“بريد مستعجل” عن جمعية “ميم”: المثليات والمثليون يبرعون في الأدب
يختزل كتاب “بريد مستعجل” الصادر بنسخته الانكليزية عن جمعية “ميم”، وبتمويل من مؤسسة “هاينريش بول فاوندايشن”، إحدى وأربعين قصة قصيرة، أو حكاية، أو ربما شؤوناً خاصة بأناسها لا غير. إلا أن هذه المرويات الحقيقية تبتعد أكثر لتحوك الضوء الذي ينخر عظم تقاليد، بها تنفذ رؤية المجتمع اللبناني الى المثليين. من هنا، تبدو صفحات الكتاب أصابع خفية، تقودك إلى أمكنة تتنفس، أمكنة على قيد الحياة، قريبة بقدر ما هي بعيدة، مضاءة بقدر ما هي مغطاة بوشاح الظلمة، معلنة بقدر ما هي متوارية، وجريئة بقدر افتراض الآخرين عيبها. هي أمكنة نحن معتادون نكرانها واعتبار أنها بغير ذات اهمية. هو الخوف الأصلي من استذكارها، أو الهاجس من وضعها حيز “التنفيذ” على المستوى السوسيولوجي.
هذه الحكايات الصغيرة، السهلة سرداً، تشي بأن لها شريكا متوترا ومتقلبا على المستوى الدينامي، لا يريد العثور على أخطائه بقدر ما يريد وضع إصبعه لفقء أخطاء الآخرين، وهم هنا: المثليون جنسيا. هذا الشريك، هو نحن: غيريّو الجنس، الذين نشكل بحسب التقديرات الشفوية النسبة الكبرى من الفئة المجتمعية. هذا هو الأمر المتعارف عليه. فلا وجود لإحصاءات دقيقة ولا لأرقام بيانية يستطاع الاعتماد عليها. لكنْ في ضوء “بريد مستعجل”، فإن ما يبدو واضحا، هو احتمال أن الكثيرين منا محاطون بذوي الميول الجنسية المثلية، وإن بنسب متفاوتة. بل ربما نكون من ذوي الميول المثلية، لكن اعتبارات عديدة، تحول دون إعلان ذلك.
أنطلق بهذا القول من نفسي تحديدا، في اتجاه الآخرين، متجنبا الوقوع في ضرورة إصدار “حكم أخلاقي” محتمل، في حق أولئك، بقدر ما هو اعتراف بحقهم في ممارسة ما يفعلون بشرط عدم أذية الآخرين. من المعروف أن القانون اللبناني يعاقب وإن شكليا، على ممارسة الفعل المثلي الجنسي الذي يسمّيه لواطا أو سحاقا، في أحكام تصل إلى السجن سنة واحدة. غير أن الترخيص المعطى لكل من جمعيتي “ميم” و”حلم” يعدّ انتصارا لشركائنا المثليين في المجتمع اللبناني. كما إنه تمايز للبنان على الكثير من الدول العربية في ما يخص الاعتراف الناقص بالمثليين جنسيا. من هنا تأتي ضرورة التكامل، بالمعنى التوعوي في اتجاه المثليين والاعتراف بحقوقهم المدنية والاجتماعية والسياسية.
“بريد مستعجل” تم اطلاقه في لبنان، تحديدا في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات النيابية، متضمنا قصصا قد تبدو بغير قيمة أدبية، من حيث تلقائيتها وواقعيتها المفرطة، إلا ان الأهم من هذا كله، قدرتها على أن تعكس وجهة نظرنا “نحن” في اتجاه “هم”. ما نعانيه حقا هو تفشي معايير عامة، يتم من خلالها تقويم الفرد جنسيا (سواء على مستوى الهوية، أو على مستوى الوظيفة الجنسية)، والتحديد الحتمي للميول الجنسية للفرد إنطلاقا من مظهره الخارجي. هذا يعني أننا لا نزال عالقين في الشكل، والهيئة، ونوع الثياب الواجب ارتداؤها، وقَصَّة الشَعر. ولا نزال قابلين أوتوماتيكيا لتصنيف الآخرين، فقط بناء على مظهرنا الخارجي.
تذهب هذه المعايير بالمخيلة نحو تفضيل الذكر على الأنثى، وربط ذلك مباشرةً بالفعل الجنسي. فالفاعل يحتل مرتبة أعلى من المفعول به، وبخاصة في المجتمعات التي يتوق فيها الفرد الى البحث عن حيز، أو ظرف لممارسة سلطته الذاتية على الفرد الآخر، وذلك كتعبير عن رد فعل إرادي أو لاإرادي، عن كونه كان في مرحلة سابقة، المفعول به من قبل سلطة أعلى، حكومية أكانت أم بوليسية أم فردية. فكل سلطة تمايز بين أفراد المجتمع الواحد، وتمارس التصنيف على المستوى العرقي أو الطائفي أو المذهبي أو الفئوي، تؤدي إلى إنتاج تذبذب نفسي، يفضي إلى تكسير النفس البشرية، أو طواشها. هذا ما يدمغ المجتمع عادة، بهوس تبوّؤ السلطة، التي ينسحب معناها على أكثر من مستوى، منها السرير، إذ يتم تفضيل مولج القضيب (الذكر) على المولج به (المرأة). هذا ما يجعل قبول المثليين الذكور، أصعب من قبول المثليات الإناث، لأن الاعتراف بمثليي الجنس الذكور، يشكل قصمة لهيبة المجتمع الذكوري، أما مسألة المثليات الإناث فتشكل مصدر متعة للرجل، لأن في المشهد الجنسي إخضاع أنثى لأنثى، ومن ثم تبادل الأدوار، وبالعكس. الأمر الذي يؤمن لمنزلته المفترضة، كذكر، حماية تتعزز ببلوغه النشوة، وخصوصاً عند مشاهدته امرأتين مثليتين في فعل الجنس.
تفضح قصص “بريد مستعجل”، وتجعل أولئك المثليين، الذين نراهم دوما غامقي اللون، يتصادمون مع المجتمع ذي اللون الفاتح. فهم المظللون دوما والخائفون أو المرتبكون، وليس ذلك بسبب خلل في بنية اقتناعاتهم، بقدر ما هو إيقان مسبق بأن الذين من حولهم لن يستقبلوا مثليتهم بمودة. بل أكثر. فالنبذ هو السمة التي تُلصق بمصيرهم لاحقا. ذلك يتم من خلال البيت، العائلة، المدرسة، الأصدقاء، المقهى، التقاليد، الأعراف الدينية والاجتماعية. وهي كلها أعراف وضعت لترتيب المجتمع في هرمية الحاكم والمحكوم. تكشف هذه القصص القصيرة، عن تأخر مجتمعي، أو بطء في استيعاب أولئك. الأمر أشبه بظاهرة متفشية حتى تكاد لا تستثني “أروقة” بعض المثقفين. فأنا شخصيا فوجئت بصديق واسع الثقافة، أبدى موقفا سلبيا تجاه المثليين. فقد اعترى الإشمئزاز شفتيه، عندما طالبت بضرورة إيفائهم حقوقهم المدنية والسياسية، وسن قانون خاص يمكّن الشركات من افساح المجال علانية لهم بالعمل، على غرار ما يحدث في أوروبا بالنسبة الى حقوق المرأة.
التقاليد التي تذهب عبرها عدسة “بريد مستعجل”، لا تكف عن كونها حدودا غير مبررة، تشكل حائلا دون بلوغ المثلي حقوقه. هناك قصة إحدى الفتيات اللواتي لهن ميول جنسية مثلية، وتواجه في الوقت ذاته ضغوطا من أهلها لتتزوج. هي لا تستطيع إعلان مثليتها أمام العائلة، ولا تقوى على حرمان عائلتها من “شرف” هذا التقليد، أي زواج الإبنة. أما الحل الذي تراه مناسبا، فهو بأن تتزوج من رجل مثلي، وبهذا فإنها لن تضطر إلى خيانة حبيبتها، وستحتفظ بالسمعة التي ترضي العائلة بأنها متزوجة ومصونة. إنه المجتمع الذي يكذب على نفسه لإخفاء أمراضه، بدل من أن يعترف بأولئك المثليين. إلى هذا المظهر المجتمعي، مظاهر أخرى، يختلف بعضها عن البعض في الجدية، كموت الأب مثلا، أو فقدان أحد الأقرباء، أو تطويق الفتاة بعبارات مثل “أخت الرجال”، أو “رجّال البيت” لتشجيعها على تحمل المسؤولية، أو إتهام صديقة بأنها “سحاقية”.
كل قصة في “بريد مستعجل”، تؤلف قطعة صغيرة من أحجية، ليست عند اكتمالها أكثر من مرآة، تصيب المشهد الخفي، لمجتمع عربي، تشدده ليس سوى عبارة عن انتقائية وقحة، تدعو الى نبذ “الآخر”.
هناك حيز كبير من القصص يدور داخل مدرسة أو جامعة، مما يدل على شيئين: الأول يظهر الخلل القائم على تمييز الأفراد بحسب انتمائهم الى منطقة، أو طائفة، أو دين، أو قضاء، أو وظيفة أو هوية جنسية، أو ميول، واعتبارهم مرضى يجب معالجتهم. ويشير الثاني إلى خلل واضح في النظام التعليمي والتربوي والتثقيفي الذي لا يبذل أدنى جهد في سبيل تأمين الحقوق المدنية لأولئك الناس، الذين يعيشون ويقاتلون في الظل ولا يطلبون الكثير.
في كل حال، هي قصص حقيقية تتكلم بألسنة أناس ينتحلون صفة المجهول، فتبدو أكثر بريقا من كل ما يشاع حولنا. إنها قصص المجتمع الآخر، الذي يتم غض النظر عنه بتعمد مقصود، لا يقل ضعفا عن الذهنية التي تحرك الموقف العام، غير المبرر، تجاه المثليين.
النهار