صفحات العالمما يحدث في لبنان

سويسرا الشرق!

الياس خوري
في ندوة حول بيروت والأدب، اقيمت في جنيف في الأسبوع الماضي، لم ادر ماذا أقول. فالكلام العتيق عن بيروت صار اشبه بالمرض النوستالجي. لا تستطيع ان تواصل رثاء مدينة تقيم فيها، اذ لم يعد احد معنيا بذلك. ثم انك لست آتيا من مقبرة، بل من مدينة اختيرت كي تكون عاصمة عالمية للكتاب في هذا العام! لكن عندما تُسأل عن الوضع السياسي في بيروت ولبنان تجد نفسك حائرا لأنك لا تعرف ان تجيب عن اي سؤال، فتغمغم وتعود الى الماضي، وتروي اشياء لم تعد تعنيك كثيرا.
لكنني وانا حائر في بيروت، امام الأسئلة المحتملة، تذكرت ان اللبنانيين من شدة ادعائهم، اطلقوا على بلادهم اسم سويسرا الشرق. صدقوا هذه الصفة التي لا علاقة لها بالواقع، الى درجة ان بعضهم اقترح، في الماضي القريب، تقسيم لبنان الى كانتونات طائفية، على غرار الكانتونات السويسرية!
قلت سأبدأ من هنا، اي من الصورة وليس من الواقع. لكن صدمتي الأولى بدأت في مطار جنيف، اذ بدلا من ان امر بمجرد ان يرى شرطي الحدود غلاف جوازي، كأي سويسري آخر، بحلق الرجل في الجواز كثيرا، وتوقف طويلا عند الفيزا الاسبانية التي احملها. سألني عن سبب زيارتي، فأجبت بتعجب انني آت من سويسرا الشرق الى سويسرا الغرب، فلم يستسغ هذا المزاح، قطّب حاجبيه، واعاد السؤال، فلم يكن هناك مفر من الجواب. وعندما تأكـــــدت من انه خـــتم الجواز، سألته بسذاجة اذا كان لا يعرف ان لبنان هو سويسرا الشرق، فأعاد النظر في الباسبور، ثم اعطاني اياه ونظر الى المسافر الذي يقف خلفي.
عندما رويت للجمهور الذي اتى الى الندوة، حكاية اللبنانيين مع سويسرا الشرق ضجت القاعة بالضحك. اعتقد الناس انني امزح. هذه هي احدى مفارقات الحياة، تمزح فيعتقد رجل الأمن في المطار انك جاد، وتكون جادا، فيعتقد الجمهور في القاعة انك تمزح. لكنني اصرّيت على جديتي ورويت عن علاقة الأدب العربي بجنيف، من احمد شوقي الى بهاء طاهر. قلت ان ادباء مصر تحدثوا عن سويسرا في وصفهم زوارا، اما ادباء لبنان فلم يتحدثوا عن سويسرا، لأنها بلادهم الرمزية، ورويت عن صديقي اللبناني الذي حين يصل الى جنيف يقول انه يشم رائحة لبنان.
لكن محاولاتي باءت بالفشل، اذ اصر الجمهور على اعتبار هذه المقارنة غير جدّية، وكان لا بد من الاعتراف امامهم بأن مشكلة اللبنانيين انهم لا يميّزون بين الجد والمزاح، ورويت لهم ان السينما اللبنانية بدأت مع المخرج مارون بغدادي، الذي كان يطيب له دائما مزج هذين المستويين، بحيث كان المشاهد يضيع امام مقاصد افلامه.
لكن علاقة التماهي بسويسرا لم تنته مع نهاية الحرب الأهلية، التي لم تتوقف الا بالهيمنة السورية على لبنان، بل اتخذت اشكالا جديدة.
في مرحلة الهيمنة تلك، قلب اللبنانيون المعادلة. بدلا من التماهي مع سويسرا، اطلقوا على الأجهزة الامنية السورية، اسم الأجهزة السويسرية، مستغلين التشابه اللفظي بين سويسرا وسورية. لكن النكات السويسرية التي شاعت، سرعان ما ‘باخت’، وبدت مفتعلة، ولا تفي بالغرض. خصوصا بعد الشيوع الناري لنكات هيفا، التي صارت المنافس الأكبر لأبي العبد ونكاته.
اللعبة لم تدم، لأننا اكتشفنا ان سويسرا ليست فرنكوفونية، مثلما اعتقدنا طويلا، اذ ان اكثرية سكانها يتكلمون الألمانية، وهنا ازدادت المسألة تعقيدا، خصوصا وان لبنان يستقبل اليوم الألعاب الفرنكوفونية. وبدأ كل ما له علاقة بسويسرا يضمر، الى درجة انه اختفى في شكل نهائي من لبنان.
وجدت نفسي فجأة في النوستالجيا والذكريات وما يشبه الوقوف على الأطلال، وهي لعبة صارت مضجرة ومثل ‘الفستق الفارغ’، كما نقول في لغة الكلام.
فكرت ان انتقل الى موضوع راهن، احتل للحظة بعض وسائل الاعلام اللبنانية، ثم اختفى. والموضوع متعلق بقرار بلدية بيروت تحويل حديقتي الصنائع والسيوفي الى مرآبين للسيارات. من يعرف بيروت، يعلم اننا نتكلم عن الحديقتين العامتين الوحيدتين في المدينة. تقوم فلسفة مشروع البلدية، على الحفر تحت الحديقتين، ثم بعد انجاز المرآبين تحت الأرض، تعيد زرع الأشجار والنباتات نفسها، وفي مكانها. لكن ما لم يعلن، هو ان اعادة الزرع سوف تكون جزئية، فالاشجار سوف تتحول الى اقزام، لأن جذورها سوف تصطدم بالباطون المسلّح الذي سيغطى بالتراب.
نام المشروع بسبب الانتخابات النيابية، لكنه يمكن ان يستفيق في اي لحظة، ويجد البيروتيون انفسهم امام مدينة خالية من الحدائق العامة!
احد فصحاء لبنان، اقترح بناء نافورة كبيرة، تشبه نافورة بحيرة جنيف الجميلة، كتعويض نفسي لسكان بيروت، وكي لا تمحى الصلة نهائيا بين لبنان وسويسرا. لكن ما فات صاحب الاقتراح هو عدم وجود بحيرة في بيروت، ناهيك عن المصير البائس الذي تعرّض له نهر بيروت، بحيث سحبت مياهه قبل ان تصل الى مجراه في المدينة، فتحول الى مكبّ للنفايات، ومنبع للروائح الكريهة.
هل يستطيع اللبنانيون بناء نافورة بلا ماء؟
قلت للجمهور اننا منذ عام 1975 ونحن نبني نوافير بلا ماء، والعالم يصدقنا، هذه هي الأعجوبة اللبنانية التي شارفت على النهاية.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى