هل حقا نحن زملاء؟
محمد ديبو
قدر الصحافة الحرة البحث عن الحقيقة مهما كلفت من مصاعب , فإن لم تجدها عثرت على موتها .أخبار تصلنا كل يوم عن سقوط زملاء لنا في شتى أنحاء العالم , زملاء لا نعرف وجوههم ولكن نعرف شجاعتهم , نقرأ حروفهم وارتجافاتهم وخفقة قلوبهم الخائفة لأنها تدرك أنها تلاعب الموت , ومع ذلك لا تتردد في الذهاب إلى أقصى الخبر وما يتطلبه من صدق يصل حدود الكشف والفضيحة وتعرية العوالم المغلقة , عوالم الموت المحكمة بسواتر المال والسلطة والجنس والرشوة .
شهداء لم يحملوا رشاشا ولم يعرفوا استخدام حتى مسدس للاستعمال الشخصي لأنهم آمنو (ربما واهمين) أن الكلمة تحميهم , وأن وضوح الحقيقة أهم من حقيقة الوضوح التي تستر عريها بمال الحكام وبريق النفط .
ثلاثة وعشرين صحفيا منهم ثلاثة صحفيات لقوا حتفهم خلال شهرين فقط وهي أعلى نسبة من عام 93 منهم (برونو أوبيسي من الكونغو حرقت جثته , وماريا أوجينيا غويريرو الكولومبية التي وقعت ضحية اعتداء جنسي قبل ترك جثتها عند حدود الإكوادور، بينما عثر على جثة الصحافي فرنسيس كايندا نيارور الكينية مقطوعة الرأس في إحدى الغابات).
أسئلة كثيرة تثيرها السطور السابقة , أسئلة شخصية تصل حد البكاء من نوع : بماذا فكرت أوجينا وهي تغتصب ؟ هل لعنت الصحافة وكل الكلام الذي نكتبه لها الآن ؟
ماذا دار برأس فرنسيس قبل أن يفصل عن جسده ؟ هل تذكر أمه أم نهدي حبيبته , أم كان يلعن الحقيقة “المضللة” وأتباعها ؟
ماذا قال أوبيسي لحارقي جثته : هل ادعى البطولة قائلا : سينبعث رماد الحقيقة من جثتي ؟ أم خاف (وهذا حقه ) وتودد إلى حارقيه ليتركوه يعود إلى أمه يستغفرها أن تغفر له شيطنته في البحث عن الحققيقة ومقارعة تماسيح الظلام !
هذا عن الأسئلة الخاصة , أما الأسئلة العامة فهي كثيرة ومؤرقة ومتعبة : ماذا فعل هؤلاء ليلقوا كل هذا العذاب ؟ مانوع الحقائق التي كانوا يبحثون عنها ؟ من يلاحق القتلة ويقتص لزملاء القلم منهم ؟
طريقة موتهم تحمل لنا أشياء كثيرة منها : مدى خوف القتلة من الكلمة, وكم تحقق الصحافة حين لا تكون مرتهنة وصادقة كحد السكاكين ؟ وأهم شيء هو خسارة القاتلين رغم إسكاتهم أصوات الحق , لأن الذين سقطوا أضحوا رموزا , والرمز سلطة لا تحجبه سلطات الموت ولا الأقلام المأجورة .
لكن السؤال المؤرق والمحيّر والمربك: إن كان الصحفيون في كل أنحاء العالم يستشهدون وهم يحملون كلامهم , فلمَ لا يستشهد في عالمنا السوري أي صحفي ؟
رغم أن بلادنا مليئة بالكوارث والبئية والفساد والرشوة ووو
لم ليس عندنا “بطل” أو ” اسم” أو حتى “صحفي عمود” يقرأه الناس , ينتظرون رأيه لأنه لا يكذب ؟
من منا يذكر منذ عشرين عاما سبقا صحفيا أو تحقيقا, شكل ذاكرة للناس ؟
نعم ,أصبحت الصحافة عندنا “حكي جرائد” كما يصفها المواطن العادي الذي فقد إيمانه بالكلمة لأنها ابتعدت عنه ولم تعد تطرح أي قضية تهمه.
الصحافة عندنا تحولت إلى أبواق , مهنة للارتزاق , وحشو الكلام المعلّب.
لم يعد للصحافة عندنا حقيقة تبحث عنها فصارت الحقيقة الوحيدة هي غيابها, وربما لهذا لا يستشهد عندنا صحفيون, بل يموتون بشكل عادي ونقرأ نعواتهم في صحفهم الباردة دون أن يستوقفنا أي اسم .
عفوا الصحفيون السويورن يموتون فقعا وغما لأنهم غير قادرين على حماية مهنتهم من أيدي المتسولين , ومن لم يمت فقعا هاجر إلى صحافة توهمه ب “حرية مهنية” تزاوج بين الاستبداد والموضوعية , وبين الاثنين من صمت لأن الزمن ليس زمن الكلام .
أخيرا:
ما الذي يمكن أن يقوله زميل يتفرج على موت شهداء الكلمة , الذين سقطوا على شوارع الحقيقة وسواتر الصحف.
طوبى لهم, أولئك الذين تناثرت كلماتهم على شاشاتنا وحروفنا وأدمغتنا.
نحسدكم لأنكم امتلكتم جرأة الخوض في المحرمات
ونخجل من القول أننا ” زملاؤكم ”
هل حقا نحن زملاء؟