قضية فلسطين

موقف الرأي العام الألماني من الحرب على غزة

شتيفان فايدنر (Stefan Weidner)
لأسباب تاريخية، تعلن ألمانيا، منذ الخمسينات، عن تضامنها مع إسرائيل. وينطبق الأمر ذاته على الرأي العام الألماني؛ فهو أيضاً دأب على أن يتخذ موقفاً مؤازراً لإسرائيل مؤازرة أكيدة. بيد أن ثمة مؤشرات تشير إلى أن الميل لمناصرة إسرائيل والتضامن معها قد طرأ عليهما تحول منذ بضعة سنوات. تسعى هذه المقالة إلى تحليل الظروف التي أحاطت بنشأة المواقف التي اتخذتها وسائل الإعلام عند عرضها للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والتحولات التي طرأت على هذه المواقف. وسنستشهد، في كل هذا، بالحرب الأخيرة على غزة.
وغني عن البيان أن التصريح الذي أعربت عنه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد كان شديد اللهجة من حيث انحيازه لإسرائيل: فبحسب وجهة نظرها، فإن مسئولية اندلاع الحرب تقع على عاتق حماس فقط. وبتقييمها هذا لأسباب اندلاع الحرب، غضت المستشارة الألمانية طرفها عن الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة على مدى سنوات عديدة، وتجاهلت، تجاهلاً تاماً، تاريخ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
وكان هذا التقييم قد أخذ المراقبين السياسيين على حين غرة وذلك لسببين: أولاً لأنه تصريح تنقصه الروح الدبلوماسية؛ وثانياً، لأنه تضمن موقفاً لا يعكس الآراء المختلفة التي يتبناها الرأي العام الألماني حيال هذا الصراع.
ومهما كانت الحال، لا يفوتني هنا أن أنبه، بادئ ذي بدء، إلى أن حديثي التالي عن اتجاهات الرأي العام الألماني لا يمكن توثيقه من خلال البيانات الإحصائية ولا من خلال الدراسة العلمية المعمقة لوسائل الإعلام أو لاستطلاعات الرأي العام. فالزمن لا يزال مبكراً لتوثيق هذه الاتجاهات بالبيانات الإحصائية أو بالدراسة العلمية الموثقة أو باستطلاعات دقيقة للرأي العام؛ أضف إلى هذا وذاك، أني لست باحثاً متخصصاً بمسائل وسائل الإعلام. من ناحية أخرى، لا مراء في أن حتى أدق البيانات الإحصائيات لن تقدم شيئاً ذا بال لهدفنا، الرامي إلى تقييم حديث وسائل الإعلام عن هذه الحرب. وللإحاطة بهذه الحقيقة نود أن نسوق المثال التالي:
فمع أن الكثير من الحقائق تشير بوضوح إلى أن أغلبية الرأي العام الغربي، والرأي العام الألماني على وجه الخصوص، تتخذ، موقفاً مؤازراً لإسرائيل، تزعم إسرائيل ومعها أصدقاؤها أن غالبية وسائل الإعلام تنتهج مواقف مناهضة لإسرائيل وأنها لا أمل لها في أن تخرج منتصرة من حلبة المنافسة على خطب ود جمهور المواطنين في الغرب.[1] والعكس بالعكس بالنسبة للطرف الآخر: فحتى وإن كان بمقدرنا أن نتخذ – في وسائل الإعلام الغربية – موقفاً يميل إلى نصرة الفلسطينيين، فإن من المتوقع جداً أن يظل الفلسطينيون والعرب غير راضين عن أسلوبنا في عرض الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
استياء يخيم على طرفي النزاع
إن كل طرف من طرفي النزاع يتهم وسائل الإعلام، في الدول غير المعنية بالصراع بنحو مباشر، بأنها تشوه صورة الحقيقة. وتفسير السبب الذي تستند عليه هذه التهمة يسير: فسببها يكمن في أن لا أحد، من طرفي النزاع، يعثر في وسائل الإعلام الغربية، على عرض يتطابق كلية مع تصوراته لحيثيات الصراع، يكمن في أنه ليس ثمة طرف واحد يشعر بأن قضيته تُعرض بنحو مناسب. وفي الواقع، فإن هذا أمر لا غرو منه، فنحن، في أوربا وفي ألمانيا على وجه الخصوص، لدينا، طبعاً، وجهة نظر خاصة بنا بخصوص حيثيات هذا الصراع. وهكذا، ما انفك كل واحد من طرفي النزاع يسيطر عليه إحساس بأن وسائل الإعلام في الدول الغربية لا تنظر للصراع نظرة تتسم بالعدالة والإنصاف.
في السطور التالية، سأحاول التوصل إلى تقييم يترك جانباً تهمة التحيز لطرف واحد ويتجاهلها. فنحن لا نشط كثيراً إذا قلنا بأننا هاهنا حيال تهمة واهية، باطلة؛ ففي هذا الصراع يتهم كلا طرفي النزاع وسائل الإعلام بالتحيز لطرف دون الآخر. وإذا كنا نعترف، بلا تردد، بأن المستشارة الألمانية قد تحيزت، فعلاً، لطرف دون الآخر، إلا أن الأمر البين أيضاً هو أن اتهام وسائل الإعلام بالتحيز لطرف دون الآخر إنما هو اتهام يجافي الحقيقة حقاً وحقيقة.
وإذا كنا نريد الإحاطة علماً بموقف الرأي العام في ألمانيا، فإنه يستحسن بنا، والحالة هذه، أن نركز نظرنا على موقف وسائل الإعلام القريبة من السلطة الحكومية، من ناحية، والمسيطرة على الميدان الإعلامي من ناحية أخرى؛ فموقفها من الصراع، الذي نحن في صدى الحديث عنه، هو المعيار ذو الأهمية هاهنا. وأدرج في عداد هذا النوع من وسائل الإعلام كلاً من الإذاعات المرئية والمسموعة الممولة من قبل الدولة ومن قبل المشاهدين والمستمعين، وكذلك الصحف اليومية وشركات الإعلام الكبيرة (المستقلة وغير الخاضعة لسلطان الحكومة)، وما تقدم هذه الصحف والشركات من برامج إعلامية تبثها على شبكة الإنترنت، أعني على سبيل المثال، وليس الحصر، مجلة “دير شبيغل” (Der Spiegel) الأسبوعية و”شبيغل أون لاين” (Spiegel-Online). حقاً يزيد عدد مشاهدي الإذاعات المرئية التابعة إلى القطاع الخاص على عدد مشاهدي الإذاعات المرئية الممولة من الدولة ومن المشاهدين، إلا أن من حقائق الأمور أيضاً أن هذه الإذاعات لا تحظى بأهمية ذات بال من حيث ما تقدم من تقارير سياسية وأنها، بالتالي، تتبع الاتجاه العام الذي يراه المشاهدون في الإذاعة المرئية التابعة إلى الدولة (وبحسب وجهة نظري، ينطبق الأمر ذاته على الجرائد التي تعتمد الإثارة).
ولو أمعنى النظر في الأسلوب الذي جرى فيه عرض الحرب على غزة في وسائل الإعلام ذات الصلة بالدولة وذات الأهمية من حيث سيطرتها على الساحة الإعلامية، نعم لو أمعنى النظر فيما عرضته وسائل الإعلام هذه خلال الفترة الواقعة بين نهاية أيلول/سبتمبر من عام 2008 ونهاية كانون ثاني/يناير من عام 2009، فإن من حقنا، فعلاً، أن نقول: لقد تناقلت وسائل الإعلام أخبار هذه الحرب وتداعياتها بنحو مكثف حقاً وحقيقة! فهذا الموضوع شغل، على مدى شهر كامل تقريباً، حيزاً كبيراً في الأخبار والتقارير التي بثتها كافة وسائل الإعلام؛ وتأسيساً على هذه الحقيقة، ما كان بوسع أي شخص أن يصم أذنيه ويغمض عينيه عن أخبار هذه الحرب؛ نعم لم يبق أحد يجهل عدد قتلى الطرفين، ولم يبق أحد لا علم له بأن الحقائق والوقائع تُفسر بنحو مختلف وأن الآراء بشأن هذه الحقائق والوقائع تتباين تبايناً عظيماً. وهكذا، فلو تخيلنا وجود مراقب ما كان لديه علم مسبق بهذا الصراع وافترضنا أن هذا المراقب قد تابع الآن ما تنقله نشرات الأخبار والتقارير المقدمة من كافة الصحف والإذاعات المرئية والمسموعة بشأن هذا الصراع، فليس ثمة شك في أن هذا المراقب سيكون حائراً، مبلبل الأفكار، في نهاية المطاف، وأن الأمور ستختلط عليه إلى حد بعيد، فيظل حائراً مشتتاً، حائراً، بشأن الموقف الذي يتعين عليه اتخاذه حيال هذا الصراع.
أحكام مُتخذة سلفاً
إلا أن واقع الحال يشهد على أن غالبية الناس لديهم أحكام مسبقة. وتأسيساً على هذه الحقيقة، فإن من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى صفتين يتميز بهما الألمان في اليوم الحاضر، أعني الصفتين اللتين تلعبان دوراً عظيم الأهمية في تقييمهم للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فمن ناحية، هناك الشعور العميق بالذنب التاريخي مما اقترفه الألمان بحق اليهود؛ وغني عن البيان أن الشعور بهذا الذنب ينعكس لصالح إسرائيل عندما يحدد الألمان موقفهم من الصراع الذي نحن في صدى الحديث عنه. إلا أن علينا أن نأخذ بالاعتبار أن هذا الشعور بالذنب قد أخذ، مع مرور السنين، يضعف ويتلاشى. ويلحظ المرء، بنحو بين وجلي، تلاشي الشعور بالذنب عند جيل الشباب على وجه الخصوص. بيد أن هذا الجيل لم يتحمل بعدُ مسئولية توجيه وسائل الإعلام واتخاذ القرارات السياسية.
وترتبط الصفة الثانية، التي أود الإشارة إليها هاهنا، بالحرب العالمية الثانية أيضاً: إنها الصفة التي تنعكس في جنوح الألمان إلى مناهضة كافة أنواع الحروب وإيمانهم بمذهب المسالمة (Pazifismus). فبالنسبة لأغلبية الألمان، فإن الحرب واستخدام القوة وسائل مستهجنة لا طائل فيها في حل النزاعات. وعلى خلفية مذهب المسالمة هذا، رفض الألمان المشاركة في الحرب على العراق. وانطلاقاً من الحرب على غزة، لا مجال للشك في أن مذهب المسالمة ليس في صالح إسرائيل: فاستخدام الأسلحة العسكرية، بلا رحمة ومن غير مراعاة للنتائج التي تتمخض عنها، يزري بسمعة إسرائيل في ألمانيا.
وثمة نقطتان لا مندوحة لنا من أن نأخذهما بالاعتبار عندما نريد تقييم موقف الرأي العام الألماني من الحرب التي دارت رحاها في غزة. فالملاحظ هو أن الكثير من مواطني الدول الغربية يعتقدون بأن العوامل التي تربطهم بإسرائيل أمتن بكثير من العوامل التي تربطهم بالعرب. ويقوم هذا الاعتقاد على أسباب عديدة يسيرة الفهم: فإسرائيل تبدو، بالنسبة للمراقب الذي ينظر إليها من الخارج، دولة غربية، أو أوربية. فالكثير من الإسرائيليين من أصول أوربية؛ أضف إلى هذا أن إسرائيل تشكل جزءاً من التراث التاريخي والديني المحفور في وجدان العالم الغربي (أي أنها جزء من ذلك التراث الذي لا يعثر عليه المرء بيسر عند الحديث عن عوامل التشابك مع المشرق العربي). على صعيد آخر، فإن كل طفل في الغرب يعرف اسم إسرائيل من خلال مطالعته للكتاب المقدس.
