الكتــب التــي لــم نقرأهــا
عباس بيضون
كتاب بيار بايار «كيف نتكلم عن الكتب التي لم نقرأها»، أصاب نجاحا كبيراً. غدا «بست سيلرر» في مكتبة العلوم الانسانية التي قلما تحظى ببست سلرر. يبادرنا الكتاب بموضوع، هو لفرط بداهته، يفوتنا، انه من حيث لم نحتسب «تابو». من هو الذي يعترف بأنه يستند في كلامه إلى كتب لم يقرأها. لا بد من انه سيهين نفسه وسيضع ثقافته كلها موضع ارتياب. لكن الأمر بسيط مع ذلك ولا ينجو منه أحد. ليسوا عديمي الثقافة اولئك الذين يرجعون الى كتب لم يقرأوها بل هم احيانا كثيرة مثقفون كبار او جديون على الأقل. لنستذكر بدون حرج بدءا من الكتب المقدسة. ألسنا نرجع كثيرا الى القرآن والتوراة، فهل يعني هذا اننا قرأناهما حق القراءة. ألم نكتف في الغالب بقراءات جزئية وتواتر سماعي، ألسنا نستشهد مع ذلك بآيات وسور، ولا يسألنا أحد ولا نسأل أنفسنا اذا كنا وعيناها وقرأناها في مواضعها. هناك كتب لا نزال نستعيرها او نرجع اليها في كلامنا: الإلياذة، الاوذيسة، دون كيشوت، الف ليلة وليلة. انها كتب لا يخطر لأحد أن يسأل اذا كنا قرأناها حقا، واذا كنا تصفحناها من الغلاف إلى الغلاف. دون كيشوت وخادمه على كل شفة ولا يمانع أحد في ان يستشهد بمعركة طواحين الهواء الشهيرة، ويتراشق الناس تهم الدونكيشوتية كل يوم، فهل يسألهم أحد اذا كانوا قرأوا دونكيشوت. لا يزال الناس يسترجعون قصة بنيلوب ونسيجها المنقوض، فهل يتطلب ذلك ان يكونوا قرأوا الاوذيسة. وكعب أخيل الشهير هذا، هل يستدعي ان يكون من تمثل به في كلامه ان يكون قرأ الإلياذة، من يجهل حكاية شهرزاد فهل يستدعي ذلك ان يكون الجميع قرأوا «الف ليلة وليلة» من الغلاف إلى الغلاف.
هذا ونحن لا نزال في المشهور المعلم الذي يظل على كل لسان. يمكننا ان نضيف هنا شعراء العربية الكبار وأدباء التراث، من لا يستشهد بالمتنبي وأبي نواس والجاحظ، فهل يعني ذلك اننا عكفنا على آثارهم ووعيناها، أم ان الأمر لا يزيد على كتاب البكالوريا ودروس البكالوريا. نسأل أساتذة الأدب أنفسهم وسنجد أن اكثرهم يعرف هذه الدواوين نتفاً، ويعرفها عن طريق ثان وثالث، ولم يقصدها في امهاتها ومصادرها الاصيلة.
هناك القراءات الجزئية وهي شيء يمكن تعيينه. لا تقرأ المرجع الاصلي لكنك تقرأ عنه كتبا او مقالات، ولفرط ما يتواتر ذلك يقع في ذهنك انك قرأته حقا. بوسعك هكذا الحديث عنه، والأخذ والرد في شأنه، والنقاش حوله. يمكننا هنا ان نتخيل نقاشا في ساعة حول كتاب لم يقرأه فعلا أي من المتنافسين. لكن القراءة ليست كل شيء، هناك السماع، وهو في حالنا عن المثقفين العرب، لا يقل فعالية عن القراءات الجزئية. لا بد من ان جانبا من معرفتنا جاء بالتواتر السماعي. الناس يتكلمون في المقاهي والمجالس في ما قرأوا وما لم يقرأوا. ثمة موضوعات يمكننا ان نسميها موضوعات الساعة. لنتذكر ان الماركسية كانت في يوم حديث كل مثقفين او أكثر اذا اجتمعوا. لنتذكر هذا الكلام الغامض الذي لا يزال يدور عن الحداثة. نحن هنا امام كلام يتناقل ويروى ويأخذه المرء عن غيره، مفاهيم وأوتادا ومباني وترسيمات تتداول ويرسخ منها ما يرسخ ويبقى ما يبقى ويتكون من ذلك كله مقالات مشتركة يختفي مع الوقت مؤلفوها الأول. تغدو هذه ملكا عاما ويشترك فيه الجميع بدون فرق. هذا الضرب من الثقافة السماعية التي يطلق عليها البعض «ثقافة المقهى» ذات حضور نافذ عندنا. اذ الأغلب انها عماد «الثقافة المتوسطة» وهي على ذلك، حبر كثير مما يكتب ويقال. لكننا هكذا لم نعد في معرض الكتب التي لم نقرأها وانما بتنا في معرض الكتب التي سمعناها. انتقلنا من مجال الى مجال وبتنا في موضوع آخر، لا أظن انه خطر لبايار ولا يمكن ان يخطر الا لأمثالنا، اذ لا أحسب ان في الغرب بعد مجالا لثقافة السماع هذه. هذا امتياز لنا ولأشباهنا، وعليه فإنني أوعز لأي كان بكتابة كتاب هو هذه المرة عن «الكتب التي سمعناها».
«الكتب التي لم نقرأها» اساس في ثقافتنا. هي الكتب التي قرأها غيرنا لنا او قرأها عنا. هي على ذلك، اساس في ثقافتنا. القراءة ليست فقط عملا فرديا، انها ماكينة اجتماعية. نحن لا نقرأ وحدنا وانما نقرأ داخل سجال عام، آخرون يقرأون لنا او يقولون لنا ماذا نقرأ. من يتكلمون عن كتب لم يقرأوها ليسوا مدعين. انهم كل المثقفين وكل الكتاب تقريبا. كتب لم نقرأها لكننا قرأنا منها او عنها. لا نقرأ المرجع نفسه، وقد لا نقرأه مباشرة، انما نقرأه عن طريق سلسلة متوالية من القراءات، هذه لا يسعنا تجاوزها، ولا يمكن ان تكون لنا معرفة بالمرجع بدونها، انها جزء منه. ثقافة «الكتب التي لم نقرأها» على ذلك تعم، فالاكاديميون كثيرا ما يعرفون المؤسسين عن طريق ثانية وثالثة. لا نقرأهم لكن نقرأ عنهم. هذا يجعلنا أمام قراءة متسلسلة شبكية لا يمكننا اتهامها او التشكيك فيها.
كان نيتشه في آخر كتبه «هذا هو الانسان» يحمد للمرض انه اعفاه من قراءة كتب نافلة، لكن هذا هو نيتشه الذي طوى ثقافة عالمه وجلس مجلس الاجتهاد، يفتي من عنده، بل يبدأ عصرا آخر للفكر وللانسان. لكن مَثَل التوسير يختلف تماما. كان التوسير في حينه مجددا في الماركسية وساعيا إلى تأسيس نظري لها ولما كانت الماركسية لا تزال في صعودها آنذاك شغلت محاولة التوسير المثقفين وجعلت منه قطبا. كان من أمر التوسير الذي عانى من اضطراب عقلي ما كان، قتل زوجته وقضى بقية أيامه تقريبا في المصح وفي المصح دبّج آخر كتبه «المستقبل يدوم طويلا» الذي بسط فيه سيرة حياته. لن نتوقف طويلا عند هذا الكتاب الفاتن. لكن يهمني هنا ما قاله عن ثقافته. قال انه لم يقرأ أمهات الفلسفة ولم يقرأ الماركسية نفسها جيدا. انه لا يعرف هيغل ولا كانت واضحة وكان يعتمد في شأنهما على سواه. قال ان زملاءه في الجامعة اندهشوا من انه قلما يغشى المكتبة. كان التوسير بحق مثل اولئك الذين يتكلمون عن كتب لم يقرأوها. مثل ناجح. صنعت الكتب التي لم يقرأها منه كاتبا مهما ومفكراً.
يروي امبرتو اكو الذي جمعته «الماغازين ليترير» مع بيار بايار القصة التالية. قال انه كان مشغولا بأطروحته التي وصل فيها الى عقبة لم يعرف كيف يتخطاها. في ابحاثنا، يقول اكو، نصادف كثيرا من هذه العقبات. اثناء ذلك عثر على كتاب لواحد معمور هو الأب فاليه فاقتناه ولدى قراءته عثر في عبارة له على حل للمشكلة التي يواجهها. في روايته «اسم الوردة» ذكر اسم الأب فاليه على سبيل التحية، لكن واحدا اتصل به ليسأله اذا كان هذا الاسم حقيقيا. هذا ما دعاه الى ان يتوجه الى مكتبته ويسحب كتاب الأب ويصل فورا الى العبارة التي انجدته لكنه لاحظ، متعجبا، ان العبارة لا تتضمن ما افترضه فيها. كان الحل موجودا في كلماتها، لا في فحواها. هذا ما يضيء ناحية أخرى، هي كيفية القراءة وكيفية استخدام الكتاب. كان دولوز يقول ان الكتاب عدة شغل. هذا يعني ان الكتاب لا يبقى هو نفسه حين نستخدمه. اننا نفككه ونستعير منه ما نشاء. وقد نوجه ما نستعيره، كما لاحظ اكو، الى وجهة غير التي قام عليها.
ذات يوم كان يكفي ان نقرأ مؤلفا ماركسيا لنحسب اننا طوينا التراث العالمي كله، واننا قرأنا، بدون ان نقرأ الفلسفة اليونانية قبل السقراطية وبعدها، وتخطينا الفلسفة المثالية الألمانية وتجاوزنا هيغل والهيغليين اليساريين… الخ. ثمة دائما كتاب يغنينا عن القراءة كلها، لكن هذا حديث آخر.
ملحق السفير الثقافي