فيلم التحريك الامريكي ‘فوق’: كم واحدا منا يحتفظ بغطاء ‘كازوزة’ من طفولته!
أحمد يوسف
لا تستغرب أن يكون هناك فيلم يحمل عنوانه كلمة واحدة: ‘فوق’، فبرغم بساطة العنوان فإن الفيلم الموجه أساسا لجمهور الأطفال يحمل قيمة فنية وإنسانية تسمو ‘فوق’ عشرات الأفلام المصرية التي نشاهدها منذ سنوات، ونشاهدها حتى الآن بصبر منقطع النظير، ويا ليت صناع أفلامنا يتعاملون معنا باعتبارنا أطفالا ناضجين بحق على النحو الذي تراه في فيلم ‘فوق’، الذي يأتي من شركة بيكسار لأفلام التحريك التي تثبت فيلما بعد فيلم، منذ ‘قصة لعبة’ وحتى ‘وولى’، أن فنانيها يضعون نصب أعينهم صناعة وجدان جيل جديد بقدر هائل من الجدية. وإذا كانت شركة ‘دريم ووركس’ (وسبيلبيرغ أحد أهم شركائها) تقدم بدورها أفلاما للتحريك تنافس شركة بيكسار منافسة شرسة، فإن دريم ووركس تجتر القيم التقليدية الأمريكية وتعيد إنتاجها: الحياة صراع شرس، سوف يفوز فيها إما أنت أو الآخرون، ومعيار النجاح الوحيد هو الثروة ومتع الاستهلاك، والغاية تبرر الوسيلة. والغريب أن أفلام بيكسار تأتي على العكس تماما، حتى أنني أراها تمثل ‘يسارا’ ثقافيا وفنيا ناضجا بالمعنى الكامل للكلمة، فالقيم التي تتردد في أفلامها هي أن الحياة تقوم على التعاون والتفاعل، وأن تحقيق السعادة يجب ألا يأتى أبدا على حساب ‘الآخر’، بل ربما كان تحقيقها الفعلي يأتي ‘مع’ هذا الآخر، ناهيك عن السخرية العميقة والجادة في أفلام بيكسار من ‘البارانويا’ التي تجتاح الثقافة الأمريكية في المستويات العليا من المجتمع والسلطة أو لدى رجل الشارع العادي على السواء.
لعلك لاحظت أنني بدأت المقال بالحديث عن ‘الرسالة’ في أفلام بيكسار أو دريم ووركس، وهو أمر يثير قدرا كبيرا من المرارة بداخلي، فهذه هي السينما الأمريكية التي نردد عنها أنها سينما هروبية لا تحمل رسالة من أي نوع، وأنها لا تهدف إلا للتسلية العابرة التي ينسى فيها المتفرج واقعه، بينما الحقيقة أن هذه النزعة الهروبية ذاتها تكون ‘الرسالة’ في بعض الأفلام، والسينما الأمريكية في كل مراحل تاريخها السلبية والإيجابية تعي تماما تأثير الأفلام في المتفرج، وتشكيل وجدانه بشكل غير واعٍ في أغلب الأحيان، لا فرق في ذلك بين أفلام الخيال ‘شبه’ العلمي وأفلام الرعب، بل أفلام الأطفال أيضا، في الوقت الذي أرجوك فيه أن تتأمل معظم أفلامنا وتسأل نفسك عن ‘الرسالة’ فيها، وأؤكد للمرة المئة أنني لا أقصد وعظا وإرشادا، بل أقصد التأثير الذي يتركه الفيلم عليك بعد أن تشاهده. إنك ترى صناع أفلامنا يتحدثون في البرامج التليفزيونية الإعلانية التي تقوم على الدعاية الفجة لأفلامهم، وتسمعهم يرددون عبارات ضخمة عن المهمشين والعشوائيين، وعن الفوضى والعنف، لكني أرجو أن تسأل نفسك بعد مشاهدة تلك الأفلام: هل تغيرت بسبب الفيلم رؤيتي للعالم الذي أعيش فيه؟ وهل أصبحت هذه الرؤية أكثر عمقا أم أكثر تشوها؟
أكاد أن أكرر في معظم مقالاتي الأخيرة فكرة تعاود الظهور، وأراها جوهر التخلف الفادح والفاضح الذي تعيشه السينما عندنا، وهو تخلف نبدو أحيانا فخورين به، غير راغبين في تغييره، فكما شاخت وترهلت الدولة في مصر (حكومة ومعارضة) أصاب الوهن والشيخوخة العديد من أوجه حياتنا، ومن بينها السينما، لسبب غاية في البساطة، هو أننا لم نعد نعرف أو نهتم بالطرق المثلى لكي نحكي ‘قصة’، وأرجو من القارئ هنا أن ينظر إلى مصطلح ‘القصة’ بالمعنى الأشمل للكلمة، فحملة أوباما الانتخابية كانت قصة، وهناك في جوهر خطابه في جامعة القاهرة قصة، وصياغة الخبر الصحافي أو المقالة قصة، وفي كل فيلم تسجيلي قصة، فالقصة باختصار هي نوع من البناء، ومن التراكم الحسي والوجداني والعقلي، سواء على مستوى من يصنعها أو على مستوى من يتلقاها، وقصة أي فيلم تسعى إلى أن تجعلك تدخل شيئا فشيئا إلى عالم الفيلم. وأنا لا أعني هنا أي بناء تقليدي من بداية ووسط ونهاية تتبع التطور الزمني للأحداث، بل ربما كانت نهاية الأحداث هي بداية الفيلم، ولتتأمل على سبيل المثال فيلم أورسون ويلز ‘المواطن كين’ (1941) أو فيلم كريستوفر نولان ‘تذكارات’ (2000)، فهما يتلاعبان بالزمن، لكنهما لا يفقدان أبدا القدرة المحكمة في السيطرة على المتلقى، لأن كلا منهما يعرف كيف يحكي حدوتته بطريقته.
وليس غريبا بالطبع أن تكون الحدوتة موجودة في قلب فيلم ‘فوق’، الذي اشترك في كتابته وإخراجه بيت دوكتير وبوب بيترسون، لكن المهم أيضا أنهما ظلا منذ عام 2004 ولمدة خمس سنوات يطوران هذه الحدوتة، والأكثر أهمية تطوير ‘طريقة’ حكايتها، وأرجو من القارئ أن يذهب لمشاهدة الفيلم في دار العرض (قبل أن ينسحب أمام زحف وعنف ابراهيم الأبيض وأقرانه في أفلام صيفنا الحار التي لا تبقى لحظة واحدة في الذاكرة بعد أن ننتهي من مشاهدة الفيلم)، ففي فيلم ‘فوق’ سوف تستمتع في الخمس عشرة دقيقة الأولى ببعض من أرق المشاهد السينمائية وأكثرها بلاغة وعاطفية وتأثيرا، بل إنها تكاد أن تخلو من الحوار. تأمل معي هذه المشاهد: نحن في البداية أمام جريدة سينمائية بالأبيض والأسود، وأرجو أن تتأمل ذلك قليلا، فذلك يقول لك على الفور أن زمن الحدث هو الأربعينات أو الخمسينات على الأكثر، أما الأمر الآخر فإنك سوف تسأل نفسك: فيلم تسجيلي تم تنفيذه بالتحريك؟؟ (ولعل ذلك يذكرك بشطارة الفيلم الإسرائيلي ‘الفالس مع بشير’ الذي يسحبك إلى عالم يقع بين الحلم والواقع المفبرك). في هذه الجريدة السينمائية أخبار عن الرحالة تشارلز مونتز (صوت كريستوفر بلامر) الذي ذهب بمنطاده إلى أمريكا الجنوبية، وقام بتصوير ‘شلالات الفردوس’ التي تنبع فيها المياه من ‘فوق’ جبل شاهق، وأحضر معه هيكلا عظميا لطائر نادر، لكن العلماء يشككون في اكتشافاته ويتهمونه بتزييفها، فيقرر غاضبا أن يذهب بمنطاده مرة أخرى إلى أمريكا الجنوبية، ويقسم أنه لن يعود إلا ومعه هذا الطائر حيا.
في صالة عرض الجريدة السينمائية يجلس الطفل كارل مبهورا، وهو يرتدي على عينيه نظارات الطيارين كأنه يتوحد مع مونتز، ويخرج من السينما منتشيا، يقفز فوق حجر صغير متصورا أنه يعبر التلال، ويدور حول جذع شجرة قصير يعترض طريقه متخيلا أنه يدور حول جبل إيفريست، وفي طريقه إلى منزله يسمع صيحات طفولية من منزل خشبي متهدم، ليدخل حيث يجد الطفلة إيلي (صوت إيلي دوكتير ابنة المخرج)، إنها صنعت من البيت القديم المهجور عالمها الطفولي الخاص، تتصور فيه أنها تقود منطادا يتجه إلى أمريكا الجنوبية، فهي بدورها قد استحوذت على خيالها مغامرات مونتز، ولكنه الاستحواذ في جانبه الأنثوي برغم تصرفاتها التي تشبه تصرفات الصبيان: إنها تحلم أن تقضي حياتها فوق شلالات الفردوس باهرة الجمال. وبعد أن تنمو الصداقة بينها وبين كارل تطلب منه أن يقسم على أن يحققا معا هذا الحلم، وتريه كراسة ‘مذكراتها’ التي تترك فيها معظم صفحاتها بيضاء في انتظار تحقيق الأحلام، كما تمنحه ‘وسام’ الاشتراك في ناديها المتخيل: ‘غطاء كازوزة’ تعلقه على صدره! في نعومة عميقة التأثير يمضي الزمن بالطفلين كارل وإيلي، إنهما يكبران ويتحابان ويتزوجان ويصلحان المنزل الخشبي المهجور ليصبح مرفأهما الجميل، وما تزال إيلي تحلم بالذهاب إلى شلالات الفردوس، وتمر الأيام يبيع كارل فيها البالونات للأطفال (إنها امتداد لمنطاد بطله القديم مونتز)، كما يشارك إيلي في الأعمال المنزلية الصغيرة، ويتأمل معها السحب في السماء فيتخيلان أطفالا لكنهما لا ينجبان، ويحاولان الادخار استعدادا للذهاب إلى رحلتهما المأمولة، لكن مطالب الحياة تدفعهما لإنفاق ما ادخراه أولا بأول، وهكذا يمضي العمر بهما ويصلان إلى مرحلة الشيخوخة (ونصل معهما إلى الزمن المعاصر) دون أن يتحقق حلمهما، وتموت إيلي ويبقى كارل وحيدا وحزينا وعاجزا.
أرجو أن تتذكر عنصرين هامين هنا: ففي هذه المشاهد الافتتاحية يعتمد صناع الفيلم على الحذف البلاغي الذي يكاد أن يستغني عن الحوار، أما العنصر الثاني فهو ذلك القدر الهائل من الشجن الذي يتحدث برقة شديدة عن حقائق الحياة والموت، وعن العمر الذي يمضي دون أن يحقق المرء هدفه، ويزداد الشجن عمقا في وجدان كارل العجوز (صوت إدوارد آزنر ولكن في هيئة سبينسر تريسي)، الذي يشعر بالوحدة بعد رحيل رفيقة عمره وأحلامه، بل يصبح الأمر أكثر قسوة عندما يصحو كارل من نومه فيجد أن العمارات الشاهقة تشيد من حوله حتى يكاد أن يختنق بينها كوخه الخشبي الصغير، وفي سورة غضب بعد تحطم صندوق بريده بسبب الإنشاءات يضرب أحد العمال بعكازه، وفي فوتومونتاج آخر ودون كلمة واحدة تدرك أنه حوكم، وصدر قرار بإيداعه في مصحة للمسنين، وتلك ياعزيزي القارئ إحدى قيم المجتمع الأمريكي، حيث لا مكان للعجائز كأنهم آلات قديمة تعطلت تروسها فيتم إلقاؤها في مخزن الكراكيب!
في صباح يوم تسليمه لدار المسنين يفاجأ الجميع بأن كارل قد ربط آلافا من البالونات في مدخنة منزله، وهكذا يطير المنزل فوق المدينة في مشهد مذهل، إن كارل قرر في نهاية حياته أن يحقق لحبيبته الراحلة أمنيتها التي لم تتحقق: أن يكون لهما بيت ‘فوق’ شلالات الفردوس، ولتتأمل كيف يظل كارل يحدث صورتها كأنها ما تزال تحيا (أو قل بالأحرى أنها بالفعل ما تزال تحيا، في وجدانه)، كما أنه لا يخلع عن سترته ‘وسام غطاء الكازوزة’ الذي منحته له في طفولتهما. وبدءا من طيران المنزل الخشبي في الفضاء سوف يدخل الفيلم في عالم التشويق، تتقاطع فيه مشاهد التأمل مع مشاهد الحركة والإثارة، خاصة أن كارل يكتشف أن صبيا يدعي راسيل (صوت جوردان ناجاي) قد ركب معه المنزل الطائر، فهو عضو في الكشافة يريد الحصول على وسام مساعدة العجائز، وهنا ترى كيف أن صناع الفيلم يؤكدون على اشتراك الشيخ والصبي في رحلة واحدة نحو تحقيق الحلم، هي أقرب إلى الرحلة نحو النضج (من المفارقات المدهشة: نضجهما معا!!)، كما لا يفوتك أن ملامح الصبي راسيل تشير إلى أصوله الآسيوية، وهي لمحة ذكية من صناع الفيلم الذين يؤمنون بضرورة التأكيد للمتفرج الطفل الأمريكي على قبول كل الآخرين دون تفرقة أو تمييز، لذلك فإن الطفل البطل ليس هو الصورة الغربية النمطية التي تطلب السينما الأمريكية في أغلب الأحوال من الأطفال التوحد معها.
لن أحكي لك مزيدا من مغامرات الشيخ كارل والصبي راسيل في أدغال أمريكا الجنوبية، وعثورهما على الرحالة مونتز الذي أصبح بدوره عجوزا تستحوذ عليه فكرة الإمساك بالطائر النادر حتى يثبت للجميع بطولته، وهو الاستحواذ الذي وصل بعد هذه الأعوام الطويلة إلى درجة البارانويا والشراسة (مثل بارانويا السياسة الأمريكية)، حتى لو انتزع الطائر من صغاره. وسوف يصبح الفيلم في الجزء الأخير منه صراعا بين كارل وراسيل من ناحية، ومونتز من ناحية أخرى، فالشيخ والصبي يحاولان إنقاذ الطائر من براثن الرحالة المهووس بتحقيق انتصاره.
لكني أرجو أخيرا أن تتأمل بعض التيمات العميقة التي يلقيها الفيلم إلى المتفرج: إنه يقول لك أنه يجب عليك ألا تصدق كثيرا صدق وبراءة ‘الرموز’ التي كنت تؤمن بها صغيرا، فربما أصبحت مع الشيخوخة والنهم إلى السلطة أقرب إلى تحقيق النجاح الفردي على حساب القيم الإنسانية الحقيقية، كما يعيد كارل تصفح مذكرات حبيبته إيلي فيجدها قد كتبت أنها حققت إنجازا من بعض أحلامها حين تزوجت منه، وتطلب منه أن يبدأ مغامرة جديدة بعد رحيلها، فتراه يتخفف من بعض أثاث كوخه (وفيها بعض ذكرياته) لكي يظل قادرا على الطيران، وأخيرا فإنه يحقق الحلم بأن يرسو البيت الخشبي فوق شلالات الفردوس كما كانت إيلي تحلم. وفي المشاهد الأخيرة نرى العجوز كارل يجلس على رصيف الشارع مع الصبي راسيل، كأنهما أب وابنه، ويعطي كارل إلى راسيل ‘غطاء الكازوزة’ ليعلقه كوسام على صدره. ترى كم واحدا منا تمسك بحلمه القديم مثل كارل ولم يتحول إلى وحش مثل مونتز؟ كم واحدا منا ظلت صفحات ذكرياته مفتوحة لكي يكتب فيها مغامرة جديدة؟
كم واحدا منا يحتفظ بغطاء كازوزة من طفولته، يحتفظ بأحلامه ولا يتخلى عن تحقيقها حتى لو بدا له الأمر مستحيلا؟ لكن واقعنا وأفلامنا تشوه أحلامنا، وتعلمنا أن نعيش في الكوابيس، وأن ننحني إلى’أسفل’ تحت وطأة القهر المادي والمعنوي، حتى أننا لا نفكر لحظة واحدة في أن ننظر إلى ‘فوق’، إلى السماء المفتوحة، ننطلق فيها بخيالنا ولا نتخلى عن أحلامنا أبدا!!
ناقد سينمائي من مصر
القدس العربي