القارئ كاتباً
ناظم السيد
تاريخ القراءة . الكتاب ليس جديداً. صدر في دار الساقي سنة 2001. الطبعات التي صدرت من هذا الكتاب نفدت جميعاً. ارتفع سعر النسخة منه بسبب نفاده من 20 ألف ليرة لبنانية لحظة صدوره (نحو 14 دولاراً) إلي 40 ألف ليرة. يومذاك
اشتريت نسخة من طبعته الأولي وكتبت مقالاً مطولاً. كانت تشكو من أخطاء نحوية عدة، ما اضطر الدار إلي إعادة طبعه فور اكتشاف هذه الأخطاء. أحدهم استعار مني هذه النسخة ولم يردّها كعادة جميع مستعيري الكتب. اشتريت نسخة ثانية. هذه المرة استعارتها إحداهن ولم تردها. كان صديقي الذي سرق مكتبة أحد الأحزاب في الحرب بما فيها من كتب نادرة ووثائق محقاً في نظريته هذه حول إعارة الكتب. هذا الصديق الطريف كان يزعم أنه لا يسرق الكتاب بل يستعيره إلي الأبد. طوال معرفتي به لم يدخل بيتاً إلا وكان يخرج منه بكتاب يضعه تحت إبطه. كان يفعل ذلك بتلقائية وصمت من دون أن يطلب إذناً أو يشعر بالخجل. الصديق نفسه كان يروي لي نكتة عن رجل يملك مكتبة ضخمة. وحين بات هذا الرجل علي سرير الموت استدعي ابنه وأوصاه: إياك أن تعير كتاباً من هذه المكتبة. لماذا يا أبي؟ سأل الابن. لأن هذه المكتبة كلها إعارة. ردَّ الأب ثم مات. نكتة صديقي كانت ترجمة بتصرف لقول مأثور عن إعارة الكتب: حمار من يعير كتاباً، وأحمر منه من يرجعه. أتحدث عن سرقة كتاب. لكن هناك من يسرق مضمون كتاب، في إحالة علي جملة شوبنهاور كثيرون يخلطون بين شراء كتاب وشراء مضمون كتاب . إليوت ـ لا أحد غيره ـ كان يقول: المبتدئون يقلدون والمحترفون يسرقون . لكن رغم حديث تاريخ القراءة عن سرقة الكتب في أحد فصوله، كما كان يفعل الدوق الإيطالي ليبري أشهر سارق كتب في التاريخ، فإن مناسبة هذا المقال ليست سرقة الكتاب. كانت هذه الافتتاحية التي ستبدو أطول من متن المقال نزوة تتحكم بي أثناء الكتابة حين تسيطر عليَّ فكرة ولا أستطيع مقاومة اللحاق بها.
كان القارئ الأسطوري بورخيس يقول حين يدخل مكتبة: للأسف، أنا لا أستطيع شراء هذا الكتاب، لأن لدي نسخة منه في البيت . لكن ما حصل لي من سرقة النسختين اللتين اشتريتهما من تاريخ القراءة حرمني هذا الأسف الذي شعر به بورخيس. هكذا وجدت نفسي قبل أيام أشتري النسخة الثالثة من الكتاب. وهنا مقصدي من كتابة هذا المقال. لقد كان هذا الكتاب الوحيد الذي اشتريته ثلاث مرات. أما وجه الغرابة في الأمر أن هذا الكتاب يتحدث عن القراءة وليس الكتابة. والأغرب أن مؤلفه قارئ وليس كاتباً. لقد أمضي آلبرتو مانغويل الذي يجيد لغات عدة، سبع سنوات في تأليف هذا الكتاب. قعد إلي جانب بورخيس سنتين يقرأ عليه بعدما أصيب هذا الأخير بالعمي التام. سافر إلي بلدان كثيرة مدفوعاً بهذه اللذة الشاذة: القراءة.
لقد تقصي المؤلف في بحثه الممتع هذا تاريخ القراءة منذ ورق البردي في الصين إلي الألماني غوتنبرغ صانع أول مطبعة إلي القراءة في مصانع التبغ بطلب من العمال الذين كانوا يحفظون كتباً عظيمة عن ظهر قلب مطلقين أسماء كتّاب وروايات علي أنواع السيجار، مروراً بطقوس القراءة المتعددة وأنواعها المختلفة وسرقة الكتب وأبرز القرّاء وأخبار الملوك والأمراء والأدباء وغير ذلك الكثير. ما فعله مانغويل كان تحية موقرة للقراءة التي أحبها. كان تحية للقارئ الذي لا يحظي بالاحتفاء الذي يناله المؤلف. ورغم أن إشكاليات كثيرة يمكن قولها عن الكاتب بوصفه قارئاً أو المترجم ـ كما فعل المؤلف في بعض الفصول ـ ورغم إشكالية قلة القرّاء في العالم العربي (القارئ مشروع كاتب عندنا)، إلا أنني أكتفي هنا بهذه الملاحظة البسيطة: هذا الكتاب يكاد أن يكون احتفالاً بالقارئ الذي ليس لديه هدف إلا القراءة. القراءة بلا هدف هي المتعة الخالصة. شيء يشبه السياحة: السائح يزور بلداً ليستمتع به لا ليتعرف عليه. معرفة البلدان أسهل من خلال الخرائط وكتب التاريخ والجغرافيا. كذلك القراءة المخلصة: المعرفة تأتي متأخرة عن المتعة.
شاعر من لبنان