الطبقة الوسطى العربية: النشأة، التحولات، الوضع الراهن
صالح سليمان عبدالعظيم
مشكلات النشأة
مسار التحولات
الوضع الراهن
تساعد دراسة التشكيلات الاجتماعية والأوضاع الطبقية على فهم خريطة العلاقة بين القوى الاجتماعية المختلفة، كما تساعد في دراسة مسارات الحراك الاجتماعي في المجتمع إمكانية الانتقال من موقع طبقي لآخر وفق الشروط التي تفرضها القوى الاجتماعية المهيمنة. وبدون التعرف على خريطة التشكيلات الاجتماعية يصبح المجتمع كتلة واحدة غير واضحة الملامح والقسمات.
من هنا فإن المحاولات النظرية العميقة التي ارتبطت بالعلوم الاجتماعية، الاقتصاد والسياسة والاجتماع، قد ساهمت بدرجة كبيرة في فهم تطور المجتمعات البشرية، وبخاصة المجتمعات الغربية. لقد ساعدت كتابات كارل ماركس وماكس فيبر في فهم التطورات المرتبطة بالمجتمعات الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، كما ساعدت قبلهما كتابات ابن خلدون في فهم المجتمعات الإسلامية في القرن الرابع عشر الميلادي.
وكلما تطورت المجتمعات وتبلورت أشكالها الإنتاجية بشكل دقيق ومستقر كلما أمكن التعرف على طبيعة تشكيلاتها الاجتماعية، والعكس صحيح أيضا، فالفروق كبيرة جدا بين الخريطة الطبقية في المجتمعات المتقدمة وبين غيرها من المجتمعات النامية مثل مجتمعاتنا العربية. ففي ضوء التقدم الذي حققته هذه المجتمعات على كافة المستويات أمكن تشييد أبنية طبقية واضحة ومستقرة الأمر الذي ساعد على تحقيق الأمن والاستقرار، وضمان قدر مناسب من الحراك الاجتماعي.
أما في مجتمعاتنا العربية فالوضع مختلف تماما من حيث هيمنة النظم السياسية المستبدة وسيادة أنماط إنتاجية عديدة تجمع بين القديم والحديث مع انسداد أفق الحراك الاجتماعي أمام الكثير من الشرائح الاجتماعية المختلفة. وهو ما يؤدي في النهاية إلى سيادة قيم الإحباط واليأس والاحتقان، وتفجير الكثير من أشكال الصراع الاجتماعي.
لا تساعد دراسة التشكيلات الاجتماعية على فهم الخريطة الاجتماعية فقط لكنها تساعد أيضا على التنبؤ بمجريات الاحتقان والصراع الاجتماعي في المجتمعات الإنسانية، وبدون مراقبة هذه الأوضاع تفاجئنا أشكال العصيان والتمرد والثورات المختلفة من فترة لأخرى.
ويواجه أية محاولة لفهم وتحليل أوضاع الطبقة الوسطى العربية العديد من الصعوبات مثل: التعريف والنشأة والتحولات والموقع ودرجة التأثير والعلاقة بالدولة وغيرها من الشرائح الاجتماعية الأخرى. ولا تنبع تلك الصعوبات من الطبيعة المراوغة للطبقة الوسطى ذاتها، التي تضعها في موقع وسطي بين الشرائح الاجتماعية الدنيا الفقيرة والشرائح الاجتماعية العليا الغنية، بقدر ما تنبع من طبيعة نشأة التشكيلات الاجتماعية في عالمنا العربي وانعكاس ذلك عليها.
وهو ما يثير مسألة أخرى تتعلق بمدى صلاحية التحليلات والأطر النظرية الغربية لدراسة الواقع الاجتماعي في العالم الثالث بشكل عام، والعالم العربي بشكل خاص، رغم مساحة العولمة وحجم تأثيرها في العقود الأخيرة. فمن الضروري مراعاة فروق النشأة التاريخية ودرجة تطور المجتمعات وأساليبها الإنتاجية المختلفة عند تطبيق أية أطر نظرية تحليلية تهدف لفهم وتحليل التشكيلات الاجتماعية والتطورات المرتبطة بها.
مشكلات النشأة
تُلقي مشكلات النشأة بظلالها على الطبقة الوسطى العربية بحيث يصعب تماما تناولها بدون الإشارة إلى طبيعة نشأتها وأثر ذلك على وضعيتها الراهنة. فالبدايات التي ارتبطت بنشأة هذه الطبقة حدثت بشكل واسع النطاق في أعقاب ظهور دولة الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث فتحت الدولة باب التعليم على مصراعيه أمام الشرائح الفقيرة، كما استعانت بالخريجين في مؤسساتها الرسمية.
وفيما بعد أصبح التعليم هو المتغير الرئيس في تحديد مكانة الفرد خصوصا بعدما ارتبط بالعمل في المؤسسات الرسمية الخاضعة للدولة. من هنا يمكن القول إن الطبقة الوسطى العربية ارتبطت في نشأتها الحديثة بالدولة ماديا ومعنويا. على المستوى المادي أصبحت الدولة ولي النعم الذي يوفر التعليم والوظيفة وأشكال الرعاية الاجتماعية الأخرى، وأهم من ذلك كله الرضا عن الفرد والثقة فيه. وعلى المستوى المعنوي أصبح الارتباط بالدولة ارتباطا بمشروعها التنموي الوطني الهادف إلى تحقيق التقدم والازدهار، ووسام فخر للتعامل معها.
ظهرت البدايات الجنينية لنشأة الطبقة الوسطى العربية مبكرا أثناء الحقبة الاستعمارية وأسست وجودها وأهميتها من خلال مقاومة الاستعمار والحصول على الاستقلال الأمر الذي وفر لها شرعية واسعة بصفتها الطبقة المثقفة القادرة على قيادة المجتمع وتحريك كافة الشرائح الاجتماعية الأخرى.
وإذا كانت هذه الطبقة قد حصلت على قبول شعبي واسع إبان مرحلة مقاومة الاستعمار رغم ضآلة أعداد المنتسبين لها في ظل ندرة التعليم، فإنها قد نالت المكانة نفسها في ظل دولة ما بعد الاستقلال على صعيد التنمية وبناء مشروع الدولة الحديثة، دولة ما بعد الاستقلال. لقد استمر شهر العسل فترة طويلة بين الطبقة الوسطى العربية في فترة ما بعد الاستقلال وبين الدولة، فالدولة منحت أبناء هذه الطبقة قدرا واسعا من التعليم، كما سمحت بحراك اجتماعي واسع المدى من الشرائح الفقيرة نحوها، كما أخذت موقفا سياسيا ضد الأثرياء لصالح الفقراء ومحدودي الدخل.
لكن الأمر لم يستمر على هذا النحو في ظل العلاقات السلطوية القائمة بين الدولة وبين أبناء الطبقة الوسطى المرتبطين بشعارات الحرية ومقاومة الاستعمار، والذين نشئوا في أحضان اتجاهات أيديولوجية متباينة جمعت بين اليسار واليمين والأصالة والمعاصرة. من هنا فقد حدث الصدام المعروف في الكثير من الدول العربية بين الدولة وبين الطبقة الوسطى الصاعدة، الأمر الذي انتهى بالكثير من أعضاء هذه الطبقة في غياهب سجون ومعتقلات هذه الدول، وأحال الطبقة الوسطى إلى مجرد أداة إنتاجية في يد الدولة، أو مجرد شريحة سكانية عاملة لديها مثلها مثل غيرها من الشرائح الاجتماعية الأخرى.
لقد أضرت النشأة التاريخية للطبقة الوسطى العربية بشكل كبير بها، وأحالتها إلى مجرد أداة في يد الدولة وأهوائها. ونظرا لأن دولة ما بعد الاستقلال العربية اتسمت بالشمولية المفرطة سواء في أشكالها شبه الاشتراكية أو شبه الليبرالية فإنها قمعت أية توجهات سياسية خاصة بمفكري الطبقات الوسطى. كما أن هذه الطبقة لم تتسم بالتبلور الواضح الذي ميز غيرها من الطبقات الأخرى مثل الطبقة العمالية أو طبقة كبار ملاك الأراضي. فالطبقة الوسطى العربية طبقة هجين لا تتسم بالانسجام.
وهي مسألة تعود بالأساس لنشأة هذه الطبقة التي تكتسب أعضاءها من بين الطبقات الأخرى، وبشكل خاص من الطبقات الفقيرة محدودة الدخل، إضافة إلى ما يتدهور إليها من الطبقات الثرية. ويعني ذلك أن الطبقة الوسطى لم تتشكل من خلال بنية قيمية واحدة متجانسة لكنها تشكلت من خلال تعددية قيمية دعمت هذه الطبقة وأضعفتها في الوقت نفسه.
واللافت للنظر هنا أن الطبقة الوسطى عملت من جانبها لصالح كافة الاتجاهات السياسية والأيديولوجية المختلفة اليسارية واليمينية لكنها لم تنجح في أن تشكل جبهة واحدة تواجه بها الواقع الاجتماعي وتعمل على تغييره. فهي تحتضن كافة الاتجاهات، كما تغذي كافة المؤسسات بما فيها الأحزاب السياسية والجماعات الفكرية والمنظمات المدنية، ورغم ذلك فإنها الطبقة الوحيدة التي لا تعمل لنفسها بقدر ما تعمل من أجل بلورة وتشكيل غيرها.
ولا تُلام الطبقة الوسطى على هذه الوضعية فهي أسمنت المجتمع الداخل في كافة عمليات البناء والتشكيل، كما أنها تعتبر أكبر الطبقات الاجتماعية على المستوى العددي إلى الحد الذي يمكن فيه أن تبتلع كافة جوانب المجتمع سواء في حالة القوة أو في حالة الضعف.
مسار التحولات
لم يكن من الممكن أن تستمر الطبقة الوسطى في علاقاتها بالدولة مثلما بدأت بعد مرحلة الاستقلال. فالدولة نفسها قد تغيرت عبر ما يزيد على النصف قرن عبر تبدل حكامها وسياساتها وتحالفاتها، وهو ما انعكس على علاقات الدولة بالطبقات الوسطى، إن بالسلب أو بالإيجاب. فالدولة أخذت على عاتقها في مرحلة ما بعد الاستقلال تدعيم الطبقة الوسطى من أجل بناء كوادرها الوطنية المختلفة. وفي سبيل ذلك أتاحت التعليم أمام كافة الطبقات بشكل غير مسبوق، وهو ما تسبب في مسألتين على قدر كبير من الأهمية أولهما تخريج الآلاف سنويا في كافة التخصصات مما أفقد التعليم أهميته بمرور الوقت وجعله مجرد أداة دعاية سياسية في يد الدولة بغض النظر عن مستوى الخريجين ومدى كفاءتهم.
لم تقف مسألة الخريجين عند هذا المستوى، لكنها تعدته إلى المسألة الثانية المتعلقة بقيام الدولة بتعيينهم في أجهزتها الحكومية عبر عقود طويلة أرهقت ميزانية الدولة ورفعت معدلات البطالة المقنعة في كافة الدول العربية.
وفيما بعد ذلك بعقود طويلة بدأت الدولة تنفض يدها عن رعاية الطبقة الوسطى وغيرها من الطبقات الأخرى محدودة الدخل من خلال تطبيق برامج الخصخصة والتكيف الهيكلي متخلية بذلك عن برامج الرعاية الاجتماعية المختلفة التي اعتادت تقديمها عبر عقود طويلة للشرائح محدودة الدخل بما فيها الطبقات الوسطى.
لقد حافظت هذه المساعدات على ضمان حدود معقولة من الحياة الكريمة للعديد من أفراد الطبقة الوسطى الذين ضمنوا التعليم والخدمات الصحية والمواصلات والتوظيف بل والأسعار المعقولة التي يمكن تحملها. وحينما تخلت الدولة عن تقديم هذه المساعدات المختلفة ماديا وعينيا فإنها تركت الطبقات الوسطى أمام ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات وتغيير الخريطة الاجتماعية وتشوه الحراك الاجتماعي.
فالدولة حينما رفعت أيديها عن مساعدة الفئات محدودة الدخل لم تكن تقوم بخطوات اقتصادية بحتة بقدر ما كانت تقوم بخيارات سياسية وأيديولوجية تغير بها ولاءاتها وتحالفاتها من دعم الطبقات الدنيا والمحدودة الدخل والطبقات الوسطى تجاه الطبقات الثرية والفئات الطفيلية الجديدة، وهو الأمر الذي راكم من تدهور الطبقات الوسطى وأدى إلى تفكك بنية القيم الخاصة بها سعيا وراء الرزق، كما أدى إلى تآكل اعتماد الدولة على الطبقات الوسطى وتآكل رصيدها الوطني والتاريخي.
لم يقف التدهور عند المستوى الاقتصادي فقط لكنه انتقل أيضا إلى بنية القيم الخاصة بالطبقات الوسطى التي حاولت أن تعوض خسائرها المادية بأن اتجهت إما لدول الخليج الصاعدة من رحم الوفورات النفطية، وإما إلى الدخول في متاهة الفساد الإداري التي لا تنتهي، وإما إلى التوجه إلى القاع حيث الطبقات الدنيا الصاعدة مرة أخرى بفعل أنماط الإنتاج الطفيلية الجديدة.
ويمكن الإشارة هنا للحالة المصرية إبان حقبة “الانفتاح الاقتصادي” التي تحولت فيها الدولة عن المشروع الاقتصادي الاشتراكي ودولة الرفاه الاجتماعي إلى سيادة الأشكال الجديدة من التوجهات الليبرالية حيث الخصخصة والتكيف الهيكلي، وهو النمط الذي ساد في العديد من الدول العربية الأخرى، مع ما ارتبط به من تغيرات كارثية في غير صالح الطبقات الوسطى التي وجدت نفسها أقرب للشرائح الاجتماعية الدنيا.
لقد كشفت تلك التحولات عن أن الطبقة الوسطى لم تعد هي الأثيرة لدى الدولة مثلما كان الحال عليه في أعقاب الاستقلال، وأنها تحولت صوب رجال الأعمال والشرائح الثرية والطفيلية في المجتمعات العربية. ومما ساعد على ذلك وفورات النفط التي ظهرت في السبعينيات وساعدت على الهجرة إلى دول الخليج، وخلقت شرائح غنية جديدة أقرب في سلوكياتها إلى الطبقات الثرية بعيدا عن قيم الطبقة الوسطى الأقرب للتقشف والادخار.
كما أن الدول الخليجية ذاتها شهدت طبقات وسطى من نوع جديد بالغ الثراء والترف منغمس في الاستهلاك بدرجة تستدعي البحث عن توصيف جديد لهذه الشرائح الخليجية الجديدة يمايز بينها وبين غيرها من الطبقات الوسطى المتعارف عليها في الدول العربية الأخرى.
في ظل كل تلك المتغيرات عانت الطبقة الوسطى العربية من صعوبات التحول وترهل بنية القيم المرتبطة بها. فلم يعد لديها وضوح الهدف المتمثل في مقاومة المستعمر، كما لم يعد لديها تلك الرغبة المتوثبة في المساهمة في المشروع التنموي القومي للدول العربية التي تنتمي إليها، هذا بعد أن توارت المشروعات القومية، وانهارت تجارب التنمية، واختفى المد الثوري، لكنها أصبحت مرهقة بأعباء الحياة اليومية وغلاء الأسعار في الكثير من الدول العربية، أو بأعباء الوفورات الهائلة في الدول الخليجية وكيفية إنفاقها.
