل. وأضافت أنها استمتعت بكتابة الرواية كثيرا وأنها لن تتخلى عن الشعر وأنها انخرطت في كتابة رواية ثانية يلزمها الكثير من الوقت لترى النور. وعن اختيار الإقامة بباريس منذ سبعينيات القرن الماضي ذكرت عائشة أرناؤوط أنه كان طوعيا بهدف تغيير الجو والبحث عن المعرفة وليس قصرا. وقالت: ‘أنا أزور سورية، ولكن بما أن استقراري الكامل الآن بباريس فأمر العودة إلى سورية سيكون صعبا، أحن إلى سورية وأحب زيارتها باستمرار، ولكنني أحب باريس كثيرا. باريس كانت مدينة صعبة في البداية، ولكنها كانت حانية عليَّ، لم أعش الغربة كما عاشها الآخرون، وأنا كنت محظوظة بذلك. فالإقامة بفرنسا أتاحت لي فرصة الانفتاح على مختلف المعارف ومن بينها العلوم، التي بدأت أهتم بها كثيرا’ . حول كيفية كتابة القصيدة وعن الموضوع الذي يغيب عن قصيدة النثر، التي رأى القاص إدريس الخوري أنها تُكتب كلغة أكثر من الموضوع، أوضحت الشاعرة عائشة أرناؤوط أنها تركز على مسألة الحرية في الكتابة وأنها لا تتقيد بما يقوم به الغير، بل تكتب القصيدة وفق ما تراه، وأنها لو فكرت في الموضوع أولا فإنها لن تستطيع الكتابة مطلقا. وأضافت: ‘في كتابة الشهر لا أقرر أنني سأكتب اليوم أو غدا قصيدة معينة، فالأمر لديَّ يشبه تماما فترة الحمل ثم الولادة. فكل الحالات التي تحيط بنا: أوجاعنا، آمالنا، مواقفنا وما إلى ذلك كلها تسكنني وتتجمع بداخلي فتخرج مني كجنين وهي القصيدة التي تكون كائنا مختلفا محملا هو أيضا بآثار أخرى’.
وأضافت الشاعرة أن الموضوع يمكن تلمسه من خلال المجموعة الشعرية ككل وليس من خلال قصائد يتيمة. وقالت إنها لا توظِّف الشعر بشكل كبير في التزامات معينة ولا تستطيع أن تحمِّل الشعر أكثر مما يحتمل.
وللإشارة فالشاعرة عائشة أرناؤوط من مواليد دمشق عام 1946، حصلت على البكالوريا عام 1965، وأهلية التعليم عام 1966، وليسانس الأدب الفرنسي من جامعة دمشق عام 1977، ودبلوم الدراسات المعمقة من السوربون عام 1985، ودبلوم في البروتوكول من باريس عام 1991. حضرت عدة دورات في السمعيات والبصريات والتلفزيون في دمشق وباريس، وهي عضو اتحاد الكتاب العرب. بدأت النشر في الصحف والمجلات الأدبية منذ العام 1960، قدمت بعض قصائدها في المحطات الإذاعية العربية. شاركت في عدَّة ندوات ومهرجانات شعرية عربية ودولية في أمريكا وألبانيا وتونس وفرنسا وإيطاليا ثم الأردن.
إلى جانب مجموعاتها الشعرية الصادرة بين أعوام 1981 و2003 صدر لها ديوان باللغة الفرنسية بعنوان ‘مشروع قصيدة’ عام 1979، كما ترجمت أشعارها إلى الإنكليزية والفرنسية واليوغسلافية والألبانية، وأسهمت هي أيضا في ترجمة بعض الأعمال الشعرية إلى اللغة الفرنسية من بينها ديوان للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي.
القدس العربي