‘يد ملأى بالنجوم’ لرفيق شامي في ترجمتها العربية: الروائي حين يختفي خلف لغة مراهقة!
ناظم السيد
بيروت- ‘القدس العربي’ يعيد رفيق شامي في روايته ‘يد ملأى بالنجوم’، الصادرة أخيراً عن ‘منشورات الجمل’ بترجمة كاميران حوج، تأثيث البيئة الدمشقية من خلال فتى يبلغ من العمر 14 سنة، يقرر كتابة مذكراته لأنه- كما يصرّح- بات ينسى. الفتى ابن الفرّان، المسيحي الذي يعيش في بيئة مختلطة يعيش فيها المسيحيون والمسلمون والأكراد والأرمن والكلدانيون وبعض الأشخاص من جنيسات أخرى كاليونانية والإيطالية، يقرر الكتابة كفعل ضدَّ النسيان. هكذا ومنذ الصفحة الأولى، يخبرنا المؤلف بنيته هذه: الكتابة كفعل أخلاقي، الكتابة كتمسك بالذاكرة. وعليه يضعنا المؤلف، على مدار نحو 340 صفحة من اليوميات التي تشكل مجمل الرواية، أمام عمل يوثق الحياة اليومية لإحدى الحارات الفقيرة في دمشق. هذا التوثيق سوف يشمل علاقات الناس بعضهم بعضاً، المشاعر، الثقافة، المهن، الحياة السياسية، القمع والاستبداد، الانقلابات العسكرية المتواصلة، التعليم، الاختلاطات الدينية، المسح الطوبوغرافي للبيوت الطينية، الطموحات البسيطة أو المبالغ فيها للناس البسطاء. وسوف نشهد على مدى الصفحات كيف يتوسع السرد الذي بدأ بالفتى وصديقه ابن الخامسة والسبعين العم سليم، الشخصية المحورية في هذا العمل، ليشمل مجتمعاً كاملاً، ودولة كاملة، من غير أن يغادر الروائي وشخصياته هذه الحارة الدمشقية الصغيرة. سيكون من الممتع أن نشهد هذا التنويع والتوسيع والاستثمار السياسي والاجتماعي بأدوات بسيطة وأحداث قليلة ومنضبطة ومتقشفة إلى حدٍّ ما. لم يقع رفيق شامي، طوال روايته هذه، في الخطابية السياسية وهو يقدّم صورة عن الحياة السياسية وأنظمة الحكم في سورية. طوال الرواية كنا نسمع صدى انقلابات أكثر مما كنا نشاهدها. يكفي أن نشاهد تغيرات عمرانية طفيفة لنستنتج أن ثمة انقلاباً حدث في البلد أو تغيراً طرأ في النظام السياسي. مع ذلك، فإن الرواية لدى رفيق شامي، إلى كونها أرشيفاً واقعياً أو متخيلاً، هي فعل أخلاقي. هذا الفعل لا يتم التصريح عنه بشكل مباشر بل هو مضمر تحت هذه الحفريات المتواصلة في الذاكرة سعياً لتخليد المكان. كل هذا لا يلغي أن الفن الروائي هنا يظهر كمتعة خاصة وشخصية. بدا كأنما الروائي يسرد لنفسه. يحكي لكي يشفى. يعيد على مسامعه خبريات وحكايات وطرائف ومواقف وذكريات وأشخاصاً وأمكنة من حياة سابقة وآفلة. هكذا، تتوافر ثلاثة توجهات كبرى في هذا العمل: السرد كمتعة ذاتية، السرد كذاكرة، السرد كفعل أخلاقي. ثلاثة توجهات ترك المؤلف لعمله تدبيرها من غير أن تتحول هذه التوجهات إلى شعار.
يجيد رفيق شامي الاختباء خلف شخصياته. إنه يقدّم عبارة روائية مختبرة. نحن أمام شخصيات تتكلم بحسب مهنها وثقافتها وعمرها. البطل ابن الفرّان شاب طموح يكتب الشعر ويحلم بالتغيير. الفران شخص بسيط يفضل تعليم ابنه حرفة على المدرسة. زوجته امرأة متدينة ومتواضعة. صديقه محمود شاب فكاهي يكتب مسرحيات كوميدية. حبيب صحافي نُفي وناضل وحين حكم حزبه تمَّ سجنه. نادية حبيبة ابن الفران فتاة مخلصة. والدها التحري شخص انتهازي. العم سليم صاحب حكمة ونكتة. هذه الشخصيات تتكلم وتفكر وتعيش كما رسمها المؤلف. وهي شخصيات تكاد أن تكون منفصلة عن المؤلف. إنها تتصرف تقريباً ككائنات مستقلة في النص الأدبي.
هنا يمكن القول إن ثمة مسافة بين المؤلف وشخصياته نادراً ما نجدها في الرواية العربية. ما يؤخذ فقط على هذه الشخصيات أنها راديكالية بمعنى من المعاني. إنها تعيش بين عالمين هما عالما الخير والشر. هكذا لا نعرف شيئاً عن التحري والد نادية إلا انتهازيته وحقارته. لم نره يوماً يضعف أو يمزح أو يأكل. العم سليم أيضاً دائماً يمزح ويقدّم حكمته إلى الآخرين. الصحافي حبيب نزيه وصاحب مواقف مبدئية رغم أنه عاشق مريم المتزوجة (هنا نسجل له هذه الميزة التي تناقض النزاهة السياسية والحزبية التي يتمتع بها). محمود دائماً جيد. جورج سيء. الأستاذ كاتب عطوف ومحب. إن رسماً مسبقاً لهذه الشخصيات أفقدها بعض الحيوية. هذا الرسم المسبق يصنع عادة كائنات وظيفية في العمل الأدبي. إنها كائنات تتحرك من أجل هدف محدد. هذا على الأرجح مغاير للحياة التي تبرهن تلونات في الشخصية الواحدة أكثر مما تظهره الرواية.
يعرف رفيق شامي كيف يصنع قناعاً لغوياً لشخصياته وللراوي معاً. البطل المحوري في الرواية ابن الفرّان، وهو الراوي أيضاً، يتكلم بلغة سهلة، لغة فتى في الرابعة عشرة من عمره، ينمو ويكتشف العالم من حوله خطوة خطوة وشيئاً فشيئاً. خلف هذه اللغة البسيطة، السهلة، المراهقة، يختفي جهد روائي كبير. إنه الروائي ناظراً بعين الراوي، الراوي الذي بالكاد بلغ الرابعة عشرة. ليس من السهل أن نتكلم في الاجتماع والعلاقات الإنسانية والسياسة والدين على لسان فتى مراهق. إن بطلاً مثقفاً يستطيع بسهولة أن يحمل هذا العبء. لكن رصد بلد بكامله من خلال عيني فتى مراهق ووعيه لن يكون عملاً مريحاً وموفقاً على الإطلاق.
وهذا ما فعله رفيق شامي من خلال بطله، من خلال راويه صاحب اللغة التي تختلط فيها بدايات النضج مع ترسبات الطفولة. بهذه اللغة التي هي مزيج من التفكر في الأشياء والسؤال عنها أو الاندهاش أمامها كتب رفيق شامي روايته ‘يد ملأى بالنجوم’.
ربما من السهل توجيه اتهام للروائي حول القارئ المسبق الذي يتوجه إليه الروائي، وهو القارئ الغربي. أظن أن هذه إشكالية تجب مناقشتها بحذر. لا شك في أن قارئاً غربياً خفياً يقبع في مخيلة الروائي. لكن توجيه مثل هذا الاتهام- إن صح أن هذا اتهام- ثم إدارة الظهر أمر لن يكون مقبولاً أخلاقياً. أغلب الظن أن الروائي يروي لنفسه بقدر ما يروي لقارئ غربي. هنا يمكن الاستشهاد مجدداً بالسرد بوصفه إخلاصاً للذاكرة، وإن كان إخلاصاً انتقائياً ومتخلياً في الوقت نفسه. يكتب رفيق شامي ما يعرف كتابته، ما يجيد صناعته في عمل روائي. هذه أيضاً حقيقة ينبغي التنبه لها.
أظن أن ‘يد ملأى بالنجوم’ رواية يمكن تقديمها إلى السوق الغربية كسلعة عربية منافسة. هذا حصل فعلاً قبل عشرين سنة، ولا سيما أن الكاتب ترجمت أعماله إلى 23 لغة. لكنني هنا إذ أؤكد أمراً منجزاً فلكي أقول إن رواية رفيق شامي هذه تنتمي إلى الأدب الذي يصلح للمنافسة والتداول في السوق الأدبية وليس ذلك الأدب الذي يحضر خجولاً من باب ‘الاختلاف’ الذي ينتجه الآخر المشفَق عليه دائماً.
القدس العربي