ومن بين أهم الجوانب الجديدة التي ارتبطت بالطبقة الوسطى العربية ضعف مكانتها المجتمعية، فلم تعد تملك المكانة التي تمتعت بها سابقا بوصفها الطبقة المتعلمة القادرة على قيادة المجتمع وصناعة الأفكار والتوجهات السياسية والأيديولوجية على السواء. ففي ظل التدهور المادي فقد أعضاء هذه الطبقة قدرتهم على الحافظ على وضعيتهم المجتمعية، كما أن ضعف الدولة والعائدات المرتبطة بها جعلت الملايين من العاملين في مؤسساتها أقرب لحالة الفقر والعوز منها لحالة الستر والكفاية. وهو الأمر الذي جعل الكثيرين يتندرون على أعضاء هذه الطبقة حتى لو كانوا من بين الحاصلين على مؤهلات جامعية أو ما بعد جامعية.
لم تقف المسألة عند هذا الحد فقد أصبحت الطبقات الوسطى محط تهكم الطبقات الأخرى العاملة والثرية على السواء. فالأولى أصبحت وفقا لمعايير السوق أكثر قدرة على الكسب، كما أنها لا تستند إلى قيم الادعاء والمظهرية والاستعلاء المرتبطة بالطبقات الوسطى، والثانية أصبحت هي الدولة الحقيقية الجديدة التي يمكنها استخدام الطبقات الوسطى وتشغيلها في مشاريعها الخاصة أو التعامل معها عبر الأجهزة والمؤسسات الحكومية من خلال العمولات والرشاوى وقصص الفساد المتواترة التي كان أبطالها دائما وأبدا من أبناء الطبقات الوسطى العربية.
لقد أصبحت الطبقة الوسطى واقعة بين ضغط الفئات الفقيرة والعاملة من ناحية وشراسة الطبقات الغنية والطفيلية الصاعدة من ناحية ثانية، وانسحاب الدولة وتغير ولاءاتها من ناحية ثالثة.
الوضع الراهن
يعود تحميل الطبقة الوسطى مسئولية التدهور الحالي في المجتمعات العربية إلى أمرين على قدر كبير من الأهمية أولهما مساحتها العددية الهائلة عبر كافة أرجاء الوطن العربي، وثانيهما أنها الطبقة المنتجة للثقافة والفكر. فمنذ البدايات الأولى لمشروع النهضة العربي مع الطهطاوي وما تبعه في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ارتبط مشروع التنوير بمفكري الطبقات الوسطى الصاعدة الجديدة.
من هنا فقد أصبح هناك رابط قوي بين صعود الطبقة الوسطى وبين إمكانية حدوث مشروعات تنويرية وتغييرات حقيقية في صلب بنية الواقع العربي. ورغم ذلك فإن الواقع العربي الراهن وما ارتبط به من تحولات سياسية وأيديولوجية جديدة جعل الكثيرين يؤكدون على إمكانية تلاشي الطبقة الوسطى في العالم العربي، وهي مسألة رغم الكثير من الشواهد القائمة عليها صعبة الحدوث.
صحيح أن الطبقة الوسطى العربية تواجه الآن أشد أشكال المواجهة والإضعاف إلا أن تصور تلاشيها واندثارها يعني بدرجة أو بأخرى إضعاف للمجتمعات العربية ذاتها، وتخلي شبه كامل عن تحقيق أية مشروعات تنموية شاملة.
ويعود استحالة هذا التصور إلى العديد من الجوانب التي ترتبط بتحولات المجتمعات العربية من ناحية كما ترتبط بطبيعة الطبقات الوسطى من ناحية أخرى. بالنسبة للواقع العربي فإنه مازال في مرحلة مخاض عنيف بين الرضوخ للمشروعات الليبرالية القائمة على المساندة الغربية بالأساس، وبين تطبيق المشروعات الوطنية الأخرى القائمة على التنمية الحقيقية التي تصب لصالح الداخل ولكافة الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة.
كما أن المجتمعات العربية مازالت حُبلى بالصراع القائم بين الأفكار التنويرية الحقيقية وبين تلك الجامدة المعيقة لتطور المجتمعات. إضافة إلى ذلك مازالت القضايا السياسية العربية غير محسومة وعلى رأسها الصراع العربي الإسرائيلي والموقف من احتلال العراق إضافة إلى التدخل الأميركي في المنطقة.
