الإقلال من الطعام والإكثار من الرقص
محمد علي شاهين
تريد بعض الأنظمة المعمّرة الممسكة بزمام التخطيط للاقتصاديات العربيّة منذ أمد مديد أن تعفي نفسها من مسؤوليّة أزمة الغذاء في عالمنا العربي وارتفاع أسعارها، كما أعفت نفسها من قضيّة تحرير الإنسان والمغتصب من أرضه،
فتلقي تبعة ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة على مشجب الآخرين كما فعلت المستشارة الألمانيّة السيّدة (ميركل) عندما علّلت أسباب الأزمة بتغيّر العادات الغذائيّة، كزيادة تناول عدد وجبات الطعام في دول مثل الهند، متناسية الكم الهائل من الحبوب والبذور الزيتيّة والسكّر التي تصنّع كوقود حيوي تحت دعوى المحافظة على البيئة ووقف الانبعاثات الحراريّة، رغم أن انتاج مئة لتر من الميثانول (كحول الحبوب) يحتاج إلى 240 كغ من الذرة، وهي كميّة كافية لإطعام رجل مدّة عام كامل.
وتريد الأنظمة أن تقنعنا بأنّ القضيّة التي نحن بصددها مسألة (ميثانول) وانبعاثات حراريّة وليست محصلة عوامل ساهمت في وصولنا إلى حافّة المجاعة في مقدمتها: سوء التخطيط، وسوء استخدام الموارد الطبيعيّة والبشريّة على مدى عقود من الحكم الجبري.
ففي ظل الأوضاع المأساويّة العربيّة حيث يسلب المواطن حريّة المبادرة الفرديّة والإبداع في العمل والانتاج، ولا يسمح ذوي الإخلاص لذوي الخبرة والاختصاص بالاعتراض على السياسات العامّة، وتؤخذ القرارات الهامّة ويعدّل الدستور بالوقوف والتصفيق والرقص في الشوارع، ظهرت بوادر أزمة الرغيف في بلد عربي تعتبر أرضه الموطن الرئيسي لزراعة القمح منذ أيّام يوسف الصدّيق، وتشير التقارير إلى احتمال وقوع مجاعة حقيقيّة في أكثر من بلد عربي إذا لم يتدارك العقلاء حجم المشكلة، وإلى عودة الحرس القومي للإشراف على الأفران كما فعل الرفاق الطيّبون قبل خمسة وأربعين عاماً.
ويأتي في مقدمة أسباب الأزمة المستفحلة تدني مستوى الاستثمار في قطاع الزراعة بسبب الهواجس المخيفة بين المستثمر والفلاح، والشعارات الدعائيّة التي رافقت مسيرة الأنظمة (التقدّميّة)، والحيلولة دون مراجعة قوانين وقرارات عفى عليها الزمن، ولا يعلم أحد في العالم العربي إلاّ الله ما ترتّب على صدور قوانين الإصلاح الزراعي، وقوانين العلاقات الزراعيّة التي قدّمت كحل سحري للمشكلة الزراعيّة في بلداننا العربيّة منذ مطلع الستينات.
واتجهت خطط صانع القرار العربي نحو الاستثمار في المشاريع غير المنتجة، وصرفت الملايين الكثيرة في تشييد المدن الرياضيّة والمباني الحكوميّة وقصور الرئاسة وإقامة المهرجانات الدعائيّة، وأهملت صيانة السدود المائيّة حتّى انهارت، وتوقف العمل في استصلاح الأراضي البور، ووقف التصحّر، وتجفيف المستنقعات.
وفتحت آفاق الاستثمار الأجنبي على مصراعيها لبناء الفنادق السياحيّة الفخمة، وعفيت آثار المعاهد الزراعيّة، وانخرط أبناء الفلاحين الفقراء في طوابير الطباخين والجرسونات، وهجر من لم يحالفه الحظ قريته إلى مدن الصفيح، منضماً إلى جيش العاطلين عن العمل.
والناظر في بيوت الفلاّحين يأسى لحالها، فهي في حالة مزرية، ولا تختلف كثيراً عن حظائر البقر والإسطبلات، ولا تزال بعض العائلات في الريف العربي تتقاسم الغرفة مع البقرة، وإذا ماتت البقرة فإن العائلة تقيم مراسم العزاء، وتبكي عليها أكثر من بكائها على أولادها.
والمزارع العربي مصدر سهل لجامع الضرائب المباشرة وغير المباشرة، فما من مادّة تدخل في عمليّة الإنتاج الزراعي، ولا أداة من أدوات العمل، ولا آلة من آلاته إلاّ وتخضع للضرائب، حتى الآبار لم تسلم من عدادات المياه، أمّا الجمعيّات الفلاّحيّة فحديث خرافة.
ولا يعرف الفلاحون من رجال الدولة سوى جامع الضرائب، ورجل الشرطة، وخفير الحراج، ومراسل شركة التبغ والتنباك المؤمّمة (الريجي)، وقلّما يزور أحد المسؤولين القرى الزراعيّة لتفقّد أحوال المزارعين والاستماع إلى شكواهم وهمومهم إلاّ لغرض الدعاية والإعلام، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا خدمات صحيّة أو اجتماعيّة، أو مدارس زراعيّة.
ومن صمد من تعساء الفلاحين على أرضه قلّت إنتاجيّته بسبب نقص المال المستثمر في الزراعة، وضيق ذات يده وافتقاده الآلات الحديثة، وجهله الفاضح في استخدم الدورات الزراعيّة، وطرق التسميد الصحيحة، واستخدام المبيدات الحشريّة، والأساليب الزراعيّة الحديثة، ولا يزال معظم الفلاحين يستخدمون المحراث الروماني، والري بالنواعير، ويحصدون بالمنجل.
ولا تزال الأراضي الخصبة تفتقد شبكة الري والصرف، والطرق الزراعيّة لتسويق المنتجات.
ولا يحق للفلاح على ضفاف بحيرة سد الفرات ري مزروعاته تحت دعوى المحافظة على مستوى المياه في السد لتوليد الكهرباء، فيضطر للهجرة إلى الدول المجاورة لسد رمق عياله.
والمزارع المسكين مضطر لدفع نسبة عالية من هامش ربحه المتواضع لأصحاب وسائل النقل والسماسرة والوسطاء الجشعين، والبنوك الربويّة والمرابين.
ولا يروق لذوي البطنة والفساد إلاّ تشييد قصورهم ومصانعهم في أخصب الأراضي الزراعيّة وأكثرها إنتاجيّة، حيث تملأ المسابح بالماء المجاني على حساب فاتورة مياه الفقراء والأشجار اليابسة العطشى، وتلوّث البيئة بطريقة تفتقد الحدّ الأدنى من المسؤوليّة.
وادّعى بعضهم بأنّ أزهار شجرة الزيتون الصابرة المعمّرة تسبّب الحساسيّة فأمر بقطعها، واستبدالها بشجيرة الدفلة السامّة كما فعل أهل الأندلس قبل أن يطردوا من ديارهم.
وافتقدت البركة من مزارعنا وحقولنا، وشحّت الأمطار فما عادت السماء تمطر بالمزن لأنّ الصلاة لا يقبلها الله إذا أقيمت فوق أرض مغصوبة، ولأن بعض المارقين ادّعى بأنّنا لسنا بحاجة إلى السماء بعد بناء أحد السدود.
إن العقلاء ينتظرون المجاعة منذ زمن بعيد ويتوقّعونها، ولست أغالي إذا أثبتّ بأنّ الأزمة جاءت متأخّرة لأنّ جميع أسبابها متوفّرة قبل مسألة (الميثانول)، ولسنا مع الشامتين إذا قلنا: من يزرع الشوك لا يجني العنب.
لقد رضينا بالاستسلام لنصائح البنك الدولي، ومددنا أيدينا لهبات البرنامج العالمي للغذاء، حتى بتنا نعيش على نفايات العالم وقمامتها.
ولم تزل المنظّمات الدوليّة تتستّر على عمليّة التخريب الزراعي المتعمد، وتمنح المساعدات الغذائيّة لدول كانت في يوم من الأيّام خزانة حبوب العالم، إمعاناً في تدمير أمنها الغذائي، لأنّ من لا يملك غذاءه لا يملك حريّته.
سيقولون: ومن أين نأتي بوزير حصيف مثل يوسف الصدّيق ليفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات؟
إنّكم إن لم تجدوا بينكم يوسف، فابحثوا عنه في غيابة الجب والمنافي والمهاجر البعيدة، أو تحت أنقاض المدن المهدّمة والقبور الجماعيّة.
إنّ أمننا الغذائي يتعرّض للخطر، بسبب السياسات الخاطئة، والتخريب المتعمد للزراعة، وإهمال المزارع كعنصر فاعل في بناء اقتصاد قوي ووطن حر.
أمّا إذا حيل بين شعوبنا والإصلاح، فلا مناص لها سوى الإنصات لنصيحة (كاسترو) طيّب الذكر، عندما وقف خطيباً بقامته المديدة داعياً شعبه إلى الإقلال من الطعام والإكثار من الرقص.
__________
* كاتب سوري