نظرات في اللوحة الإيديولوجية العربية السائدة
ياسين الحاج صالح
حول ثلاثة محاور استقطاب رئيسية، الدين والدولة والغرب، ارتسمت لوحة إيديولوجية عربية ذات ستة عناصر في ربع القرن الأخير. حول المحور الديني لدينا مزدوجة إسلامية/ علمانية، وحول محور الدولة ثمة مزدوجة سلطوية/ ديموقراطية، وحول محور الغرب ثمة ثنائية قومية/ غربوية. وقد نعرف هذه بأنها التماهي الثقافي بالغرب والانحياز السياسي له، وغالبا ما يدمج هذا التيار في تعريف ذاته العقيدة الليبرالية. والغربوي العربي النمطي ضد الاستبداد والإسلامية معا، مع ميل ثابت إلى اشتقاق ذاك من هذه.
ويشترك طرفا كل ثنائية في تشويش محور الاستقطاب الذي يحددهما أكثر مما في إنارته، الأمر الذي يفقد كلا من التيارات المعنية توازنه ومعناه ذاته. قلما يميز الإسلاميون بين أنفسهم وبين الدين الإسلامي لأن شرعيتهم تقوم بالضبط على تغذية هذا اللبس وإدامته. لكنهم بهذا يتسببون في التشويش على الدين كصعيد اجتماعي عام ومستقل. وللنزعة النضالية المميزة للعلماني النمطي المفعول المشوش الذي تؤدي إليه كل نضالية. والسياسة التي تزكيها هذه العلمانية المجاهدة أقرب إلى الرقابة على الدين والسيطرة عليه منها إلى الدفاع عن استقلاله عن الدولة واستقلالها عنه. يشترك الطرفان أيضا في تسييس الدين واستغراقه في المنازعة السياسية والسجال الإيديولوجي، فلا يبقى منه شيء عام خارجهما. يزول الدين كأحد أركان الاجتماعي، بقدر ما يبدو محتلا أقطار التفكير كلها. المحصلة أن المحور يضيع في الاستقطاب الإيديولوجي المتكون حوله. ما هو الدين؟ ما هو الإسلام؟ هل هو دين في التاريخ؟ هل يسلك بصورة مختلفة عن غيره من الأديان؟ لا يكاد يجد المرء شيئا في هذا الصدد، ليس عند الإسلاميين والعلمانيين على أية حال. هذا الإغفال يحيل إلى إغفال أكبر: مسألة إنتاج المعنى. الإسلاميون يفترضون المعنى معطى وناجزا ونهائيا، الإسلام ذاته؛ والعلمانيون يردون العلمانية إلى إجراء خلو من المعنى. نفترض من جهتنا أن المعنى الذي لا تقوم حياة اجتماعية دونه يتكون عبر الصراع في هذا المجال.
مثل ذلك ينطبق على الثنائية السلطوية والديموقراطية المتكونة حول الدولة. هنا أيضا للفريق السلطوي مصلحة في تعميم الالتباس بينه وبين الدولة لأن شرعيته تقوم على ذلك. لكنه بهذا يتسبب في زوال فكرة الدولة كصعيد عام أيضا. ورغم أن الديموقراطيين يميزون عموما بين الدولة والسلطة، ولا يندر أن يقرنوا الديموقراطية بالدفاع عن الدولة التي يرى إليها كصالح عام، إلا أن الطرح الديموقراطي الأشيع سياسوي، مفرط الانشغال بمسألة السلطة ونافد الصبر حيالها، ومنفصل عموما عن مسألة بناء الأمة وعن قضايا الدين والبنية الاجتماعية. فكرنا السياسي فقير، ونركن عموما إلى اعتناق مذاهب جاهزة بدل التدرب على التفكير الحي والمتجدد. وهزال التفكير في الدولة يقودنا هنا أيضا إلى غياب فكرة إنتاج السلطة. السلطويون مكتفون بما لديهم، ويميل الديموقراطيون عموما إلى تصور الديموقراطية كتوزيع للسلطة أو فقط كتقييد لها. أما تصور أن ندرة السلطة تغري باحتكارها، وأن الديموقراطية تقتضي بالأحرى وفرة سلطوية، أي انتشارا أكبر لسلطة الدولة واحتكارا للسيادة ومزيدا من القواعد والضوابط العامة وانضباطا أكبر للأجساد والإرادات، فخارج أفقنا الفكري.
على النسق نفسه تتشوش فكرة الغرب. الغربويون يطابقونها بأنفسهم على نحو ما يفعل الإسلاميون حيال الدين والسلطويون حيال الدولة، وللسبب نفسه أيضا، أي لأغراض الشرعية الخاصة بهم. أما القوميون فيجنحون عموما إلى تعريف أنفسهم بدلالة الغرب (الأمر الذي يؤول بالأكثر تشددا منهم إلى الإسلامية التي لمناهضتها للغرب محتوى إيجابي، وإن يكن ماضويا، يفتقر إليه القوميون)، لكنهم إذ يفرطون في تسييس الغرب يغفلون عما فيه من عام وعالمي. وهو ما يثمره أيضا زج الغربويين له دون تمييز في الصراع ضد القوميين أو عامة خصوم الغرب. أكثر من كون «الغرب أغراباً» على قول غسان سلامة، هو صعيد عالمي، علامة عالميته تركيبه وكثرته واختلاطه و»وجوديته» (نقيض ماهويته)، وعقلانيته. يخطئ القوميون حين يتصورون أن مشكلتنا مع الغرب تحل بأن يرجع إلى مكانه وجهته، ويتركنا بحالنا. هذا لا يحسن إلينا ولا إليه. مشكلتنا الغربية لا تعالج بغير انخراط أوسع في العالم من قبلنا، مع الغرب وإلى جانبه وبالتفاعل معه وضده. نحن متغرّبون سلفا، ونسهم منذ الآن في عولمة الغرب، ليس بشريا فقط. لكن تفكيرنا مقصّر دوما عن الإحاطة بعمليات واقعية لا تكف عن تغيير وضعنا، وليس نحو الأسوأ.
تشترك ثنائيات هذه اللوحة في صفتها الاستقطابية المفرطة التي تولد أسوأ الأوهام وخرافات النقاء الاستبدادية. لا العلمانية موجودة خارج الإسلام مفهوما كعالم اجتماعي وفكري وسياسي، ولا الإسلام موجود خارج العلمانية كمنطق للعالم المعاصر. ولا الديموقراطية موجودة أو ممكنة خارج الدولة الاستبدادية، ولا هذه متخارجة كل التخارج مع منطق الديموقراطية التي تكاد تكون تعريفا للسياسة بما هي كذلك في عالمنا المعاصر. وليس الغرب خارجنا ولا نحن خارجه. افتراضات التخارج دعامات لعصب وهويات تتأهب للانقضاض على أعناق بعضها، وخطط للحرب الشاملة.
تشترك أيضا في اقترانها بشحنات انفعالية حادة لا تخطئها العين في السنوات الأخيرة. الكثير من الضغينة والعداوة والغضب والكيد والتكاره العام. لا شيء يسوغ هذا الفائض الانفعالي الذي يقوض التفكير والسياسة والدين والثقافة من الأساس. وبموازاة الانفعالية المشبوبة، تتخفف التيارات المعنية من حمولتها الفكرية والقيمية المفترضة، فلا تجد غير قليل من طمأنينة الإيمان عند الإسلامي، وقليل من الروح العلمانية عند العلماني، وغير قليل من الديموقراطية عند الديموقراطي، وأقل من مبدأ الدولة عند السلطوي، والقليل جدا من روح التضامن عند القومي، وما لا يكاد يذكر من الغرب عند الغربوي. هذا ربما يشير إلى حدة الصراع السياسي والفكري والاجتماعي بين التيارات المعنية، الصراع الذي يخاض في النفوس والأرواح لأنه لا يتاح لها أن يخاض في مجالات عامة مستقرة وبوسائل متعارف عليها. هناك فائض من العنف الرمزي والنفسي يتحين الفرص للتفجر إلى عنف مادي مميت.
نلاحظ، ختاما، سقوط محور استقطاب كان له عزٌَ في أوقات سابقة، المحور الاقتصادي. كانت تشكلت حوله ثنائية رأسمالية/ اشتراكية، استقطابية مثل غيرها، تفرط في تسييس الاقتصاد فيزول مفهوم الثروة كصعيد عام، وتهمل مسالة إنتاج الثروة وتنشغل كثيرا بالتوزيع مثل غيرها أيضا. فكان أن أنتجت غير قليل من الخرافات السياسية، كما غيرها.
لا مجال لمحاولة شرح تنحي هذا المحور. لكن تذكره مناسبة للتساؤل عن «السر» في غلبة المذهبية في تفكيرنا وتفضيلنا الطرق المأمونة. غير أن هذه سيرة أخرى.
خاص – صفحات سورية –