زمن الصحافة الحزين
بلال خبيز
لم يحصل أن حصل معلق سياسي في صحيفة أو وسيلة إعلامية ما على شعبية تضاهي شعبية أي سياسي مهما كان مغموراً أو ناشئاً، الصحافي بحسب طبيعة عمله أشبه بالغراب، يحذر من الكوارث ولا يألو جهداً في محاولة توقع الأقرب منها والأخطر. ذلك أن أول القطاعات المهنية والاجتماعية، واستطراداً، السياسية، التي تعطلها الكوارث تتصل بميدان الإعلام. فالاحتلالات غالباً ما تلجأ أول ما تلجأ إلى إسكات صحافة المحتل، وأول ما يهتم له قادة أي انقلاب هو احتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون، فضلاً عن أن الدمار في البنى التحتية الذي ينشأ بسبب الحروب أو سوء الإدارة يصيب انتشار الإعلام في مقتل لا راد له.
فالوسائل الإعلامية الحديثة لا يمكن أن تستمر في أداء أدوارها إلا إذا توافرت في المجتمع الذي تعمل ضمنه بنية تحتية مناسبة، بدءاً من شبكة المواصلات ومروراً بشبكات الهواتف والكهرباء والإنترنت، وانتهاء بأمن التجارة الخارجية. وقد بلغت محنة الإعلام المكتوب في لبنان إثناء الحصار الإسرائيلي الذي أعقب حرب صيف العام 2006، حداً حرجاً، بحيث باتت مهددة بالتوقف ما لم يتأمن خزين من الورق في مستودعاتها على وجه السرعة.
وحيث إن الإعلام عموماً يحذر من الكوارث ويحاول ما أمكنه دفع القوى الاجتماعية إلى تجنب الوقوع في فخاخها، أي الكوارث، فإنه على الأرجح، وفي الأزمان الحرجة سياسياً وأمنياً واقتصادياً يصبح هدفاً للحملات السياسية والشعبية على حد سواء. ذلك أن وظيفة الصحافي تختلف اختلافاً بيناً عن وظيفة السياسي بل تناقضها في معظم الأحيان. ففي وقت يبذل السياسي جل جهده في طمأنة الجمهور ووعده بتحقيق النصر وتثبيت الأهداف إذا ما اتبع الخطوات التي يدعوه لاتباعها، لا يكف الصحافي عن تفنيد دعاوى السياسي هذه والزعم بأن مثل هذه الوعود ليست إلا وعوداً لا تمت لواقع الأمور بصلة وثيقة.
الصحافيون الذين لا يحوزون من المجد السياسي إلا احتمال العيش «في حمى الأمير» بحسب تعبير الراحل ميشال أبو جوده، أحد أهم معلقي الصحف اللبنانية منذ أجيال، يغالبون على الدوام رغبة في التحول سياسيين. ذلك أن كتابة الرأي أو قوله تتحول مسألة في غاية الصعوبة نفسياً ومادياً على حد سواء، إذا كان الرأي لا يجد من يتظاهر في الشوارع من أجل تثبيته، وهذا بطبيعة الحال مما يصح في رأي السياسي والزعيم، لكنه لا يصح في رأي الصحافي، فالناس والجماهير لا تتظاهر دعماً لمقالة في جريدة، مهما كان حظ هذه المقالة من الدقة والإصابة عالياً. لكنها تتظاهر دعماً لرأي زعيم، ولو كان هذا الرأي يفتقد المنطق ويتجاهل الوقائع. لأن الصحافي حذر بطبعه، ويكاد يكون أقرب إلى التشاؤم منه إلى التفاؤل، أما السياسي فلن يحوز نجاحاً أو يجيش أتباعاً إن كان لا يعدهم بالنصر وتحقيق الغايات. الصحافي أمام احتمال حرب ما، يهتم أول ما يهتم للخسائر التي تطاول البلد الذي ينتمي إليه، لكن السياسي يهتم أكثر ما يهتم للخسائر التي تطاول البلد العدو. وفي منطق الطرفين ثمة هوة لا يبدو أن ردمها ممكناً، نظراً لاختلاف أصيل في طبيعة عمل كل من الطرفين، والصحافي أمام كارثة طبيعية يحصي الخسائر والأضرار، لكن السياسي يحصي الناجين والمستفيدين.
بطبيعة الحال، ليس كل الصحافيين ولا كل الصحافة متشابهي الأدوار، فثمة صحافة النظام والسلطة التي يكاد لا يخلو بلد من البلاد من وجودها، وثمة أيضا الصحافة المتحزبة والمقفلة على اعتقاد بعينه لا تبدل فيه الملمات. وفي بلادنا العربية انتشار واسع لهذا النوع من الصحافة، وغالباً ما يساهم هذا النوع من الصحافة في منع الصحافة الأخرى من أداء دورها، وقصر مهمة الصحافي على مديح الحاكم وخططه وأحيانا تقلباته، من جهة أولى وإشعال نار الخصومة مع الصحافة المعارضة وصولاً إلى تحميلها مسؤولية الهزائم والإخفاقات، بل أحياناً مسؤولية اليأس، على ما صرح نائب الرئيس السوري السيد فاروق الشرع إثر انتحار وزير الداخلية السوري اللواء غازي كنعان، حيث حمّل الإعلام اللبناني تبعة هذا الانتحار.
لكن الثابت في أي حال، أن الصحافة لا تستطيع أن تصمد أمام هجوم السياسية عليها، وغالباً ما تفقد الصحافة كل أركان وظائفها حين ينجح السياسي في تحويل جمهوره إلى كتلة صماء، لا تسمع غير كلمته ولا تصغي لغير خطابه، والأرجح أن هذا بعض ما يصيب الجمهور اللبناني المنقسم على نفسه، وبعض الجمهور العربي عموماً. إلى حد أن هذا الجمهور بات لا يرى في الصحافة المعارضة لتوجهات زعمائه إلا غيوماً من العملاء تحجب نور الشمس المجاهدة.
• كاتب لبناني