الهولوكوست ونقائض تراث العداء لليهود في أمريكا
صبحي حديدي
ثقاة وزارة الخارجية الأمريكية، من أهل الإختصاص بشؤون العالم المسلم وشجونه، وهم في الآن ذاته خبراء الشرق الأوسط الكبير، كانوا يستقرئون مفاجأة الإنتخابات النيابية اللبنانية، ويتطلعون إلى مفاجأة تالية في الإنتخابات الرئاسية الإيرانية (خصوصاً وقد أعلنت قيادة ‘الحرس الثوري’ خشيتها من اندلاع ‘ثورة مخملية’، واستعدادها لسحقها تماماً في المهد!)، حين أتتهم مفاجأة من طراز خاصّ، وقعت في العاصمة الأمريكية واشنطن هذه المرّة: المواطن الأمريكي جيمس فون برون، 88 سنة، أبيض البشرة، النقيب السابق في البحرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، الحائز على أربع نجوم تقدير بسبب بسالته في القتال، حامل البكالوريوس في الصحافة، وعضو جمعية Mensa التي تزعم أنها تضمّ الـ 2′ الأذكى في الولايات المتحدة… هذا الرجل اقتحم متحف الهولوكوست في قلب واشنطن، على مرمى النظر من البيت الأبيض، مدججاً ببندقية، وأطلق النار، فجرح عدداً من حرس المتحف، وأودى بحياة أحدهم، قبل أن يخرّ هو نفسه صريع طلقاتهم.
المعلومات التمهيدية تقول إنّ الرجل لم يكن يخفي أفكاره الكارهة لليهود، وهذا ما يلمسه المرء دون عناء عند زيارة موقعه الشخصي على الإنترنت (الذي باتت زيارته اليوم شبه مستحيلة، بسبب التعتيم عليه من جانب المخدّم على الأرجح، أو سلطات الـ FBI)، وقراءة بعض كتاباته، وبينها مقالة بعنوان ‘خطأ هتلر الأسوأ: أنه لم يحرق اليهود بالغاز!’، على سبيل المثال الأوضح. لديه، كذلك، كتاب بعنوان:
Tob Shebbe Goyim Harog، مستمدّ من عبارة شهيرة جاءت في التلمود، وتُنسب إلى الحاخام شمعون بن يوشاي، تقول بالحرف: ‘أقتلوا حتى الأخيار في صفوف الوثنيين اللايهود’، والتي تبدو ـ إذا انتُزعت من سياقاتها التاريخية والحربية الصرفة، كما يساجل بعض فقهاء التلمود ـ دعوة صريحة إلى الإبادة الجماعية.
الجانب الثاني في أفكار فون برون يخصّ اليقين ـ الذي تشترك فيه فِرق أمريكية عديدة، بأنّ المصرف المركزي الأمريكي، أو الإحتياطي الفدرالي، ليس سوى مؤامرة يهودية صرفة لإحكام القبضة المالية، وبالتالي السياسية، على مصائر الولايات المتحدة. ولهذا قام فون برون نفسه، في سنة 1981، بمحاولة ‘وضع الخونة من هيئة حكّام الإحتياطي الفدرالي، قيد الاعتقال القانوني، غير العنيف’ حسب تعبيره، فحاكمته ‘هيئة محلّفين زنجية’ و’هيئة ادعاء يهودية/زنجية’، وحكم عليه ‘قاض يهودي’ بالسجن 11 سنة، كما أنكرت عليه حقّ الإستئناف محكمة ‘يهودية/بيضاء/سوداء’… وبالطبع، هذه السلسلة من الإتهامات المضادّة، وسواها ضدّ كارل ماركس والنظام النقدي وقبيلة الخزر والزنوج والتوراة ووسائل الإعلام… لا تدلّ على تضخم واضح في حسّ البارانويا فحسب، بل هي كاشف صريح على عنصرية فون برون التي لا تكاد توفّر أحداً من غير البيض، الآريين منهم على وجه التحديد.
لكنّ الرجل، على نقيض ما حاولت أن توحي به وسائل الإعلام الأمريكية، ليس حالة ‘منعزلة تماماً’، سواء على المستوى الفردي، أو حتى ضمن نطاق منظمته التي يطلق عليها اسم ‘إمبراطورية الغرب المقدّسة’، بل يندرج في تراث أمريكي واسع ضارب الجذور، لعلّ ‘جبهة العاصفة’ Stormfront هي أفضل تعبيراته اليوم. وهذه المنظمة أطلقها سنة 1994 على شبكة الإنترنت، دون بلاك القيادي السابق في منظمة Ku Klux Klan العنصرية، ثمّ القيادي في ‘حزب البيض القومي’ الذي كان اسمه ‘الحزب النازي الأمريكي’ حتى العام 1967. وتقول أحدث الإحصائيات إنّ عدد زائري الموقع ارتفع من 5000 سنة 2000 إلى 52,500 سنة 2005، كما أنّ أعداد المنتسبين الجدد إلى هذه المنظمة تجاوزت الـ 2000 بعد وقت قصير من إعلان فوز باراك أوباما في الإنتخابات الرئاسية.
لكن الأمر لا يقتصر على التبشير العقائدي، ففي أمريكا اليوم الآلاف من المسلّحين المدرّبين الذين يشكّلون الذراع العسكرية الضاربة لعشرات الميليشيات الدينية والسياسية، التي تحتسب في صفوفها أكثر من خمسة ملايين منتسب. وهذه الجماعات تنتظم في سلسلة تحالفات عريضة، ولكنها تلتقي حول مناهضة الصيغة الفدرالية للحكم في الولايات المتحدة، وتدعو إلى (بل استخدمت وتستخدم) العنف كوسيلة كفاحية لصون الحرّيات الفردية ضدّ ما تسمّيه ‘الطغيان الفدرالي’. استطلاعات الرأي في أمريكا تشير إلى أنّ 15 ـ 18′ من الناخبين ينتمون إلى كنائس أو حركات على صلة بتلك الجماعات، وفي عام 1999 أشارت إحصائية إلى أنّ 33′ من هؤلاء ينتمون إلى الحزب الجمهوري، 62′ ذكور، 97′ بيض، 85′ متزوجون، 23′ يحملون شهادات جامعية، و47′ شهادات عليا بعد الجامعة…
ولائحة بعض هذه المنظمات هي الكاشف الأوّل على طبيعتها: ‘التحالف المسيحي’، ‘الأمم الآرية’، ‘الوطنيون المسيحيون’، ‘الهوية المسيحية’، ‘رابطة البندقية الوطنية’… وأمّا خطوطها الإيديولوجية فيمكن أن تبدأ من افتراض وجود مؤامرة دولية عليا لتقويض الحلم الأمريكي، وقد تمرّ من التنظير التبشيري للقيامة الثانية ومجيء المخلص، ومعظمها ينتهي إلى التغني بالمسيحي الأبيض بوصفه المسيحي المجيد الوحيد. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ترى ميليشيا ‘الدفاع الدستوري’، في ولاية هامبشير، أنّ بين علامات قيام الساعة لجوء السلطات الفدرالية الأمريكية إلى تغيير تصميم ورقة الدولار، وإضافة أرقام إلكترونية غير مرئية، ليست سوى ‘سمة الوحش الشيطاني’ كما حددّها يوحنا اللاهوتي في رؤيته الثالثة عشرة! أعضاء في ميليشيات أخرى يرون أنّ سمة الوحش هذه كامنة في رقائق الكومبيوتر، أو لصاقة الأسعار الإلكترونية Bar Code!
وإلى هذا، تحكم حركة الميليشيات في مجموعها تيّارات متمايزة، تتناقض أو تتلاقى حول هذه او تلك من المسائل الاجتماعية أو السياسية او المذهبية، بينها التالية:
1 ـ المجموعات اليمينية التقليدية، المدافعة عن حقوق امتلاك مختلف الأسلحة، والمعترضة على النظام الضريبي، والداعية إلى النصّ في الدستور على المزيد من الحرّيات الفردية.
2 ـ المجموعات العنصرية، والنازية الجديدة.
3 ـ دعاة ‘المواطن المطلق’، ممّن يتكئون على تفسير متطرف للتعديلين الرابع عشر والخامس عشر حول الحريات الدستورية. والطريف أن أعضاء هذه المجموعات يضعون السود والإسبان والآسيويين في صف المواطنين من الدرجة الثانية.
4 ـ الأجنحة المعادية لقانون حرية الإجهاض.
5 ـ الجماعات المسيحية ‘الألفية’ و’القيامية’، ممن يؤمنون أنّ العالم دخل الآن في طور ما قبل قيام الساعة، ومجيء يسوع المخلّص.
6 ـ القطاع اللاهوتي الإستقلالي، الذي يضمّ الشرائح اليمينية في الكنيسة الإنجيلية، خصوصاً جناحها المتطرف المتمثل في حركة ‘التحالف المسيحي’.
7 ـ الجناح اليميني المتشدد ضمن حركة أوسع تعلن العداء للنظرية البيئية وحماية الطبيعة.
8 ـ حركة الإستقلال الإداري للمقاطعات الريفية (المناهضة لصيغة الولاية)، ممّن يطرحون تفسيراً متشدداً للتعديل الدستوري العاشر، حول صلاحيات الحكومة المركزية.
غير أنّ التيّار الأشهر يظلّ ‘التحالف المسيحي’، الذي أسّسه القسّ ماريون روبرتسون سنة 1988، في أعقاب حملة فاشلة لنيل ترشيح الحزب الجمهوري للإنتخابات الرئاسية، وقاده حتى سنة 2001، وحوّله إلى أكثر المنظمات الدينية نفوذاً وسطوة في السياسة الأمريكية المعاصرة. ورغم ما يُقال اليوم عن تراجع أعداد المنتسبين إلى التحالف، فإنّ المجموع الراهن لأعضائه ما يزال يعدّ مئات الآلاف (البعض تحدّث عن قرابة المليون عضو، في ذروة صعود التحالف، ولائحة بريد تقارب 1.8 مليون عنوان). كذلك تدير المنظمة إمبراطورية هائلة في ميادين التبشير الديني المتلفز، بينها الشبكة المعروفة CBN، و’قناة الأسرة’، والعديد من الإذاعات، وجامعة معلنة واحدة على الأقل هي جامعة ريجنت، و’المركز الأمريكي للقانون’. فوق هذا، يلتفّ حول المنظمة عدد كبير من الساسة، وكانت تسيطر على ممثلي الحزب الجمهوري في أكثر من اثنتي عشرة ولاية، بما في ذلك تكساس وفلوريدا.
ويرى روبرتسون أنّ أقدار العالم، كما نعيشها اليوم، هي نتاج مكيدة شيطانية شريرة حيكت خيوطها ابتداء من العام 1776 على يد الماسونيين ورجال المال اليهود، ودشّنها أستاذ جامعي بافاري يدعى آدم فيشوبت، حين أسّس جمعية سرية أطلق عليها اسم ‘أخوية المستنيرين’، اندمجت سريعاً في الأخوية القارّية للماسونيين عن طريق الضغط المتعدد الذي مارسه اليهود النافذون من آل روتشيلد، المنتسبون حديثاً إلى المحفل الماسوني في فرانكفورت. وفي عام 1787، وخلال المؤتمر الماسوني العام، اتُخذت جملة قرارات كونية سوف تقرر وجهة سير التاريخ الإنساني خلال القرون القادمة، بينها: إطلاق موجات الرعب، في أنحاء أوروبا والعالم؛ اغتيال لويس السادس عشر في فرنسا، وغوستاف الثالث في السويد؛ التحضير لثورات 1848 عن طريق الأفكار الثورية ليهودي صريح اسمه موسى هيس، ويهودي مستتر تحت قناع اللايهودية يدعى كارل ماركس، تُوكل إليهما (ثم إلى لينين وستالين من بعدهما!) مهمة تزويج أخوية المستنيرين إلى الشيوعية، تماماً كما فعل روتشيلد حين زوّجها إلى الماسونية.
ومع ذلك… صدّقوا أنّ روبرتسون هذا محصّن كلّ التحصين ضدّ تهمة العداء للسامية، ليس فقط لأن واحداً من أبرز المدافعين عنه هو السناتور (اليهودي) أرلن سبيكتر، بل لأنه ببساطة غير معادٍ لإسرائيل الدولة، والعكس هو الصحيح. ألا ينتمي، في العمق، إلى الأصوليين الأمريكيين البروتستانت، أخلص أصدقاء الدولة العبرية كما يشرح إرفنغ كريستول، أحد كبار منظّري المحافظين الجدد؟ ولماذا ينزعج اليهود من التبشير القيامي، يتابع كريستول، ‘مادامت هذه الأفكار الروحية المجردة لا تقاوم الحقيقة الدنيوية الساطعة، حول التأييد المطلق الذي يعلنه صاحب هذه الأفكار لدولة اسرائيل’؟
الموقف من اليهود وإسرائيل فصّله روبرتسون في كتابه ‘الألفية الجديدة’، 1990، وانطلق من القناعة بأن إسرائيل سوف تفنى في الأيام الأخيرة قبل الدينونة؛ ولكن السيناريو الذي اقترحه كان أشدّ إثارة من أي نظير آخر في التراث المعمداني الأمريكي حول علاقة دولة اسرائيل بمجيء المخلّص: ‘هذه الأمّة الصغيرة القليلة العدد ستجد نفسها معزولة عن العالم. وعندها، كما جاء في التوراة، سوف يضرع اليهود إلى ذاك الذي انتبذوه على الدوام’. لكنّ تدمير اسرائيل لن يتمّ إلا حين يثور الأمريكي المسيحي، ذات يوم، ‘ضدّ اليهود الكوزموبوليتيين الليبراليين والعلمانيين، الذين يطالبون بحرّية قصوى للبذاءة والبورنوغرافيا وقتل الجنين’.
تلك، بالطبع، حالة قصوى في نقائض الموقف من اليهود، مقابل الموقف من إسرائيل، في التراث الفلسفي للمجموعات الدينية الأمريكية. وفي العودة إلى فعلة فون برون، تشير تقارير الصحافة الأمريكية إلى أنّ التوقيت على صلة بزيارة أوباما إلى بوخنفالد، المعتقل النازي السابق، وتوبيخ ناكري الهولوكوست، واستخدام نبرة توحي بالعزم على مجابهتهم. خبراء السياسة الخارجية الأمريكية يعرفون، من جانبهم، أنّ تلك النبرة كانت تقيم التوازن مع نبرة أوباما في القاهرة، ولعلّ مصدر المفاجأة كان هذا بالضبط: أليس العداء للسامية، عند غالبية المنظمات الدائرة في محور ‘التحالف المسيحي’، أمر لا يتناقض مع تأييد دولة إسرائيل؟ فكيف يهاجم فون برون متحف الهولوكوست، بعد أن يكتب في موقعه إنّ إسرائيل هي المعادية للسامية، بدليل حربها المفتوحة ضدّ… الساميين الفلسطينيين؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية