صفحات ثقافية

حراســـة النســـيان

null
عباس بيضون
تبدو الرقابات الحكومية العربية مضحكة لدرجة تدعو أحيانا للرثاء لها، في هذا مفارقة، فقد بلغ من أمر الرقابات والحكومات نفسها أحيانا أن نشفق عليها. في مصر تناط الرقابة بعمال المطابع إن لم تكن في عهدة الأزهر، اما في ما يتعلق بالدولة فصحة رئيس الجمهورية هي الغاية. في سوريا يطبع في بيروت ما لا يجوز طبعه في سوريا ويدخل في طبعته البيروتية اليها فلا تكون الحكومة في حرج، أما في السياسة فللشدة ساعة والتراخي ساعة والعاقل من يحسن التقدير ويحفظ رأسه في ساعة البؤس. في العراق يناط الأمر بجيوش الله. في الأردن، في تونس الأمر سواء.
أما في لبنان حيث الدولة أضعف الجميع فهي تقوم بالرقابة عن الجماعات كلها ولحسابها كلها وهذه وظيفة معقدة. الحكومة في عهدة المفتين والمطارنة والمشايخ وان تضاربت أوامرهم أحيانا، تمنع كود دافنشي مقابل منع كتب الصادق النيهوم المصلح الإسلامي. ان تكن الكنيسة فتحت موقعا في الانترنت لمناقشة كود دافنشي فهذا لا يعنينا. في لبنان واحدة بواحدة والطوائف والمقامات التي تتحاصص الوظائف لا بد من ان تتحاصص المنع والعزل.
ليس للحكومة حساب خاص، وأركانها يصدون عن أنفسهم بسلاحهم اذا وجد. ليس لها قضية خاصة، لذا يمكنها أحيانا ان تقدم للطوائف الخدمات التي تترفع عنها. ان تتحول الى مكتب للمهمات غير المجزية او في أحسن الأحوال، وكالة أخلاقية او تربوية. لا تملك الدولة تجاه المجتمع الأهلي أي سلطة جدية. الطوائف تتحاجز وتتصاد وتتصارع مباشرة بدون وساطتها بالطبع، لكن يمكنها عند الطلب ان تتحول إلى لقاء تذكاري لها وحتى إلى غنيمة لتناهبها. تستطيع الدولة مع ذلك ان تدعي النيابة عن مجتمع متخيل او مستقبلي وتطلب من الفئة الوحيدة التي ليس لها سياج طائفي ولا تورط طائفي ان تتبرأ من طائفيتها. أما صك البراءة فهو ان لا ترى ولا تسمع. تتنابذ الطوائف وتواصل حربا أهلية بالألفاظ وغير الألفاظ. يغدو التحريض الطائفي والحقوق الطائفية فاتحة كل كلام، وينجو القتل الطائفي نفسه من أي مداعاة، لكن على الكتّاب والفنانين ان لا يروا ولا يسمعوا، وان يكونوا براء من الطائفية حين لا يعرفونها، كن جميلا ترَ الوجود جميلا. كن لاطائفيا كي لا ترى الطائفية. انها تغدو حقيقة لمجرد الاعتراف بها وفي غير ذلك فنحن في الجنة. المسألة بسيطة. الناس سادرون في طائفيتهم هم ورؤوسهم وأذنابهم، لكن عبارة في فيلم، جملة مما يمضغه الناس كل يوم، فكرة مما يعشش في الرؤوس، لزوم ما يلزم لفيلم او رواية تولد في هذا الواقع ولا تنبت في المريخ. عبارة كهذه وحدها تثير النعرات، انها تنقلها من المجهول إلى المعلوم. انها تسجلها فلا يمكن بعد انكارها، انها تجعلها مكتوبة او مصورة فتغدو هكذا شهادة لا يمكن الرجوع عنها. عبارة واحدة فقط فتوجد الحرب وتوجد النعرة اما قبل ذلك فتوجد الجريمة الكاملة، لا أحد رأى. لا أحد سمع، ولا شاهد ولا شهادة، قتل الشهود تتكفل به الدولة، انها حارس النسيان. لقد وجدت أيضا سبباً آخر لوجودها: تكذيب الواقع ليس براءة بالكامل. انها خدمة غير مدفوعة لكنها خدمة للطائفيين الذين يودون ان يستكملوا عملهم على مهل. يريدون ان لا يقاطعهم أحد. ان لا تكشفهم كاميرا أو كلمة. يريدون أن يدفنوا جريمتهم بدون شاهد. يريدون أن لا يمسك أحد عليهم أي قرينة، سيبقون بالطبع سادرين في عملهم الذي يزداد شناعة مع الوقت، ولن يحاكم الا أولئك الذين رأوا والذين تذكروا والذين تكلموا.
لا تحتاج الطائفية ولا النعرات إلى من يثيرها. يحتاج الفن والأدب إلى الحقيقة، يحتاج الفن والأدب والثقافة إلى الحقيقة، فيما يريدون لها ان تبقى للتحلية. قبل الاستقلال لم يوفر الكتاب اللبنانيون كنائسهم ورؤساء ديانتهم ولم يوفروا الدين نفسه، لقد اقتحموا ما كان قدس أقداس، ولم يمنعهم ثوب ولم تمنعهم حصانة. هذا في الواقع فخرنا وهذا هو القليل الذي يبقى. لا توجد الثقافة ولا الفن بدون سؤال او بدون هم. الدولة اليوم صورية وتريد للثقافة ان تكون صنوها. الدولة مكتب خدمات وتريد للفن ان يكون مثلها. تريد للسينما وللأدب ان يغدوا بلا شهادة ولا نظر. يمكن ان تضحك من خيال الدولة لكنها قادرة على من لا يقدر. يمكننا ان نسأل الأمن عن سجلات مدفونة لكن له صوله على من لا يصول ولا يجول، في الهامش ايضاً يمكن أن نسمع ضجة. أن يعدو الضعيف على من هو أضعف منه. لن نعيد ما قيل عن لاجدوى الرقابة امام التكنولوجيا الحديثة. تحتاج الدولة إلى تصديق نفسها، تحتاج إلى أن توجد بفعل رمزي. تحتاج إلى اعتراف ولو من هوامش. حين ينكرها أركانها ويكذبها أصحابها لن تجد سوى أن تشارك في الدفن. أفضل أن لا نرى الجريمة فهي بذلك قد لا توجد، أفضل أن نشارك في اهالة الرمل. إن لم تحكم لا تعدم أن تجد وظيفة، ان تكون حارساً للنسيان.

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى