أزمة كتاب أم أزمة قراءة؟
نبيل محمود السهلي
في الوقت الذي تشير فيه الدراسات والتقارير الدولية والعربية إلى تحسن معدلات ونسب السكان العرب الذين يستخدمون أجهزة الحاسوب وشبكة الانترنت العالمية وكذلك أجهزة الاتصالات الحديثة مثل الهاتف النقال ، تشير الحقائق والدراسات الى أن الكتاب العربي بات يواجه أزمات حقيقية في مستويات النشر والقراءة والترجمة على حد سواء. كل الدلائل تشير الى أنه رغم الارتفاع الكبير في مجموع سكان الوطن العربي، إلا أن بلداً مثل هولندا أو البرتغال، يطبع في كل منها كتباً أكاديمية و أدبية وعلمية أكثر من ما يطبع في الدول العربية مجتمعة، وبذلك يعتبر الوطن العربي من اقل الأقاليم في العالم المنتجة للكتب بصنوفها المختلفة مقارنة بعدد السكان. وتكون الصورة أكثر سوداوية عند الإشارة إلى مجموع الكتب المترجمة إلى لغات عديدة على مدار العام مقارنة ببعض الدول الأوروبية، ودول أمريكا اللاتينية أيضاً مثل البرازيل على سبيل المثال لا الحصر .
وفي هذا السياق اشار تقرير لمنظمة الطفولة اليونيسيف صادر مؤخراً عن الأمم المتحدة بمناسبة يوم الكتاب العالمي؛ الى ان الدول العربية مجتمعةً أنتجت خمسة آلاف كتاب خلال العام المنصرم 2008؛ أي بمعدل (14.3) كتاب لكل مليون مواطن عربي. في مقابل ذلك استطاعت الولايات المتحدة الأميركية التي يصل مجموع سكانها الى (290) مليون نسمة إصدار (300) ألف كتاب؛ أي أن كل مليون مواطن أمريكي يصدرون (1034) كتاباً. كما اشار الى ان الطفل العربي يعتبر اقل مستوى في مجال القراءة مقارنة بالاطفال في دول العالم؛ حيث تؤكد المعطيات الصادرة عن اليونسيف ان الطفل العربي يقرأ لمدة سبع دقائق خلال العام، في حين يقرأ الطفل الأميركي لمدة ست دقائق يومياً. وتشير دراسات مختلفة الى أن العرب هم أقل الشعوب انتاجاً للكتب؛ إذ يشكل العرب حوالى خمسة في المائة من مجموع سكان العالم؛ في حين لا تتجاوز نسبة إنتاج الكتب عندهم واحد في المائة من مجموع الإنتاج العالمي للكتب. وتشير الإحصاءات نفسها الى أن النسبة تختلف مع الكتب الدينية والتراثية، حيث تبلغ نسبتها 17 في المائة من مجموع الإنتاج العربي في مقابل متوسط عالمي لا يزيد على 59 في المائة، وتعتبر نسبة الكتب في ميادين العلوم الاجتماعية والأدب والفن ضئيلة جداً. وتؤكد الإحصاءات أنه في نهاية عقد التسعينيات من القرن المنصرم لم تنشر الدول العربية مجتمعة ً إلا 1945 كتاباً أدبياً وفنياً؛ كما أن الناشرين يعتمدون سياسة التنويع في إصداراتهم، وقلما توجد دور نشر متخصصة في مجال معين كما تصل نسبة النشر الموزعة على أنواع الكتب: أدب 20 في المائة، إسلاميات 15.3 في المائة، كتب أطفال 3.12 في المائة، ثقافة عامة 8 في المائة، سياسة 6 في المائة شعر 8 في المائة، علوم اجتماعية 4.6 في المائة. وجميع النسب لا يمكن الاعتماد عليها كثيرا؛ حيث يجب ان ترصد مؤسسات الجامعة العربية ذات الصلة بالبحث والدراسة اتجاهات تطور انتاج الكتاب في الدول العربية وتوصيف معوقاته والعمل على الحد منها ما أمكن؛ وخاصة لجهة تراجع مقص الرقيب الحكومي.
تكمن المعوقات الرئيسية في عدم تطور طباعة الكتب والنشر والترجمة في الدول العربية في عدم إيلاء الحكومات أهمية خاصة لدور الكتاب في نشر الوعي بين أفراد المجتمع والقدرة على رفع الأداء في المستوى الاجتماعي والاقتصادي وبناء الحضارة الإنسانية، لأن دور الدول في الأقاليم النامية بما فيها الدول العربية ينحصر في بناء الجيش والابقاء على السيطرة المطلقة على مقاليد السلطة لجهة نهب مزيد من خيرات البلاد. واللافت للنظر أن ثمة تراجعاً حقيقياً قد حصل في أداء دور النشر في الدول العربية منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين، بسبب انخفاض الطلب على الكتاب من قبل أفراد المجتمع، حيث بات الاعتماد الكبير على شبكة الانترنت ومحركات البحث للحصول على أية معلومة في الأدب والسياسة والاقتصاد والعلوم، وذلك على الرغم من صدقية الكتاب الذي يصدر عن دار نشر أو مراكز بحث علمية وفق أصول وأدبيات معينة، في حين تشير الحقائق إلى وجود قرصنة كبيرة في المواقع الالكترونية دون الرجوع إلى صاحب الدراسة أو البحث أو الكتاب أو المقالة. كما انه مع تزايد انتشار الفضائيات وتطور أدائها بفعل انسياب مزيد من الأموال إليها، ازداد اهتمام المواطن العربي بالشاشة الصغيرة، وباتت مصدره الملهم في الثقافة والسياسة والاقتصاد والعلوم والرياضة. أصبحت الشاشة الصغيرة بمثابة مصدر المصادر للمواطنين العرب في شرائحهم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، الأمر الذي أدى إلى تراجع دور المكتبات وريادة التجمعات والأندية الثقافية التي كانت سائدة في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم في دول عربية عديدة، وبات الشح في اقتناء الكتب سيد الموقف. بيد ان ذلك لم يمنع من ظهور مثقفين كبار وعلماء في مجالات الكيمياء وغيرها، واستطاعوا الحصول على جوائز دولية قيمة ولها مكانة استثنائية، مثل جائزة نوبل للآداب والعلوم والكيمياء. إذا يمكن التأكيد بأن أزمات مستعصية باتت تواجه الكتاب العربي في ظل ثورة المعلومات والبث الفضائي وانسيابهما بشكل سريع، وقد تركزت تلك الأزمات في النشر بفعل غياب برامج الدول والموازنات الخاصة للثقافة ونشرها من خلال المساعدة في نشر الكتاب وتوزيعه بأقل الأسعار حتى يصل الى كل مواطن عربي للإفادة منه. وقد رافق ذلك ترد واضح في عملية الترجمة والتواصل مع دول العالم لإيصال صورة العرب الحقيقية في بناء الحضارة الإنسانية، ولتعزيز انطلاقة جادة للكتاب وتعميمه. لابد من وقفة جادة من قبل الدول العربية ونقصد هنا الحكومات وهيئات المجتمع المدني لدعم دور النشر ومراكز البحث من اجل عمل حقيقي لنشر الثقافة عبر تشجيع طباعة الكتاب ونشره حيث لا يزال مدخلاً هاما في بناء الحضارة الإنسانية وتطورها.
المستقبل