ما يحدث في لبنان

الحـوار المبتـور

سليمان تقي الدين
يبدأ اللبنانيون في التفكير بالحوار عندما تطاول نيران الأزمات وحدة الجماعة المذهبية أو تهدد بالانشقاق في صفوفها. رغبة الجماعات السياسية بالحفاظ على »وحدة الصف« من أجل شرعية مواجهة الآخرين. يتصدر قادة الطوائف النطق باسمها وعندما تنشطر الجماعة تحت وطأة خيارات صعبة يلوذ القادة بخطاب الوحدة. البعض يقود جماعته إلى موقع سياسي مغاير لمصالحها الكبرى والاستراتيجية أو إلى النقيض من تاريخها وتراثها. لكن الجماعات تواجه محاولات جرها إلى الانتحار الجماعي أو إلى الموقع الخطأ. عندما تنقسم الجماعات على نفسها، بقطع النظر عن أحجام القوى داخلها تبدأ فيها الصحوة والشوق إلى الوحدة الوطنية.
مسيرة »الموارنة« في الحرب الأهلية مثال ونموذج عن مآل كل مشروع طائفي آخر. يعيد »السنة« اليوم التجربة نفسها. كلما توغلت الطوائف بمشاريعها الخاصة واجهت اعتراضات من داخلها لمنعها من السقوط في »الانعزال« النهائي.
لم يكن الانعزال في لبنان يوماً حكراً على طائفة أو سمة خاصة من سماتها. لقد اختبرت جميع الطوائف نزعة الانعزال كلما حاولت احتكار السلطة أو الاستفراد بها. أثبت تاريخ الوطنية اللبنانية أن العلاقة عضوية وجدلية بين الانعزال الطائفي وبين الابتعاد عن المشروع الوطني والعروبة.
في مصالحة »طرابلس« وفي مصالحة »جبل لبنان الجنوبي« اجتمع شمل الطوائف عند ركائز أساسية هي العودة إلى الخطاب الوطني والعروبة. من يركب الموج الطائفي يركب مركب الانعزال، ومن يدرك مصالح الجماعات في موقعها التاريخي يلهج بالوحدة الوطنية والعروبة.
ليست العروبة صفة خارجية تضاف إلى صفات الطوائف فتقوم على تطهيرها من رجس الانعزال، بل هي الرابطة الوطنية عينها التي تشد اللبنانيين إلى كيانهم الوطني وهويتهم القومية.
يدفع اللبنانيون ثمن تجاربهم السياسية مرتين. عندما يغامرون بوحدتهم في سبيل أوهام الانفراد بمصير البلاد أو احتكار ناصيتها ومقود أمورها فيذهبون إلى رهانات خاسرة، وعندما يعودون عن هذه الرهانات فتحاول القوى الكبرى أن تردعهم عن الخروج من دوائر نفوذها وعن سكة الصراعات اللبنانية إلى الحرية وإلى الوحدة.
الرسالة القاسية التي تلقاها »الدروز« بدم أحد القياديين الوطنيين عسى أن تزيد الصحوة التي انطلقت مع حوادث السابع من أيار وما تلاها. لا أحد يستطيع أن يأخذ جماعة إلى موقع سياسي كلفته مدمرة. لكل مغامرة على هذا الصعيد حدود في الزمان والمكان. العيش المشترك بين اللبنانيين لا يحتمل خطاباً سياسياً متطرفاً. صيغة لبنان لا تحتمل عداء بين جماعتين مهما كان حجمهما وموقعهما. كل نزاع طائفي يفكك الصيغة كلها. واهم من يظن أنه يستفرد بمحاصرة جماعة معينة لأنه يحاصر نفسه ويضرب مشروع الدولة. ها هم اللبنانيون ملزمون بالحوار في ما بينهم في الشارع قبل أن يأتوا إلى السرايا الحكومية أو إلى القصر الجمهوري، في طرابلس كما في الجبل. الاعتراف بالآخر هو الأساس في أي عمل سياسي. ما ينقص الحوار الوطني في القصر الجمهوري أنه لا يعكس ما فرضه الشارع من معادلات. ما يعيب الحوار أن تبقى فئات لبنانية واسعة خارجه، أكانت قوى سياسية أو مطلبية، أكانت شرائح طائفية أم اجتماعية. هذا العيب هو الذي ينسحب على كل المؤسسات الديموقراطية وفي طليعتها المجلس النيابي الذي يجب أن يستعيد دوره كمرجع للحوار بين اللبنانيين. كل حل يقصي فئة من الناس ويهمش أخرى لن يوفر لهذا البلد السلم والاستقرار على المدى الطويل. حبذا لو يجد المتحاورون صيغة لتدارك هذا الخلل في طاولة الحوار وفي قانون الانتخاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى