استراتيجيات المجتمع المدني
عبدالحسين شعبان
منذ سنوات والتفكير يستغرق في إطار المجتمع المدني بعض نشاطات وفاعليات مؤسساته، دون التوقف أحياناً عند المصطلح ودلالاته ومضمونه والنوافذ المهمة التي فتحها، وبخاصة منذ أكثر من عقدين ونيّف من الزمان، رغم بعض الألغام التي احتوى عليها، لكنه في كل الأحوال كان جزءًا من مسار كوني لا يمكن تجاهله أو إغفاله أو عزل مجتمعاتنا عن التأثر به، ولا سيما بالمشترك الانساني الذي يحمله، ناهيكم عن أبعاده الإيجابية، لاسيما لقضية الاصلاح والديمقراطية والتنمية.
ولعل قلّة من الباحثين والمفكرين والمنشغلين في إطار المجتمع المدني حاولوا التفكير بصوت عال حول استراتيجيات المجتمع المدني ودور مؤسساته في عملية التغيير والتحوّل الديمقراطي وما يتعلق بالعدالة الانتقالية والتطور السلمي التراكمي وفي نقد السياسات والممارسات القائمة وفق رؤية حقوقية مهنية ثقافية وليست سياسية أو دينية.
وقد تأسست في القاهرة مجموعة عمل اشتغلت على ملف أساسي يتعلق بالتصورات حول عمل الجمعيات وعقدت مؤتمراً في أثينا ناقشت فيه الاسس المشتركة الدولية الحقوقية من جهة، وواقع مجتمعاتنا العربية من جهة أخرى، كما تكوّنت نواة لمجموعة استراتيجيات في بيروت حاولت بحث بعض الأفكار العامة، لكن العمل المجتمعي المدني ظل بعيداً في وجود استراتيجيات معترف بها، ثابتة ومتحركة، في إطار فهم نظري وتجربة عملية ميدانية، من خلال مرجعية يمكن الركون اليها للاسهام في ايجاد إجابات عن الاسئلة الكبيرة التي تطرحها الحياة ولتدارس سبل العمل المشترك بين المجاميع المتوزعة والمتناقضة أحياناً.
كما أن تلك التحركات لم يقدّر لها الديمومة والاستمرارية لعدم توفر جهات راعية، في وقت تنصرف النشاطات لبعض الفعاليات والمؤتمرات والندوات من دون وقفة تأمل أحياناً، لبعض القضايا الجزئية والفرعية على أهميتها، لكنها من دون وجود خيط رابط وإطار جامع.
لعل الحاجة تظل مستمرة الى وجود استراتيجيات ومرجعيات للمجتمع المدني مع احترام التنوع والتعددية في هذا الاطار، لكن الأمر يحتاج أيضاً الى رؤية مهنية وحقوقية لفهم المجتمع المدني وفلسفته بدراسة الواقع وفحصه فكرياً ومهنياً، وبالتالي التحرك بما يصب في رفده وخدمة أهدافه عبر أساليب مناسبة، وحسب ظروف كل بلد وكل كيان، لاسيما بتحريك قطاعاته المختلفة، في علاقات وشبكات وفاعليات ذات أبعاد مشتركة.
مؤخراً التأمت ندوة مهمة لعدد محدود من خبراء عرب ودوليين في عمان للبحث في استراتيجيات وتبادل تجارب، على أساس فكري وعملي، فيما يخص المجتمع المدني، وكانت الدعوة من “مؤسسة المستقبل” برعاية رئيستها القديرة نبيلة حمزة، وطرح السؤال مجدداً ما الفرق بين المجتمع الاهلي والمجتمع المدني، وبين هذا الاخير وبين المجتمع الوطني- القومي وبينه وبين القطاع الثالث وبينه وبين الجمعيات الخيرية غير الهادفة للربح وبينه وبين القطاع المستقل والقطاع غير الخاضع للضريبة والمنظمات غير الحكومية والمنظمات التطوعية والمنظمات غير الربحية؟
ولعل ذلك كله يثير بعض الاشكالات، لاسيما في العالم العربي ويعود الأمر لحداثة الموضوع ولعدم وجود خبراء ومختصين كافين، فضلاً عن قلة الخبرة واستغراق أعداد واسعة من المنظمات والنشطاء في عقد ورش عمل وندوات وفاعليات، يضاف الى ذلك شحّة الموارد، وهشاشة البُنية السياسية والقانونية (التشريعية) والاجتماعية الحاضنة وضعف الأجواء الثقافية المساعدة والمشجعة.
