صبحي حديديصفحات ثقافية

مرمر جبرا

null
صبحي حديدي
أعادتني أشغال بحثية، حول التنظير النقدي العربي لقصيدة النثر في ستينيات القرن الماضي، إلى أعمال جبرا إبراهيم جبرا (1919ـ 1994)، الروائي والناقد والمترجم والشاعر الفلسطيني الذي لم يغمض عينيه للمرّة الأخيرة في فلسطين، بل رحل في العراق، وطنه الثاني المختار. ولقد أدهشني، في غمرة انتباهة خاطفة إلى أنّ الزمن يبدو أحياناً وكأنه يمرّ بإيقاعات أسرع بكثير ممّا نخال، أنّ عشرين سنة قد انقضت على صدور كتابه الصغير ‘تأملات في بنيان مرمري’، (رياض الريس للنشر، 1989)، والمفضّل عندي شخصياً بين الإصدارات العديدة التي ضمّت مقالاته النقدية.
وهذا الكتاب ردّني إلى ‘البحث عن وليد مسعود’، 1978، التي أظنّها تحفة جبرا الروائية الكبرى، وإلى ذلك المقطع الشهير الدالّ: ‘شعبي الأعزل يقتلونه، ويقتلعونه، وينسفونه، ويبعثرون أشلاءه عبر الوديان. الأرض وجبالها. مطر مطر مطر. فلا قتل ولا موت بعد ذلك. تهاوت الجدران وتعالى الصراخ، والمطر ينهمر، وأفواه الغرب تتقيأ أحشاء السماء بمجموعها على المدينة المجرحة المسكينة، المدينة المعشوقة المنتهكة في المطر، وفي الليل، والمنتهكة في الضحى والظهيرة، في الصحو والغيم والعاصفة والسكون. بكيت صامتاً’.
وقد يكون مشروعاً القول إنّ وليد مسعود هو الفلسطيني العامّ القياسي، إذا جاز التعبير؛ وهو ثانياً جبرا ابراهيم جبرا، الفلسطيني على وجه التحديد؛ وهو ثالثاً المجاز الروائي عن فلسطين، كما تتوسله فصــــول الرواية.
كذلك يسهل الإفتراض بأن أوديسة ترحال وليد مسعود، في جغرافيا عريضة ومتشعبة واقعية ومتخّيَلة، هي ببساطة أوديسة التشرّد الفلسطيني؛ وليس غيابه الغامض الأخير سوى ‘غياب’ فلسطين ذاتها. بيد أن الجوهري الأهمّ في أدب جبرا يتجاوز هذه الحقيقة البسيطة، التي تبدو أشبه بتحصيل حاصل، إذ أنّ ما يتردد على لسان وليد مسعود في الإقتباس السابق يبدو أشبه بمرثية منتزَعة من نصّ بابلي، أو صلاة خاصة بطقس خصوبة تموزي، أو هلوسة شكسبيرية في الفصول الختامية من مسرحية ‘الملك لير’.
ولعلّ هذا بالضبط هو ما ميّز أدب جبرا عن سواه من روائيي فلسطين المحدثين، أي توسيعه للأبعاد الحضارية والتاريخية الفلسطينية، ومزجه بين التراثات الرمزية والأسطورية الكنعانية والفينيقية والسومرية والبابلية، وتشديده على بُعْد ميتافيزيقي في الشخصية الفلسطينية لا يقف عند حدود فلسطين التاريخية، بل يمسح الساحل السوري والهلال الخصيب وصولاً إلى بلاد الرافدين. وهذا الخيار لم يكن سمة فنية عامة بين سواها، تخصّ الموضوعات أو الأسلوب، فحسب؛ بل كان في الواقع نهج انحياز تاريخي، وأوالية مقاومة ثقافية.
ففي رواية ‘السفينة’، 1978، يحشد جبرا عدداً من الشخصيات الفلسطينية والعربية والمتوسطية (رجل إسباني، وسيدة إيطالية، وثالثة فرنسية) في سفينة، ثم يجعل هموم التاريخ والماضي والحاضر تخيّم على الجميع، ويدير ما يشبه البانوراما السيكولوجية العريضة التي تجمع أو تفرّق الأشخاص والتواريخ والهويات. أمّا الفلسطيني على ظهر السفينة، وديع عساف، فإنه يصرخ مخاطباً البحر: ‘سلِ الفلسطينيين! سلِ الفلاح الذي يذكر تجربة قدميه على تلك الأرض، كأنه يذكر لذّة حياته الوحيدة، كأنه يقول إن حياته بعد أن أُبعد عن أرضه ما عادت حياة. هذا البحر الأزرق يتألق غير مكترث، غير حافل. أنا أعرف ذلك، لأنه يظنّ أنه يجمع حضارات الدنيا على شطآنه، ولكنه يحمل أيضاً لطمات من شاطئنا تجعله على هذا التألق وهذا الحسن. أنا أحب البحر المتوسط وأركب السفينة فيه، لأنه بحر فلسطين. بحر يافا وحيفا، وبحر هضاب القدس العربية وقراها. فأنت إذا صعدت هضاب القدس، ونظرت غرباً لن تعرف أين تنتهي الأرض وأين يبدأ البحر، وأين يلتقي الإثنان بالسماء، فهي ثلاثتها متداخلة متمازجة ومتماثلة’.
والمقالة التي تحمل عنوان كتاب ‘تأملات في بنيان مرمري’ تتحدّث عن ‘تاج محل’، ولكنها أيضاً تجري سلسلة مقارنات بديعة، جمالية وثقافية وتاريخية، بين ذلك الصرح الهندي وسلسلة تفاصيل فنّية نظيرة له، على هذا النحو أو ذاك، في حضارات الشرق الأوسط: التماثيل الفرعونية، في متحف اللوفر الفرنسي؛ النجمة الثمانية، أو ‘المثمّن البغدادي’ في المصطلح المعماري؛ مكعّب الكعبة، في مكة المكرّمة؛ مثمّن مبنى قبّة الصخرة، في بيت المقدس؛ والمرايا المحدّبة، القادمة من مدينة حلب السورية…
إعلاء شأن هذا التركيب الحضاري يبدو منطقياً في ضوء المعطيات العديدة التي توفّرها سيرة جبرا، إذْ كان بين أبرز مؤسّسي حركة ‘الشعراء التموزيين’ الذين صعدوا في بيروت أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، ومجّدوا أساطير تموز وعشتار وجلجامش في سياق بحثهم عن سبيل البعث والقيامة، واستلهموا شخصية المسيح وفكرة الصلب من أجل الخلاص الجماعي. ولم يكتف جبرا بالمشاركة النشطة في تأسيس مجلة ‘شعر’، مع يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج، بل كانت أفكاره تنطوي على مقدار جلي من التعاطف مع العقيدة العامة للحزب السوري القومي الاجتماعي.
لكنه، أيضاً، جبرا الذي يجيب، في الكتاب ذاته، على سؤال من ماجد السامرائي حول قصيدة النثر: ‘أعدنا إلى هذا المصطلح الخاطىء! ما أبأس حالنا في بعض قضايا الأدب! نستعير من الآخرين مصطلحات لا نفهمها على وجهها الصحيح،’ثمّ نبني على خطئنا نظاماً كاملاً يستمر فيه الخطأ إلى ما لا نهاية، فاسداً لأنه مبنيّ على فاسد’!’
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى