كلمات أوباما وحروفه
موفق نيربية
على الرغم من الجملة الفرحة بذاتها، التي تعلّق بها البعض حول الكلام والأفعال، بعدَ وحتى قبلَ خطاب أوباما، فلا بدّ أن العرب والمسلمين قد سحرهم هذا «الخطيب» الماهر الشجاع بتحديه لهم في عقر دارهم، حيث تزدهر صناعة الخطابة وتجلجل أصداؤها في الفراغ والركود. «لم ينظر في ورقة!» قال أناسٌ في الشارع باندهاش، ولاحظت النيويورك تايمز أنه صاغ خطابه كما لو كان «خطيب جمعة».
يمكن للخطاب أن يكون أساساً للعودة بالولايات المتحدة إلى وضعية الدولة العظمى الفريدة، التي لا تدخل في صراعات الشوارع على طريقة الشوارع وفلسفتها. ومن الناحية السياسية، ربما كان الأكثر أهمية في الخطاب تعبير «من جانب آخر…» الذي وصل ما بين المحرقة والمأساة الفلسطينية: الاعتراف بالاثنتين، وبوجود الشعبين، وحل الدولتين. ومن ناحية الفهم والتفهم، ربما كان مهماً قوله «إن شطراً من مسؤوليتي كرئيس للولايات المتحدة أن أحارب التنميط السلبي للإسلام أنّى ظهر. لكن هذا المبدأ نفسه ينبغي أن ينطبق على نظرة المسلمين إلى أميركا، تماماً كما المسلمون لا يتوافقون مع نمط بسيط، فإن أميركا لا تتوافق مع نمط بسيط لإمبراطورية لا تهتم إلا بذاتها».
الصعوبة ستأتي على الأرض، في شروطٍ معقدة، مع حكومة إسرائيلية متطرفة، وأوضاع بائسة تتيح بدورها للتطرف لدينا أن يتقدم ويبدو حلاً طبيعيا، مع حكومات تعتبر القضية الفلسطينية مبرر شرعيتها اللازم الكافي. عشية مغادرته بلاده، أعاد أوباما التأكيد على متانة العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، وقال إنه «يعتقد أنها ديمقراطية حيوية تشاركنا الكثير من قيمنا». وطالما هنالك تهديدات من قبل الآخرين لأمنها، فإن الولايات المتحدة تشعر أن «من الضروري دعم الحليف الراسخ». لكنه قال أيضاً «إن الاتجاهات الحالية في المنطقة سلبية بشكل عميق، ليس لمصالح الإسرائيليين فحسب، بل أيضاً لمصالح الولايات المتحدة. ذلك جزء من الحوار الجديد الذي أود أن أراه يتقدم في المنطقة».
لكن للتطرف الإسرائيلي منطقه المختلف، فابتدأ الصدام قبل الزيارة، مع تأكيد أوباما وكلينتون على ضرورة وقف الاستيطان، العشوائي وما يعتبرونه توسعاً طبيعياً للمستوطنات القائمة.
ردّ على هذا- مثلاً- معلّق أميركي متطرف بدوره، وقال ساخراً:
«لا بدّ أن هنالك استراتيجية لامعة هنا في مكانٍ ما، ولكن من الخارج، لا يبدو واضحاً إلى أين تقود المواجهة مع إسرائيل. فيمكن تخيّل أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قادر على الاستمرار بتجميد إنشاء المستوطنات الجديدة، لكن ليس من المحتمل أن يكون قادراً على وقف «التوسع الطبيعي» للمستوطنات القائمة، من دون أن تسقط حكومته في الوقت نفسه. ومن المشكوك فيه أن تستطيع أي حكومة إسرائيلية أخرى مثل ذلك. فربما إذن تحاول إدارة أوباما إسقاط حكومة نتنياهو… أو تغيير النظام»!
«… إذا لم تستطع إسرائيل أو لم ترغب بالتسليم بذلك، ماذا تكون خطوة إدارة أوباما التالية؟ إن تراجعت عن طلباتها، تثبت أنها عاجزة أمام التصلّب الإسرائيلي، ومن ثم يُفترض أنها تُضعف موقفها الداعم أمام العرب. لكن، إذا لم تتراجع، ما هي صيغ العقوبات التي ستفرضها لتليين عناد إسرائيل؟ هل ستفرض حظراً عليها في الوقت الذي تعرض فيه رفع الحظر عن إيران؟».
استدعى هذا التعليق عشرات الردود في بريد الواشنطن بوست منذ أيام. ويلفت الانتباه فيها منطق بعض دعاة الحزب الديمقراطي، فتحوّلهم إلى تأييد عدالة القضية الفلسطينية عودة للأمور إلى نصابها، بعد أن كنا نرى الأطراف اليمينية وممثلي الشركات النفطية والعسكرية الكبرى أقرب إلينا، كما كان بعض أسلافنا يرى النازية.
من الجيد أن يبدأ أوباما بتغيير أسس العمل على العقدة القديمة التي تبدأ بحرف الفاء: فلسطين. لكن دعم الولايات المتحدة للاستبداد «الشرقي» لعشرات السنين، يجب أن يحفز للانتباه جيداً إلى حروف أخرى، كالدال للديمقراطية، أو الحاء للحرية أو حقوق الإنسان، والتاء للتنمية والتقدم. فالقضية الفلسطينية سبب من أسباب التطرف والتخلف، لا كلها. فيها تشترك الشعوب مع حكوماتها، بدوافع مختلفة، لا يمكن تظهير الفرق بينها إلاّ باستخدام الروائز الأصيلة. هنا قد نتسامح مع شحّ الكلمات قليلاً… حتى لا يتهمنا البعض بأننا نتدخل في شؤون بلادنا الداخلية. فهل تستطيع إدارة أوباما أن تجمع بين تحقيق المصالح الأميركية ببراغماتية أيام الحرب الباردة، وتحتفظ بحرارة وإخلاص المؤمنين بضرورة حرية الإنسان وحقوقه البديهية المشروعة؟ «هذه ليست قيماً أميركية فحسب، إنها حقوق إنسانية، لذلك سوف ندعمها أينما كانت»… مع البراءة من النموذج العراقي.
وتختلف «الكلمات» أحياناً عن تلك التي استنكرها هاملت، في الدانمارك التي يعمّها النفاق والفساد والنهب والقمع… في تراجيديا شكسبير.
* كاتب سوري