كل هذه الموضوعات وغيرها الكثير تُلقي بظلالها بالتأكيد على حركة الطبقة الوسطى العربية ومزاجها السياسي. ورغم الركود البادي على هذه الطبقة الآن فإنها ومن خلال مخزونها الثري المرتبط بالتعليم، حتى في أسوأ حالاته الراهنة، قادرة على الوعي بما يواجه العالم العربي من قضايا مصيرية عديدة تمس الحاضر والمستقبل على السواء. فقيمة الطبقة الوسطى العربية تكمن في حساسيتها العالية ووعيها المتوثب القادر على التقاط الخيط وتوجيه البوصلة من خلال هذا العدد الهائل من مثقفيها ومفكريها من مختلفة الاتجاهات والمشارب.
ومن بين الجوانب المؤثرة على طبيعة عمل الطبقة الوسطى العربية مساحتها الهائلة التي تكفل لها التأثير سياسيا وفكريا وأيديولوجيا ونقابيا وتعليميا ومدنيا، وهي مسألة تكاد تكون غير متاحة لأية شريحة اجتماعية أخرى. وهنا لا بد أن تراعي هذه الطبقة ألا تكون أداة في أيدي أية شرائح اجتماعية أخرى، فعليها حتى وهي تعمل ضمن سيادة الدولة أن تفرض جدول أعمالها المرتبط بمصالحها، كما يجب عليها حتى تستدعي وجودها المجتمعي الفكري المؤثر أن تغير من نظرتها للشرائح الاجتماعية الأفقر وألا تستعلي عليها.
فمن اللافت للنظر أن الطبقة الوسطى العربية تنجح حينما تستطيع استدماج كافة الشرائح الاجتماعية الأخرى ضمن معيتها بطريقة إنسانية تتجاوز الاستعلاء والانتهازية اللذان يمثلان آفة هذه الطبقة وأهم أسباب تدهورها.
فإذا كنا أشرنا سابقا إلى دور الدولة في إضعاف الطبقة الوسطى العربية فإن الأمر الذي لا مراء فيه أن الطبقة ذاتها لعبت دورا كبيرا في تردي أوضاعها وتدهور بنيتها القيمية. فالتطلعات الهائلة لأبناء هذه الطبقة أدت إلى ارتباطها بالفساد في كافة أرجاء الوطن العربي، كما أن محاولات أعضائها التي لا تلين من أجل الانسحاب من فضاء الطبقات الفقيرة والمحدودة الدخل إلى فضاء الطبقات الثرية والغنية ومحاولاتها المتواصلة للتشبه بسلوكيات هذه الطبقة أدى إلى إمكانية قيامها بأي شيء، حتى ولو كان متعارضا مع القيم الأخلاقية المجتمعية المتعارف عليها.
إن تلاشي الطبقة الوسطى في عالمنا العربي مسألة لا يمكن تصور حدوثها لكن ما يمكن تصوره هو تواصل عملية إفقارها وتدهور أوضاعها. وبدون العودة للقيم الأخلاقية المرتبطة بهذا الطبقة وعلى رأسها الالتزام بالقضايا الوطنية ومناصرة جهاز الدولة حال قيامه بتدعيم هذه القضايا، وطرح أطر جديدة للتغيير تراعي كافة الشرائح المجتمعية الأخرى وعلى رأسها الشرائح الفقيرة مع إيمان حقيقي بحقوق الإنسان فإنه لا يمكن للطبقة الوسطى العربية أن تسترد مكانتها الضائعة وأن تستفيد من دعم الشرائح الاجتماعية الأخرى لها مثلما كان الحال عليه أثناء مقاومة الاستعمار والرغبة في التخلص منه.
فهل نحتاج اليوم لاستعمار جديد ومباشر ينتهك كرامتنا ويستلب خيراتنا حتى نعود لقيم الطبقة الوسطى الحقيقية؟ سؤال يبدو مشروعا جدا مع ما يجابهه الواقع العربي الراهن، وما تجابهه الطبقة الوسطى العربية من مآزق وتحديات غير مسبوقة.
كاتب مصري