أعدكم باستمرار الحرب
عبير اسبر
عندما بشّر دون كيشوت أتباعه بهذه الجملة اللاهبة، لم تبدُ نافرة عن سياق رواية مجنونة من أولها لآخرها..
فحربه لا أسلحة فيها، وجنوده لا يموتون، لأن أرواحهم الحرة هي من تخوض الحرب، وهكذا جنون وارتحال في أزمنة أخرى هو سمة الأحرار، والمخيلة عندما تعتق من سجونها تنتج جمالا لا ينسى، يسبغ حتى على حمار سانشو!
عندما رفض هرمان هيسه كل برود عقلانية الألمان وحكمتهم وفلسفتهم الجليدية، واتبع شموس الشرق ودفء المعتقد الرحيم، وأصبح “سدهارتا” بعدها بطل الأزمنة جميعها. استوعب الكل رغبات هيسه برفض كل ما أنتجته الروح الهتلرية من حروب ودمار، والتفوق النيتشوي السوبرماني من خلل في الرؤى، فقرروا الانحياز روحاً، وحياة لصالح بدئية الاكتشافات، وسذاجة الدهشة عند رؤية فراشة صفراء. فأصبح هيسه مبشراً دون لباس كهنوتي ولا رعب الهيبة الكنسية!
عندما قرر بيل غيتس أغنى أغنياء العالم أن معظم ثروته سيتم التبرع بها، بعد أن يترك لعائلته -أولاداً وأحفاداً- ما يكفيهم. ألهم بما فعله -بادئاً بنفسه- معظم أغنياء بلد رأسمالي وسم طويلاً بعبادته للمال، وقدم مثالا محتذى نفى بعدها صفة الجشع والطمع، وفكرتنا الراسخة عن الرأسمالين الذين يأكلون البشر وهم على قيد الحياة، ويكرعون دمائهم مثل “البيبسي” ببرود دراكولا.. معظم أغنياء أميركا اقتنعوا بجدوى التبرع، بحس مسؤولية وانتماء للبشر، حركوا ركوداً في اقتصاد حر، وأسبغوا مفهوماً أخلاقياً على فكرة الفائض، وتخمة الاستهلاك، ولا أخلاقية التكديس..
عندما رفض ميلان كونديرا جنسية بلده الأم تشيكيا، وتكريمه الذي أتى كحالة ارتدادية بعد أن اعترف العالم بأسره بإبداعه ومغايرة أعماله الملهمة ، رفض كونديرا جنسية بلده، الذي تكرم عليه بقبول متأخر،وأعلن نفسه مواطناً منتمياً لبلد آخر، اختاره بوعي وبقرار حر. بشجاعة لا تتكرر، وفردية عالية تعيش تميزها ومركزية معتقدها. أثبت كونديرا بذلك أن الوطن فكرة تقبع في المخيلة، وأن الأوطان اختيار واع، والانتماء يشترط مناقشة فكرة البلدان عن نفسها، صلاحها أو عدمه. بشجاعة أقرّ أنه لم ولن يكون عبداً للعنة هويات ضيقة تُحدد معاييرها وأشكالها، بجهل رعاع، ودوغمائية قطيع يعلن من معنا و من ضدنا، بناءً على قناعة دكتاتوريات مهيمنة ومهانة!
عندما تركت الأم تريزا بلدها ورهبنتها الآمنة، وذهبت إلى هندوس الهند، وفقرها وتشرد أهلها، وغرائبية طقسهم، وألوانهم، وحرارة تعصبهم وطيبة روائحهم، وسموم تلوثهم، تحولت تلك الأم إلى قديسة، شابهت في تفانيها الآلهة المخلصة، ومشت على طريق الأنبياء في حجيج نحو أرواح معذبة، استطاعت بجهد وجلد أيوب الصابر، أن تلهم بتجربتها ألاف الناس، وترحمهم من عناء وبغضاء التعصب، والكراهية العمياء..
هؤلاء هم أفراد اتفقوا اتفاقا ضمنياً، دون أن يلتقوا، دون أن تجمعهم الحياة لا بالمهنة ولا بالجغرافيا ولا بالدين أو العرق، اتفقوا على أن يفكروا تفكيرا حراً، اتفقوا أن لا يخضعوا لمن يحدد لهم معاييرهم، وسقفاً لسمائهم التي اختاروها أن لا تكون واطئة أبدا، وسّعوا من هامش حريتهم التي حفروها بكثير من إخلاص وصدق نحو الذات ونحو الآخرين..
لم يختاروا إلا الفكر الحر، فأصبحوا مثالا يحتذى ، وإلهاماً لا يضاهى..
في برنامجها الشهير، سألت مرة أوبرا وينفري سيدة، جميلة، شابة، عمياء، محرومة من نعمة البصر، كانت قد أنجزت ما يشبه المعجزات، حيث ذهبت في عز اشتعال حرب التعصب الطالباني إلى افغانستان، ارتحلت، في سيارات خربة، ونقليات مضحكة، و ظهور حمير. بنت في أفغانستان الكثير من المدارس، وساعدت آلاف النساء على بناء مستشفيات مرتجلة وبيوت، أمّنت لهم كثيراً من فرص العمل وعادت إلى أميركا بلدها لتجمع تبرعات وتعود من جديد إلى هناك..
سألت أوبرا وينفري: كيف استطعت فعل ذلك؟! كيف تغلبت على العقبات؟!
أجابت المرأة:
حسنا أوبرا.. أنا امرأة عمياء.. لم أكن مرة قادرة على “رؤية العقبات” ، فوصلت!