أوراق من دفاتر المخابرات… ليلةَ أطلق سراحي من المعتقل!
الطاهر إبراهيم
تابعت كما تابع الملايين غيري – في مغرب الوطن العربي ومشرقه – وقائع وصول المواطن السوداني “سامي الحاج” المصور في قناة الجزيرة على متن طائرة عسكرية أمريكية في رحلة العودة والحرية من معتقل “غوانتنامو” الرهيب الذي لطخ سمعة أمريكا وشرفها كدولة احتقرت الإنسان الذي كرمه الله تعالى: “ولقد كرمنا بني آدم“.
لن أحاول إبراز ما انتابني من أحاسيس وأنا أتابع صور “سامي” عائدا إلى أهله وزوجه وطفله الذي تركه رضيعا يوم اعتقلته قوات واشنطن، فأغلب الظن أني لن أستطيع نقلها إلى الورق، فهي أكبر من أن يحيط بها قلم كاتب. يشعر بها الكاتب؟ نعم. يعرف خلجاتها؟ نعم. لكنه أبدا لا يستطيع أن يترجمها إلى كلام مقروء. حفزني المشهد أن أنقل إلى القارئ تجربة لي، وإن بدت صغيرة وهامشية، إذا ما قيست بحجم الآلام التي عاشها “سامي” وإخوانه على مدى أكثر من ست سنوات في زنزانات “غوانتنامو“.
كان ذلك يوم الخميس في13 آذار من عام 1980، يوم أن كنا في ضيافة المخابرات العسكرية في سجن “المسلمية” شمال مدينة حلب. وقد كان ليوم الخميس وقع خاص عندنا في تلك الأيام. إذ جرت العادة أن يتم إطلاق سراح بعض المعتقلين من السجن فيه، فيما لو قدر لأحد أن يتم إطلاق سراحه، ليلتقي بأهله: “بعدما… يظنان كل الظن أن لا تلاقيا“.
مع قلة عدد من يطلق سراحه واقتصار ذلك على “اللامنتمين” سياسيا، كنا نعد ذلك لفتة إنسانية أن يستعيد الإنسان حريته بعد مصادرتها. فالأصل عند أجهزة المخابرات أن حرية المعتقل هي ملك لتلك الأجهزة، وأن آخر ما تفكر به تلك الأجهزة العمل وفق الأجندة الإنسانية.
ولا بد لي من الإشارة إلى أن دفعة كبيرة من المعتقلين في سجن “المسلمية” كانوا قد أطلقوا في يوم الخميس السابق في 6 آذار من نفس الشهر، وذلك ضمن وساطة قادها الأستاذ “أمين يكن” -نائب المراقب العام الأسبق- بين النظام السوري وجماعة الإخوان المسلمين.
في ذلك اليوم 6 آذار عندما انتهى ضابط المخابرات من تلاوة قائمة بأسماء من شملهم الإفراج، ولم يكن قد ورد اسمى بقائمة المفرج عنهم في الجناح حيث نعتقل. فطلبت قراءة أسماء من أفرج عنهم في الجناح الآخر، حيث كان فيه معتقلون آخرون، لعل وعسى. لكن “عسى ولعل” فشلتا في إضافة اسمي، لأنه القائمة – ببساطة – لا تحتوي على اسمي.
تلك الليلة لم تغمض لي عين، ليس أنا فحسب بل كل من بقي في المهاجع الخمسة التي يضمها جناحنا. وفي هدأة الليل وبين الفينة والأخرى كان يرتفع صوت أخينا “أبو عبدو” يترنم بكلمات أغنية وجدانية، كان من ضمن أبياتها: “زار بعد جفا حُبُّنا ووفا”. ولم أكن لأعرف مَنْ زار مَنْ؟ ومَنْ جفا الآخر، الزائر أم المزور؟ وكل ما أعرفه أني أرقت حتى صلاة الفجر.