ومنذ الحادي عش من أيلول/سبتمبر من عام 2001 على وجه الخصوص، يتزامن هذا المزاج المناصر لإسرائيل في ألمانيا والعالم الغربي في المنظور العام، مع وجل من العرب والمسلمين عامة. إن التضامن “المستشعر” (“gefühlte” Nähe) مع إسرائيل يقابله تحفظ “مستشعر” (“gefühlte” Distanz) حيال العرب والمسلمين. وبقدر تعلق الأمر بالحرب على غزة، يتجلى هذا الوجل من خلال التصورات التي ينطلق منها المرء عند تقييمه لحماس على وجه الخصوص. ففي كافة تعليقات وتقارير وسائل الإعلام المسيطرة على الرأي العام سادت نبرة أساسية يستشف المرء منها أن حماس تنظيم شرير لا خير يرتجى منه. وتتجلى هذه النبرة، على وجه الخصوص، من خلال النعوت التي يصف بها المرء حماس بنحو مستمر، نعوت صارت تبدو كما لو كانت حقاً لا ريب فيه. فاسم حماس يكاد ألا يُذكر إلا ومعه نعوت من قبيل “حماس، المنظمة الإسلامية المتطرفة” أو “حماس، المنظمة التي تريد تحقيق أهدافها بقوة السلاح” أو “إرهابيو حماس”. وهكذا، تقارن أكثرية التعليقات حماس بالطالبان وبتنظيم القاعدة.[2]
إن نجاح الدبلوماسية الإسرائيلية بإقناع الإتحاد الأوربي بضرورة إدراج حماس في قائمة المنظمات الإرهابية، كان فوزاً كبيراً يُسجل لصالح أساليب الدعاية الإسرائيلية. فبفضل هذا النجاح، ما عاد اسم حماس يُذكر إلا ومعه النعوت التي أشرنا إليها آنفاً.[3] بيد أن استجابة الاتحاد الأوربي لمطالب الدبلوماسية الإسرائيلية أدى، في نهاية المطاف، إلى إضفاء الشلل على الدبلوماسية الأوربية، فهذه الدبلوماسية لم يعد مسموحاً لها التفاوض مع حماس، فأنَّى لها ذلك إذا كانت حماس مدرجة في قائمة المنظمات الإرهابية؟
وثمة خاصية أخرى تهيمن على سائل الإعلام الغربية وتعمل عملها، أيضاً، وبلا قصد منها، في تحسين صورة إسرائيل: فوسائل الإعلام لدينا تحجم عن عرض جثث القتلى وصور الضحايا والمصابين؛ تحجم عن هذا لأسباب لها علاقة بحرمة القتلى والضحايا. من هنا، فحينما يزيد عدد القتلى الفلسطينيين على 1400 شخص ولا يتجاوز عدد القتلى الإسرائيليين 13 فرداً، فلا ريب في أن الطرف الأقوى هو الذي ينتفع من التقيد بصيانة حرمة الضحايا: حقاً يسدل المرء الستار على ضحايا الطرفين المتصارعين، بيد أن هذا الصنيع يؤدي، طبعاً، إلى تجاهل حقيقة أن القتيل الواحد عند هذا الطرف قابله مائة قتيل عند الطرف الآخر.
شرط رديء، تطور إيجابي
ويمكننا القول، باختصار، إن الشروط الضرورية لاتخاذ موقف مناصر للفلسطينيين، أو لاتخاذ موقف، متوازن على أدنى تقدير، في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، غير مواتية، أصلاً، في ألمانيا. وتأسيساً على هذه المعطيات، يبدو ليَّ أن عرض وسائل الإعلام الألمانية لوقائع وتداعيات الحرب على غزة قد انطوى على تطور إيجابي بالنسبة للقضية الفلسطينية. فمنذ اهتمامي الشخصي بهذا الصراع، أي منذ حوالي عشرين عاماً، لم اسمع، إلا ما ندر، تنديداً بإسرائيل يضاهي، من حيث شدته وكثرة الأصوات المعربة عنه، التنديد الذي سمعته في الأسابيع الثلاثة التي دارت فيها الحرب على غزة.
وأود أن أسوق هاهنا مثالين، الأول منهما مستقى من الأيام التي بدأت فيها الحرب، والثاني منهما يعود إلى الأيام التالية على توقف الحرب. وكلا المثالين مأخوذان من البرنامج الأول من الإذاعة المرئية الألمانية، أي مأخوذان من قناة هي أقدم القنوات الألمانية قاطبة وأحد أهم القنوات التلفزيونية شبه الحكومية في ألمانيا. ففي يوم من أول أيام الحرب، وبعدما أعلنت أنجيلا ميركل عن تصريحها المذكور آنفاً، أي تصريحها الذي أعرب فيه عن موقفها المتحيز لإسرائيل، استدعت هذه القناة التلفزيونية الخبير في الشؤون الإسلامية أودو شتاينباخ(Udo Steinbach) وكلفته بأن يقدم تعليقاً على هذا التصريح. وغني عن البيان أن أودو شتاينباخ يتخذ موقفاً ثابتاً من حيث مناصرته للقضية الفلسطينية. وهكذا، راح شتاينباخ ينتقد الحكومة الألمانية ويدافع عن حماس ويدين الهجوم الإسرائيلي. لقد استمع الألمان المنصتون إلى النشرة الإخبارية الرئيسية، أي النشرة الإخبارية التي تُقَدَم في أفضل ساعات البث التلفزيوني، إلى أول صوت يتخذ موقفاً مناصراً للفلسطينيين بلا لف ودوران في الصراع الدائر بين الفلسطينيين وإسرائيل.[4]
إلا أن القناة الألمانية الأولى كانت ستخرج عن عادتها، فيما لو كانت قد تركت وجهة النظر، التي أعرب عنها خبير الشؤون الإسلامية في سياق تعليقه المناصر للقضية الفلسطينية، بلا صوت يرد عليها. فبعد استطلاع رأي شتاينباخ مباشرة ظهر على الشاشة محرر من محرري القناة ليقدم تعليقاً يساند إسرائيل مساندة تامة. وهكذا كان بمستطاع المشاهدين أن يقرروا لأنفسهم ما إذا كان من حقهم أن يصدقوا ما يقوله لهم شتايناباخ أو أن يأخذوا بوجهة النظر “الرسمية” التي تقدمها لهم القناة التلفزيونية الممولة من قبل الدولة، أي وجهة النظر التي أعرب عنها المحرر المكلف بتقديم التعليق. ولا ريب في أن المشاهد، الذي لم تكن لديه فكرة واضحة حول الصراع، قد ظل في حيرة وارتباك حيال وجهات النظر المتناقضة.
وبعد فترة قصيرة من انتهاء العمليات الحربية، كان بوسع المرء أن يلحظ الظاهرة عينها في برنامج تلفزيوني معروف بمحاوراته السياسية العنيفة (Polit-Talkshow)، أعني برنامج “Hart aber Fair” (“صارم ولكن منصف”). فانطلاقاً من عنوان مفاده: “حطام دموي في غزة – إلى أي مدى علينا أن نساند إسرائيل ونتضامن معها” راح المدعون يناقشون الحرب على غزة.[5] وكان الأمر الملفت للنظر هو أن ثلاثة من الخمسة أشخاص المدعوين للمناقشة قد اتخذوا موقفاً مناصراً لوجهة النظر الفلسطينية. إلا أن هذه الحقيقة لا تجيز لنا القول بأن النقاش قد انتهى بإدانة الهجوم الإسرائيلي. إن واقع الحال يشهد على أن الحيرة قد نشرت ظلالها هنا أيضاً، أي أنها ظلت على ما كانت عليه في بداية الحرب على غزة: فكل واحد كان يقاطع الآخر وكل طرف كان يصرخ في وجه الطرف الآخر. في ختام الندوة التلفزيونية المعنية ما كان للمشاهدين غير الشعور بأن وجهة نظرهم المتخذة مسبقاً هي الصواب بعينه؛ فمن خلال النقاش المنفعل ما كان بمستطاع المشاهد أن يضيف شيئاً جديداً إلى معلوماته.
حيرة في كل مكان
إن الحيرة التي لمسناها في هذه البرامج التلفزيونية تعكس، عموماً، الحيرة الناشرة ظلالها على الماسكين بزمام وسائل الإعلام. فعلى ما يبدو، فإن المسئولين عن إدارة دفة وسائل الإعلام ما عادوا، هم أنفسهم، على بينة من الصورة التي يريدون إيصالها إلى الجمهور العام، باعتبار أنها هي الصورة الصحيحة. وتوحي هذه الحيرة بأن مشاعر التعاطف السائدة في وسائل الإعلام وبين الجمهور لم تعد، في ألمانيا ككل، مع إسرائيل بنحو سافر وأكيد.
وتؤدي هذه الحيرة إلى تخلي الجمهور عن إعطاء حكم واضح. بيد أن عدم وجود حكم قاطع، عدم وجود تغير ملحوظ في الرأي العام، يصب، في نهاية المطاف، في مساندة الوضع القائم فقط، يصب في مساندة السياسية السائدة والوضع القائم فقط. وغني عن البيان أن إسرائيل هي المستفيدة من هذه المساندة، وذلك لأنها هي الطرف الأقوى بحسب كافة المقاييس.[6] وهكذا، فإن بقاء كافة الأمور على حالها برغم كافة النقاشات والمجادلات، يعني أن إسرائيل قد ظلت تحافظ على تفوقها وأن السياسة الألمانية والأوربية (ومعها المستشارة الألمانية) ليست بحاجة إلى تغيير موقفها.
ولكي نفلح في تقييم النتيجة المترتبة على هذه الحيرة، لا مندوحة لنا من أن نأخذ بالاعتبار موضوعاً آخر: إن الكثير من المواطنين الألمان يعتقدون فعلاً أن الحرب على غزة قد كانت حرباً وحشية، أنها كانت حرباً قد أفرطت في استخدام القوة بنحو بين، وأنها، بالتالي، كانت خطأ فادحاً. إلا أن توجيه الانتقاد إلى إسرائيل لا يعني بالضرورة أن المرء صار يكن تعاطفاً أكيداً للفلسطينيين. ويكمن تفسير هذه الحقيقة فيما كنا قد أشرنا إليه آنفاً: الصورة السلبية التي يرسمها المرء للإسلام والعرب بنحو عام. وعلى الصعيد نفسه، فبما أن أكثرية المواطنين والسياسيين الأوربيين يعتبرون حماس منظمة إرهابية، لذا زاد تولي حماس الحكم في غزة من صعوبة التعاطف مع الفلسطينيين.
من هنا، فإني أعتقد بأن النقد الموجه إلى إسرائيل والشفقة على الفلسطينيين أمران لا تقف خلفهما دوافع سياسية، بل دوافع إنسانية. ومع أن الجمهور الألماني كثيراً ما يعلن عن شكواه من المصائب النازلة بالسكان المدنيين في غزة، إلا أن رثاء حال الفلسطينيين نادراً ما يرافقه تحليل سياسي للوضع القائم. ومعنى هذا هو أن الكثير من الألمان يتعاطفون مع الفلسطينيين كبشر، لكن القليل منهم يناصر القضية الفلسطينية. وغني عن البيان أن الفصل بين البشر وقضيتهم أمر ينطوي على تناقض، ينطوي على تجريد يبدو منطقياً، لنا فقط، نحن القاطنين في أواسط أوربا المستظلة بالأمن والسلام. فواقع الحال يشهد على أنه لا يمكن الفصل بين الفلسطينيين وقضيتهم.
ولكنا دعونا نتصور الآن أن الفلسطينيين، أو أن العرب جميعاً، قد أخذوا يطبقون سياسة إعلامية أكثر مهارة وأتقن براعة (في الحقل الصحفي على سبيل المثال). ودعونا نمضي قدماً في تصوراتنا ونفترض أنهم صاروا يتوافرون على سلك دبلوماسي أفضل وأنهم أمسوا، داخلياً، أقلل تطاحناً وانقساماً؛ ولنتوسع في تصوراتنا ونفترض أن الفلسطينيين، أو لنقل أن العرب ككل، قد انتهجوا إستراتيجية موحدة، واقعية، لتسوية الصراع؛ لو حدث هذا كله فعلاً، لا ريب في أن إسرائيل ستخرج مندحرة من حلبة المنافسة على كسب ود الرأي العام الألماني والأوربي طالما ظلت مصرة على تطبيق سياستها الراهنة؛ وعندئذ لن يدوم الأمر زمناً طويلاً حتى تخسر السياسية الإسرائيلية الدعم غير المشروط الذي تمن به عليها الحكومات الأوربية.
وبرغم كل ما تتمتع به إسرائيل من شروط أفضل، أعني الشروط التي أشرنا إليها أعلاه، يلاحظ المراقب، لما بثته وسائل الإعلام الألمانية بشأن الحرب على غزة، أن ثمة حراك في وسائل الإعلام. ومع أن الحيرة المذكورة آنفاً فد كانت في صالح إسرائيل في الوهلة الأولى، إلا أن هذه الحيرة يجب أن تُفسر كتقدم، كخطوة نحو الأمام: فقبل بضعة سنوات خلت، ما كانت هناك حيرة، فالمسئولون في وسائل الإعلام التابعة للدولة كانوا يعتقدون بأنهم على بينة من الموقف الذي ينبغي بهم اتخاذه في هذا الصراع: مساندة إسرائيل والوقوف إلى جانبها في كل الأحوال. إن هذا الزمن قد مضى وانتهى. من هنا، فإني واثق من أن الفلسطينيين والعرب سيحققون نفعاً أكيداً فيما لو بذلوا جهداً أكبر ونشاطاً أقوى من الجهد والنشاط اللذين يبذلونهما حالياً في المراهنة على كسب ود الرأي العام في أوربا: فإذا كانت القضية الفلسطينية قضية عادلة، فلا مراء في أن هناك الأمل القوي في أن يجري، إن عاجلاً أو آجلاً، النظر إلى الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بالنحو الذي تقتضيه الحقائق وتدعمه الوقائع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى