قراءة «عربية» لأسباب الانبهار بخطاب باراك أوباما في القاهرة
طلال سلمان
حرم الرئيس الأميركي باراك أوباما «العرب» من التباهي بآخر ما تبقى لهم من «مزايا» وهي «الفصاحة» … فلقد تبدى، حين وقف أمامهم خطيباً في جامعة القاهرة التي عرف منبرها بعض من أعادوا الاعتبار الى الأدب العربي، أفصح ليس فقط من حكامهم الذين لم تعرف عنهم البلاغة، بل كذلك من معظم كتابهم ونقادهم وشيوخهم ملوك المنابر!
وهو كان صريحاً الى حد الفظاظة حين أعلن قبل أن يباشر «رحلته الشرقية» أنه آت لمخاطبة المسلمين، لا العرب، وانه اختار القاهرة كمنبر لا كمركز للعالم العربي أو حتى للعالم الإسلامي، مفاضلاً في هذا الخيار بين «الأزهر الشريف» و«الدرعية» منطلق الدعوة الوهابية التي على ركائزها أقيمت المملكة العربية السعودية بحد السيف.
وكان طبيعياً أن تبهت القضايا ذات الطابع القومي (أي العربي) في حديث عزز بقوة البعد السياسي في «الحوار بين الأديان»، الذي استحدث أخيراً لتمويه الأبعاد الوطنية (الفلسطينية) والقومية (العربية) في الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
وليس ذنب باراك أوباما أن يكون العرب قد استقالوا من عروبتهم فغدوا أشتاتاً بلا هوية جامعة، لأن الدين ـ هنا ـ ليس عامل توحيد بالمعنى السياسي، بل ان التركيز عليه يخدم الدعوة المستجدة الى اعتبار إسرائيل دولة لليهود، فيها بعض الأقليات غير اليهودية، كما «الأقباط في مصر والموارنة في لبنان».
فلا تكفي القيافة العربية (ولبس عباءة وتقر عيني!! ومعها الكوفية والعقال) لكي نثبت للرئيس الأميركي الضيف أنه في بلاد عربية بهمومها وقضاياها وطموحاتها وعلاقاتها المعقدة مع بلاده ـ الإمبراطورية الكونية.
بهذا المنطق يصبح بديهياً أن يستهل الرئيس الأميركي الضيف حديثه أمام مضيفيه العرب المزدهين بوجوده بينهم، والمبهورين بوسامة طلعته السمراء وإشارته السريعة الى شيء من الإسلام في نسبه، باستذكار «المحرقة» في ألمانيا النازية ضد اليهود لتبرير «حقهم» في إقامة دولتهم على أرض فلسطين، البعيدة آلاف الكيلومترات، وعلى حساب شعبها العربي الذي كان فيها دائماً ومنذ آلاف السنين.
ليس أبهى من هذا التبرير الإنــساني لجـريمة لم يشهد لها التاريخ مثــيلاً: طرد شــعب كامل من أرضه بقوة المذابح المنــظمة والتهجير الجماعي بنسف البيوت وقتل الرجال والنساء والأطفال، وتهديم البلدات والقرى، لإحــلال جماعات من البشر كانت مستقرة في أوطانها البعيدة ولها حقوقها فيها … ومع تفجــر المنــطقة التي زرع فيها الكيان الغريب بالقوة، يأتون ليطالبوا أهلــها الــذين كانـوا دائماً أهلها، والتي تزلزلت كياناتها واضطربت أوضاعها وضاعت عن طريقها الى مستــقبلها، ليطالبوها بأن تقدم حلاً لمسألة لم يكن لهــم رأي فــيها، ولا هم كانوا قادرين على تجنب ما نجم عنها من كوارث.
[[[
لنعترف: لقد حقق الرئيس الأميركي نجاحاً غير مسبوق في إطلالته العربية، فأسقط بضربة واحدة الصورة التقليدية للأميركي البشع التي جعلها سلفه جورج و. بوش حقيقة نهائية في أذهان العرب والمسلمين ومعهم سائر الشعوب في مختلف أرجاء الدنيا.
جاء المبشر الأسمر بملامحه الوسيمة وطلاقته المبهرة وحضوره اللافت مستهلاً رحلته بالكلمة ذات الرنين الديني «السلام عليكم» بديلاً من الكاوبوي المفتري على الشعوب بحروب التدخل المدمرة للكيانات وللوحدات الوطنية (العراق نموذجاً)، المتورط في دعم حروب التوسع الاستيطاني الاستعماري المنهجي لإسرائيل في الأرض الفلسطينية وما جاورها (حتى لا ننسى حرب تموز 2006 ضد لبنان).
وهو قد باشر حديثه بما يشبه النقد الذاتي لسياسة بلاده ضد الشعوب الإسلامية، معترفاً ببعض عيوبها، طالباً من ضحاياها مساعدته على إصلاحها.
ولأن العرب ـ في صورة حكامهم ـ منقسمون، مفككون، يفتقدون في أنفســهم الجدارة لأن يقرروا فيحموا أرضهم ومصالحهم المشروعة، فإن مثل هذا الخطاب ينعشهم، إذ يعيد إليهم بعض الاعتبار.
ربما لهذا ظل خطاب الرئيس الأميركي بلا مقابل عربي: كان العرب في موقع المتلقي، المصفق، المهلل، المكبر، المبهور … أو المعلق في أحسن الحالات!
لم يعرف المواطن العربي ماذا قال قادتهم للرئيس الأميركي رداً على ما سمعوه منه، وما اذا كانوا قد اقتنعوا بما عرضه عليهم، وكفى المؤمنين شر القتال، أم إنهم ناقشوه فاضطروه لأن يعدل أو يبدل عندما سيعمد الى صياغة خطابه على شكل مقترحات أو مشروع حل لأزماتهم التي يبقى عنوانها «إسرائيلياً» طالما استمر تغييب حقوق الشعب الفلسطيني البديهية في أن تكون له دولة حقيقية وقابلة للحياة ولو على بعض البعض من أرضه، التي تذوب إسرائيل ما تبقى منها عبر سلسلة المستعمرات الاستيطانية التي تستقدم لها آلاف آلاف المستوطنين من أربع رياح الأرض فتخلق أمراً واقعاً يصعب تغييره إلا بمسلسل من الحروب التي لا تنتهي.
وليس سراً أن كثيرين من أهل النظام العربي باتوا يضيقون ذرعاً بالقضية الفلسطينية، وهم مستعدون للمساعدة على «التخلص» منها إذا ما قدم لهم «عرض لا يمكن رفضه»، بشرط أن يضمن لهم ـ مع السلامة ـ إشاعة الوهم بأن حلاً مقبولاً هو في الطريق الى شعبها المشرد … قبل أن تصادر إسرائيل آخر دونم من الأرض التي كانت من حصة الفلسطينيين في مشاريع «الدولتين» التي صار الحديث عنها مضجراً، مع غياب الجدية (فضلاً عن القوة ) اللازمة لتحقيقه.
إذاً فقد نجح أوباما وسقط العرب مرة أخرى!
وهم لم يسقطوا فقط من خطابه ليحل محلهم «المسلمون»، وهم غير العرب، وليست فلسطين ـ على قداستها ـ قضيتهم المركزية الضاغطة على أنظمتهم المتهاوية وعلى طموحات شعبوهم الى التقدم والمنعة والديمقراطية… بل انهم أسقطوا أنفسهم من احتمال الرد عليه بما يحمي ويصون الحد الأدنى من حقوقهم التي عنوانها فلسطين ومصير شعبها.
يمكن لهم أن يدّعوا أن الرئيس الأميركي قد أشار الى «المبادرة العربية» بغير أن يتبناها، ثم أن يفترضوا انه لم يسقطها كمشروع قابل للنقاش، ويمكن لهم أن يتعزوا بردود الفعل الاسرائيلية الغاضبة والشاجبة لطروحات باراك أوباما، حتى وهي مجرد عناوين ولم تتخذ بعد الصياغة الكاملة لخطة عمل سياسية تتبناها الإدارة الأميركية وتعمل لتحقيقها.
لكن ما لا يجوز أن يغيب عن الذهن أن العرب غير حاضرين بالحد الأدنى من التماسك أو القوة أو التضامن اللازم لتحويل ذلك الخطاب المبهر في صياغته الى خطة عمل جدية تلتزمها إدارة أوباما كسياسة رسمية محصنة بما يكفي لمواجهة الاعتراضات الإسرائيلية الجدية … خصوصاً أننا نعرف بالتجربة المكلفة أن أية إدارة أميركية ليست مستعدة لأن تخوض صراعاً مفتوحاً مع إسرائيل للدفاع عن حق لا يبدو أن أهله (العرب) مستعدون للقتال من أجله، وبكل ما ملكت أيمانهم.
من السذاجة طبعاً أن نفترض أن إدارة أوباما ستذهب الى الحرب مع إسرائيل في حين ان بعض أهم الدول العربية قد عقدت معاهدات صلح معها، وأن البعض الآخر من الدول ذات الأهمية تواصل طرح عروض الصلح مع الوعد بأن تستقدم إليه أيضاً الدول الإسلامية، إذا ما وافقت إسرائيل على مناقشة، مجرد مناقشة المبادرة العربية للسلام التي طرحت على الطاولة قبل سبع سنوات فلم تحظ ولو بقراءة إسرائيلية جدية تمهد ـ أقله ـ لمناقشتها.
إن المبالغة في التصفيق لخطاب باراك أوباما تكشف هزال الخطاب العربي الرسمي، وتكشف مدى التهافت العربي على أي عرض أميركي يقدم، وبالتالي يكشف عمق اليأس العربي من النظام العربي الذي لم يعد يملك ما يقوله لشعوبه التي ضاع منها حاضرها فباتت أعجز من أن تستنقذ مستقبلها.
وهناك مفارقة لا يمكن إغفــالها: ان حــكام العرب قد كفوا، منذ زمان طويل، عن مخاطبة شعوبهم بصراحة ولو موجعة، وعن إطلاعهم على حقيقة مواقفهم من مشكلاتهم وأزماتهم المستعصية.
وهم قد رحبوا بخطاب الرئيس الأميركي لأسباب عدة، لعل أبرزها أنهم استمعوا الى من يستذكر إنجازات أجدادهم فيشيد بإسهامهم في صنع الحضارة الإنسانية، فرأوا في ذلك تعويضاً عن عجزهم في الحاضر عن الإكمال، وهنا بالضبط مكمن العيب في حكامهم الذين لا هم صنعوا حاضراً يليق بشعوبهم ولا هم حفظوا من الماضي إلا الآثار التي يمكن للسياح أن يتصوروا الى جانبها، فتتجلى المفارقة كالفضيحة: هم صناع المستقبل ونحن في الماضي ومنه، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!
وبديهي أنه لا السلطان حـسن (المملوكي) ولا خوفو (الفرعوني) قادر أو هو مطالب بإنجاز ما يفترض أن ينجزه حكام اليوم، ولبلادهم مباشرة قبل الحديث عن بلاد سائر العرب وعنوانها فلسطين.
السفير