يومَ الخميس 13 آذار، ولأننا كنا نتوقع أن يتم إطلاق سراح مجموعة أخرى، فقد تسلقنا الشبك المعدني الذي يفصل المهاجع عن الموزع “الكوريدور”، لنطل على الساحة التي كانت سيارات المخابرات تأتي من الخارج فتقف بالساحة محملة بمعتقلين أو لتحمل النذر اليسير ممن أسعفهم الحظ فأطلق سراحهم. لكن انتظارنا طال من دون جدوى، فتركنا المهاجع وتوجهنا إلى ساحة التنفس. لم يكد يمض إلا ساعة حتى سمعت معتقلا يسرع نحوي مناديا ومبشرا: أبشر “أبو… ” فقد وصل “الميكروباص”، الذي كان وصوله يعني أن هناك من سيفرج عنه، وهكذا كان.
توجه بنا الميكرو إلى حي “السريان” حيث فرع المخابرات العسكرية، لأجد كوكبة من الأخوة المعتقلين قد سبقونا وتكدسوا في غرفة لا تكاد تتسع لهم، فأفسحوا لنا بينهم. وبعد ساعات أخذنا إلى حيث ينتظرنا وفد من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث، ومعهم رئيس فرع المخابرات العسكرية في حلب العميد “مصطفى التاجر” وضباط آخرون. واسمحوا لي أن أؤجل الحديث الذي دار معهم فربما يسعف الحظ والوقت فأحدثكم به فيما بعد. أما الآن فإلى زوجتي وأولادي في بيتي في حي “محطة بغداد” في مدينة حلب.
وكم كانت خيبة الأمل كبيرة عندما علمت أن الزوجة والأولاد قد ذهبوا إلى قريتي، حيث كان أهلي وأقربائي يحتفون بهم. توجهت سريعا إلى بيت أخي في “سراقب” ففرحوا بالإفراج عني، ثم لأنطلق بسيارتي – التي كانت مركونة أمام بيت أخي – نحو القرية. وقد كان أخي أسرع مني إذ سبقني في سيارة صديق له، ليعلم أهل القرية بالنبأ: إن “الطاهر” قد أطلق سراحه.
وصلت القرية بعد أذان العشاء، وقد تجمع أهل القرية في ساحتها. وكانت ساعة مشهودة، لم أعرف فيها من عانقني ومن قبلني. حتى أن إحدى النساء، – ولا أعرف من كانت حتى الآن – أمسكت بوجهي وقبلتني وهي تقول: الحمد لله على سلامتك يا ولدي. واحد من الذين استطاعوا الوصول إلي، عانقني وقبلني وبكى لعدة دقائق، وحتى الآن لا أعرف من كان؟ أمي وأولادي وزوجتي وأخوتي ما استطعت أن أخلص إليهم إلا بعد منتصف الليل من كثرة المرحبين بي.
إذا كان لا بد لي من كلمة أقولها في ختام هذا المشهد الذي حاولت نقله كما جرى معي، إلا ما اقتضته الصياغة وانتقاء كلمة بدلا من أخرى، فسأخصصها لما ينبغي أن يقال، (ليس للنظام في سورية فحسب بل لكل الأنظمة في بلاد العالم التي استولت على السلطة عن غير طريق صناديق الاقتراع): إذا كان هذا هو شعور الناس تجاه من تعتقلهم أجهزة المخابرات، فإن هذا يعني ضمنا التنديد بكل ما يُفعل بالمعتقلين. وإن العطف على المعتقلين يعني التنديد بممارسات الأنظمة القمعية، التي تسير عكس الفطرة. تلك الأنظمة تبدو وكأنها تريد تصعيد الماء بدون مضخات في الجبال. والماء لا يصعد بل يسيل منحدرا كما سال المرحبون نحوي: الناس لا تحبكم أيها المخابرات. الشعوب العربية تكرهكم أيتها الأنظمة القمعية. قد يخاف المواطن من الحاكم الذي لا يعرف إلا لغة الكرباج، لكنه أبدا، لا يقول لهذا الحاكم بعد موته: “يرحمك الله“.
__________
* كاتب سوري
أخبار الشرق – 6 أيار/ مايو 2008