ولعل من سمات وشروط تأسيس منظمات المجتمع المدني أن تكون ذا طابع حداثي غير تقليدي وديمقراطي على مستوى علاقات هيئاته أو أفراده بالهيئات ومع محيطه الخارجي، وأن تكون منظماته تعددية وتقبل الاختلاف والتنوّع.
ومن السمات الأخرى للمجتمع المدني لا بدّ أن تكون منظمات سلمية لا تؤمن بالعنف ولا بدّ لها أن تضع مسافة واضحة بين الحكومات والمعارضات، وهي لا تستهدف الوصول الى السلطة أو لعب أي دور سياسي أو الانخراط في الصراع الآيديولوجي، لأن ذلك سيجعلها منحازة سلفاً، ولكن هذا المفهوم لا يعني حيادية مؤسسات المجتمع المدني لأنها تعبّر عن حقوق وفئات ومصالح المجتمع بشكل عام ومنتسبيها بشكل خاص.
ومن صلب أهداف المجتمع المدني ومؤسساته تهيئة الأجواء لبناء مواطنة متساوية وكاملة دون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو الجنس أو اللون أو المنحدر الاجتماعي أو غير ذلك، وتستهدف منظمات المجتمع المدني تشجيع الجهود التطوعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزز التضامن والتكافل والتعاون والمساندة بين جميع الفاعليات الاجتماعية، وتستند مؤسساته بذلك الى أسس قانونية وبنية سياسية (نظام سياسي) تقبل التعددية وعلاقات اجتماعية متوازنة وأجواء ثقافية مشجعة.
ولعل المجتمع المدني العربي وهو ما كان مدار بحث مقارنة مع المجتمعات البلقانية (بحضور خبيرين دوليين من هنغاريا) التي تحوّلت باتجاه الديمقراطية وخطت خطوات نحو الاصلاح، ظل يعاني من ضعف في الثقافة الحقوقية- القانونية والمجتمعية، إضافة الى كوابح سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية وخارجية، بعضها يتعلق بالتقاليد والموروث والطائفية والعشائرية والموقف من الاقليات والمرأة وغيرها، وبعضها يتعلق بالعامل الخارجي الذي يتمثل ببعض مظاهر الاستتباع وفرض الهيمنة، ناهيكم عن الاحتلالات والحصارات والحروب التي عطّلت الديمقراطية واضرّت بالتنمية وأخرت تقدم بلدان المنطقة.
وتكمن أهمية اللقاء الاستشاري الدولي لعدد من الخبراء بمن فيهم من الامم المتحدة في مناقشة السبل الكفيلة بتكوين تصوّرات مشتركة إزاء مستقبل المجتمع المدني، لاسيما بعض نواقصه المتعلقة باداراته وتأهيله وتمويله وتوصيفاته السلبية أحياناً، لكن ذلك لا يبرر ولا يعفي الحكومات من مسؤولياتها التي تتعلق بالترخيص له والاعتراف بدوره والتعامل معه شريكاً مطلوباً وأساسياً في عملية التنمية، بل انه عنصر إغناء ورفد، لا غنى عنه لتحقيق التنمية المنشودة.
ولعل ذلك نقطة أساسية اتفق فريق الخبراء على الحرث فيها لوضع أسس يمكن رفدها بالفكر والمعرفة والخبرة والتجربة العملية، لوضع استراتيجيات عمل واقعية ومناسبة تنطلق من الحاجة الماسة والأكيدة لشراكة حقيقية، على المستوى الوطني والدولي، ناهيكم عن دائرة بحث وتفكير مستمرتين، بحيث يتم التواصل والتفاعل بالاستفادة من الخبرة المتوفرة داخلياً ودولياً وتطويرها وهو ما يمكن مناقشته وتبادل الرأي بشأنه لاحقاً مع العديد من المنظمات والفاعلين في إطار المجتمع المدني.