صفحات العالمميشيل كيلو

خطاب أوباما: من كسر المسلمين إلى كسبهم؟

null
ميشيل كيلو
بعد ضرب العراق واحتلاله في العام 2003، كتب كراوتهامر، أحد أكبر مفكري المحافظين الجدد، مقالة شرح فيها ما يجب أن يترتب على ‘انتصار’ امريكا من نتائج، قال فيها ما معناه إن سيطرة القطب الواحد على العالم ستكون مرتبطة بقدرته على ضبط عالم الإسلام، أي على كسبه أو كسره، لأن المسلمين سيكونون العنصر الحاسم في مستقبل قريب سيشهد نوعين من الصراعات الكبرى: صراع بين الشمال والجنوب، سيكون المسلمون فيه قادة الجنوب أو قاعدة الشمال، وصراع بين الغرب المسيحي/ اليهودي والشرق الكونفوشيوسي/ الشنتوي/ البوذي، سيمثل المسلمون فيه قوة حسم، بالنظر إلى تشابه دينامية المجتمعات في كلا النموذجين، وتوازن قواهما وقدراتهما، وكون المسلمين معادين تقليديا للغرب بحكم تجربتهم الاستعمارية معه. في نمط الصراعات الأول، يمكن للمسلمين أن يضعوا تجربتهم الحضارية والتاريخية الواسعة في خدمة الفقراء من الأمم والشعوب، وأن يقودوا رفضها السقوط من جديد تحت استعمار أو سيطرة سيمثلهما القطب الامريكي الواحد. أما في نمطها الثاني، فإن إنحياز المسلمين إلى الشرق سيتكفل بإثارة قدر عظيم من التحديات والمتاعب في وجه الغرب. وفي الحالتين، لا بد من تحييد المسلمين : بكسرهم أو بكسبهم.
كان بوش سيد القطب الأوحد الذي حاول كسر الإسلام، فهل يكون أوباما الرئيس الذي يمرر عملية كسبه، لأن كسبه سيقلب علاقات القوة بين الغرب والشرق، وبين الشمال والجنوب لصالح امريكا؟.
بوش والإسلام
أقنعت إدارة بوش نفسها أن الإسلام عدو لا بد من مقاتلته وشن حروب إستباقية عليه. وزعمت أن العراق نقطة تتجمع فيها قوى المسلمين المعادية للغرب وللعالم، وخاصة قوتين أساسيتين منها هما تنظيم ‘القاعدة’، ودولة البعث العلمانية، الساعية إلى امتلاك السلاح النووي في اقرب الآجال. قالت إدارة بوش: إن احتلال أفغانستان لن يكون كافيا لإخماد هيجان الإسلام وحماية الأمن القومي الامريكي ومصالح امريكا عبر العالم، وأن احتلال العراق سيتكفل بتحقيق هذين الهدفين، وسيجعل العالم منطقة أمن وسلام وازدهار، وادعى أن الحرب ضد العراق ستكون قصيرة وسريعة ودون خسائر بشرية تذكر، لذلك سيقتنع العالم بقبولها وتأييدها، خاصة وأن امريكا ستخوضها باسمه ولصالحه، ولا تريد تحقيق مآرب أنانية أو خاصة منها.
سقط العراق، وسقطت أفغانستان قبله، بسرعة، دون مقاومة عسكرية تذكر. أما امريكا ‘المنتصرة ‘، فقد تبين بعد فترة قصيرة أنها سقطت من جانبها في حفرة بلا قاع، ما لبثت أن أخذت تمتص عافية جيشها واقتصادها، وتودي بسمعتها كقوة عظمى تقود العالم وتستطيع ضبط نزاعاته. لكن واشنطن سرعان ما شرعت تتخبط في عجز أظهرها بمظهر قوة قابلة للهزيمة، بل وتهزم كل يوم بسبب طرائق في التفكير والعمل تشبه طرائق تفكير وعمل قيادات العالم المتأخر، أهمها سوء التقدير وسوء التخطيط وسوء التنفيذ، وقد اعترف كبار قادتها بارتكاب أخطاء فادحة لا يجوز أن يرتكبها قادة دولة تعد الأكثر تقدما في العالم: تقنيا وإداريا.
جاء الامريكيون لقص صوف المسلمين، فإذا بهؤلاء يجزون وبر جيشهم ويقوضون سيطرتهم، وإذا بالمعركة ضد الإسلام أكثر صعوبة من المعارك ضد النازية والشيوعية، لكونها معركة لا جبهات واضحة فيها ولا أعداء منظورين، أغرقت جيش التقنية الفائقة والقتل من الطلقة الأولى في مواجهة محرجة ومكلفة طرفها لآخر جيش التأخر المفرط، بينما أخذت الحرب تنزلق إلى خارج أي زمان محدد، وأخذ مكانها يتسع ويتبدل، رغم ما بين امريكا وبين أعدائها من تفاوت في القوة واختلال في الموازين. ومع أن عدد قتلى امريكا كان قليلا نسبيا، إذا ما قورن بقتلى حرب فيتنام أو كوريا في أواسط القرن الماضي، فإنه بدا، مع ذلك، كبيرا جدا، بما أن الطرف الآخر نجح في فرض حرب لا يعرف القتل فيه نهاية، تجعل الجهاد سبيلا إلى الشهادة، إلى الحياة الحقيقية الوحيدة، في دار البقاء والخلود. بذلك، تحولت الحرب إلى فعل لا حدود له، طرفه الأكثر هشاشة هو طرفه الأقوى ظاهريا وفعليا، ولم يعد أمام امريكا من سبيل غير الخروج من مأزق سارعت إليه وهي تطلق صيحات النصر، وخاضت فيه وهي تطلق نداءات الاستغاثة.
ليس من المبالغة القول إن تجربة حرب واشنطن ضد ما سمي ‘الإرهاب الإسلامي ‘ قد لعبت دورا خطيرا في إضعاف امريكا، وأسهمت في صعود باراك أوباما إلى سدة الرئاسة، وجعلت الامريكي العادي يشعر أن بلده بحاجة إلى تغيير ليس فقط في السلطة، وإنما كذلك في عمل الحكم والإدارة، وفي جوانب من بنى النظام الرأسمالي، خاصة بعد أن تلازم الفشل الخارجي مع أزمة داخلية أظهر أن ‘نمط الحياة الامريكي ‘ ليس بخير، وأنه لم يعد جذابا، وأن المواطن الامريكي صار عاجزا عن تأدية التزاماته الاقتصادية، والقيام بدوره المرسوم في نظام كان يبدو وطيدا وراسخا، لكنه خسر خلال فترة قصيرة جزءا تكوينيا منه هو قطاعه المالي، الذي لطالما اعتبر قوة تنمية وتنظيم للحياة الاقتصادية برمتها، بينما برز غياب الدولة عن دورها الإداري والعام، ليكمل صورة قاتمة اتسمت بقدر كبير من الفوضى والعشوائية، أضيفت إلى صورة حرب تشن في الخارج، غدت بدورها أسيرة التخبط وانعدام الرؤية والضياع، بالأزمة البنيوية في الداخل، التي تدفع إلى إعادة هيكلة الاقتصاد والإدارة، وبالحرب في الخارج، التي يفرض نمطها المتعثر التراجع عن كسر العالم الإسلامي، وقد تحولت الحرب ضد إرهابه إلى كابوس مرعب، بدأ أوباما جهوده، التي عبر عنها في خطابه الموجه إلى العالم الإسلامي من القاهرة.
ماذا أعلن أوباما؟
أنطلق أوباما من اعتراف – مضمر تارة صريح تارة أخرى – بفشل خط بوش، عندما عبر عن رغبته القوية والمخلصة في إنهاء المعركة ضد الإسلام والمسلمين، وقال خطأ إن امريكا لم تخض في الماضي الحرب ضد الإسلام ولن تخوضها في المستقبل، وتعهد بإضفاء مسحة طبيعية على علاقتها معه، ستشمل أول من تشمل مسلمي امريكا ذاتها، الذين لن يتعرضوا بعد الآن لما يقيد حقهم في ممارسة شعائر دينهم بالطريقة التي يختارونها، وستصل إلى مسلمي العالم في كل مكان، الذين يشاركون امريكا حب الحرية والعدالة، ولن توجه إليهم أية عمليات من تلك التي تستهدف من أسماهم ‘المتطرفين ‘، الذين يشكلون خطرا على العالم كما على أمن امريكا القومي!.
في هذا الإطار، قدم أوباما برنامجا من سبع نقاط هدفه خلق أجواء ومناخات جديدة بين بلاده والعالم لإسلامي، تتشعب مفرداته وتمتد من تنشيط التعارف والتواصل إلى خلق مشتركات تقوم على قيم الإسلام وامريكا الواحدة أو المتشابهة، وفي مقدمها قيم التسامح، التي يجب أن تؤسس لعلاقات حوارية/ سلمية يسهم فيها الجانبان، وتتعين بجهودهما، التي ستوجه نحو أقامة بيئة دولية تخلو من العنف، تستند إلى تنمية متداخلة ومتبادلة، ومصالح تتوسع فتتحول إلى قاعدة تقوم عليها حقبة جديدة من التفاهم، تتيح لهما بلوغ خيارات متقاربة أو موحدة، فيما يتصل بمصالح الدول الجزئية أو بمصالح العالم الكونية، التي يجب أن تكون مشتركة بدورها.
أخيرا، وفي الجانب التطبيقي، جعل الخطاب حل مشكلات السياسة مفتاح الباب الذي ستدخل امريكا والعالم الإسلامي منه إلى العلاقات الجديدة، وخص مشكلة فلسطين باهتمامه، وأعلن، لأول مرة في سياسات بلاده نحو الشرق الأوسط، الاقتناع بأن حل مشكلات المنطقة يجب أن يكون مترابطا، لكونها مشكلات متداخلة ومترابطة، بدءا من قنبلة إيران النووية مرورا بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وبالدولة الفلسطينية، التي قال إنها يجب أن تكون مستقلة وقادرة على الحياة، وصولا إلى إعادة الأراضي العربية المحتلة لأصحابها.
إذا كان برنامج أوباما قد أملته الحاجة إلى الخروج من موقف ضعف ورثه عن إدارة بوش، وإذا كان هذا البرنامج خطوة إلى الوراء يقوم بها رجل يبحث عبر تراجعه عن أرضية صلبة تمكنه من احتواء انتكاسات عديدة نزلت ببلاده في مناطق كثيرة من العالم – وليس فقط في العالم الإسلامي وشملت الاقتصاد والسياسة… الخ، فإن هذا البرنامج يضم كذلك نقاطا يمكنها إرساء أسس يمكن أن تتحقق بمعونتها علاقات دولية ذات سمات جديدة، أهمها التعهد بوضع حد للـ ‘حرب على الإرهاب’، التي كانت الشكل الذي كثف علاقة امريكا مع العالم الإسلامي بل والعالم بأسره، والتعهد بوقف ما اعتبرته إدارة بوش ‘حربا عالمية رابعة ‘ يمكن كسبها بالوسائل العسكرية. لقد عبر اوباما بوضوح عن عزمه على إيقاف هذه الحرب، وجدد تعهده بالانسحاب من المناطق التي تخاض فيها كالعراق، الذي قال إن جيش امريكا سيغادره عام 2012، وأفغانستان، ما أن تسنح الفرص للانسحاب. لقد رسم أوباما صورة عالم إسلامي تناقض تماما ما كان بوش يرسمه للإسلام، وشرح بشيء من الإسهاب أهمية الانفتاح الاقتصادي والتواصل الإنساني وتبادل الخبرات بالنسبة إلى مستقبل امريكا والإسلام، وعبر عن الثقة بضرورة أن تحقق الوسائل الاقتصادية والتقنية والحوارية ما عجزت الوسائل العسكرية عن بلوغه، في الخارج الإسلامي كما في الداخل الامريكي.
من الضروري القول: إن أوباما سيحتاج إلى بعض الوقت – من ثلاثة أشهر إلى عام على أرجح تقدير قبل أن يتمكن من تطبيق برنامجه إن سمح له بأن ينجح أصلا في تطبيقه !-، مع أنه يبدو مستعجلا لتنفيذ القسم السياسي منه، وخاصة في فلسطين وإيران وسورية والعراق، بما أن هذا القسم هو مدخل سياسي مباشر إلى القسم الآخر والاهم، القسم الاستراتيجي، الذي سيؤسس لعلاقات امريكية جديدة مع عالم إسلامي يعني النجاح في كسبه أو حتى تحييده تحقيق اختراق امريكي غير مسبوق في العالم، سيظهر أثره حيال روسيا والصين أيضا، بعد أن رتب في الأشهر القليلة الماضية، ومن موقع القبول بشيء من الندية، علاقاته مع أوروبا : على صعيدي الاقتصاد والناتو: في ما يتصل بمعالجة الأزمة الاقتصادية والموقف من بقية العالم.
يحتاج أوباما إلى فسحة من الوقت يترجم خلالها ما تتطلبه توجهاته من تدابير سياسية وخطط تنفيذية وعملية. بما أن مفتاح عمله سيتركز بدرجة كبيرة على المنطقة العربية، التي أفرد لها كراوتهامر مكانة حاسمة في الصراعات الدولية لحقبة ما بعد سقوط السوفييت وانتهاء الحرب الباردة، فإنه ستكون لدى قادة العرب، بالمقابل، فرصة أخرى لرسم سياسات مشتركة تمكنهم من وقف التدهور العربي الشامل، ومساعدة فلسطين على إقامة دولتها الحرة والسيدة والمستقلة، والعراق من إجلاء الجيش الامريكي عن أراضيه، وسورية ولبنان على استعادة أراضيهما المحتلة، ومن إيجاد مكان لأمتهم تحت الشمس، كأمة حرة لها الحق في الكرامة والعدالة والتقدم نحو العصر.
يمثل خطاب أوباما فرصة جديدة للعرب، وسواء كان الرجل صادقا أم كاذبا، فإن الكرة الآن في ملعبنا، نحن الذين نستطيع، بالإفادة من موقف امريكا الجديد وبتقوية أوضاعنا، في الداخل العربي كما في محيطه الخارجي، تقييد قدرة الرئيس الامريكي على المناورة وكسب الوقت، والحد من خطر عودة امريكا إلى سياسة تقليدية قامت على العصا الغليظة في اليد والكلام المعسول على اللسان.
لقد قال أوباما ما عنده. ألا تستحق المتغيرات التي تحدث عنها لقاء يقول فيه القادة العرب بصوت مسموع ما عندهم، وما يعتزمون فعله، ليلتقطوا الفرصة ويكونوا من الصادقين؟!

‘ كاتب من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى