صفحات ثقافية

“على نسق دبلن” لأنريكي فيلا ماتاس احتفاءٌ بالذكاء وجسرٌ بين جويس وبيكيت

null
إنه الأدب الباهر جنّاز لحقبة الطباعة وسخرية من فرضيات نهاية العالم
“ثمة كتّاب يتقنون إنجاز العقد وآخرون لا يعرفون كيف يعقدون رباط حذائهم”. تعبُر جملة انريكي فيلا ماتاس في التمييز بين ساردي القصص وفنّاني السرد الى ثنائية شغلت الكاتب الإسباني ابن برشلونة، الى حين بتّ الالتباس جوالاً نصيّاً استثنائياً ومحترفاً مدّ نظراءه المؤلّفين بحيوات ثانية وثالثة والى ما لانهاية. في الماضي لم يجفل فيلا ماتاس ان يدير ظهره للقارئ، لينقّب بعدذاك عن احدهم يطالعه. طويت مرحلة نكران نفسه. صار القارئ الواحد ملايين قبض على ألبابهم في مسقطه وفي الواقع الأدبي الأوروبي.
في روايته “مرض مونتانو” التي يجوز وصفها بأنها يوميات حميمة وسفر شعوري وبحث ايضاً، يلمّح فيلا ماتاس الى “الإلتهاب الأدبي”، مصطلح استنبطه الروائي الاوروغواياني خوان كارلوس اونيتي للحديث عن هجس بالكتب، مصحوب بأعراض وأوجاع وعن إلحاح العيش بحريّة في نطاق مخلصي وحيد، اي في غمرة الكلمة. والحال ان فيلا ماتاس من مرضى الأدب المزمنين وهو يفخر ولا يتحفّظ. انه الطراز المضاد للكاتب- الماكينة. يكتب ساعة يحلو له، وفي خصوص ما يعنّ على سجيّته. على الأرجح، فإن موهبته صاحبة السيادة ايقظت حسّه المدقِّق، ليحالفه الحظ. ذلك ان الكاتب الجميل لم يُرصَد للانتهاء وحيداً وفي حال مزرية على شاكلة كثيرين، فقد كان لصاحب كتاب “بارتلباي ورفاقه” ان يواصل التهكّم المرتفع النبرة في منطقة وسطية تجمع بين الأمل والشفقة. تناثرت كل جملة للكاتب وكل كلمة من ذهنه الواعي والحالم والمتّقد، لتنسج فسحة هائلة ومنمنمة على السواء.
يجرّب فيلا ماتاس الضباب واللغز والتهويمات والفكاهة المفاجئة ويكرّرها في نصه الأحدث “على نسق دبلن” الصادر بالقشتالية عن “دار سييكس بارال”. يتجلّى في تلك الحكاية تأمّلٌ في شأن اثر التكنولوجيا الرقمية في الثقافة، فيما يدين العنوان الى احدى قصائد فيليب لاركن، او يغمز من قناة مجموعة من قصص جيمس جويس القصيرة ربما، او من “عوليس” للايرلندي ايضا. تخدم تلك الإقتراضات الأدبية تماما العمل الميتا- أدبي. تجعله الإحالات كجزء من التزيين يتقدّم في حاضنة التاريخ، في حين تأتي السمة الميتا- أدبية بأوقات مستقطعة تحثّه على ان يحيد عن الواقع. انها لعبة تستفزّ ادراك القارئ يستخدمها فيلا ماتاس كعلم النحو تقريبا من قبيل الكماليات. يمكن تاليا مطالعة الرواية من دون الحاجة الى معرفة دقائق الأعمال المذكورة لأنها ليست بحثا او تأمّلا عميقا في شأن ايٍّ من تلك العناوين.
“على نسق دبلن”، هي رواية العام المنتظرة حيث الشخصية الرئيسية ناشر “نخبويّ” أدار دفّة احدى دور النشر لثلاثة عقود. نشر صموئيل ريبا، او ريبا وفق الجميع، كتّاباً بارزين في زمنه، لم يصدر للبعض سوى مؤلّف واحد غير ان ذلك كان كافياً ليرد اسمهم في قائمته. ينتمي الناشر الى المدرسة القديمة لأنه يهتم بالكلمات والموهبة الأدبية اكثر من اهتمامه بالتسويق والنجاح المالي. يجد نفسه مفلسا لأجل هذه الأسباب وبسببها. يحكي فيلا ماتاس عن شخص ادرك “ان قطاع النشر ضمّ اكثر من “كيخوتي” شجاع، غير انه راق له ان يعدّ نفسه خاتم الناشرين”.
سئم ريبا من الإضطرار الى التواصل مع الكتّاب وانهكته التبدّلات الوافدة على قطاع النشر، فيما أرهقه الكذب على ذويه يستقبلهم أسبوعيا ويقصّ عليهم اسفارا لم يقم بها. ينسحب من المجال، بيد ان ابتعاده يفاقم شعوره بأنه مسحوق ويائس من نفسه ومن مستقبل الأدب، إلى ان يدلّه حلم راءٍ وفيّاض، ان معنى حياته في مكان آخر، ويمرّ بدبلن. يرى المدينة في المنام نافذة فرار برفقة شفيعيه الملهمين بيكيت وجويس. احتمال ذاك الحجّ الأدبي الى دبلن على خطى جويس، يبقي الناشر ريبا متمسكا بنبض الحياة، وهو “الميّال الى ان يطالع حياته مثل النصوص الأدبية وأن يؤوّلها مستخدما هنات القارئ الذي كانه اعواما طويلة”.
يقنع على هذا النحو مجموعة من أصدقائه لحضور ذكرى “بلومسداي” في دبلن في السادس عشر من حزيران التي تستعيد مرور شخصيّة “عوليس” المحورية، ليوبولد بلوم في دبلن، علّهم يبلغون على هذا النسق فحوى تحفة جويس. يلازمه الأصدقاء من دون معرفة مآل الرحلة، ذلك ان الناشر يتحفّظ عن مشاريعه خشية اعتباره مخبولا. يخفي ريبا عن رفاقه مسألتين يهجس بهما. يريد ان يعرف اولا اذا كان الكاتب العبقري المغفل الهوية الذي يجتاز حلمه، هو عينه الذي قصّر عن اكتشافه خلال عمله ناشرا و”لا يزال يتحسّر عليه لأن موهبته تتخطّى جميع الآخرين”. يسأل هل انه موجود فعلا او هو ذاك الملاك الشبحي الذي تخلّى عنه في طفولته؟ اما هدف ريبا الثاني فمنوط بتنفيذ مشهد الحلم المركزي، اي اقامة مأتم للكتاب التقليدي وحقبة الطباعة وقد باتا في نزاع بنتيجة الثورة الرقمية. الطقس الجنائزي عينه تحية الى كتاب “عوليس”، احدى اعظم لحظات حقبة غوتنبرغ المندثرة وفق ريبا. يعدّ الناشر لجنازة يحضرها “اصدقاؤه” الثلاثة، منافسا بذلك ليوبولد بلوم ورفاقه الذين يرافقون في الفصل الرابع من “عوليس” بادي ديغنام الى مثواه الأخير. تتراءى دبلن مؤتمنة على تهدئة مصادر قلق الرجل.
تتأمل الرواية نهاية حقبة في مشوار الأدب وتسخر من فرضيات نهاية العالم، وهي عمل ساطع ومفتوح على قراءات عدة. يقيم فيلا ماتاس جسرا بين عالمي جويس وبيكيت وما يرمزان اليه، اي الأدب الباهر، ويقدّم قرائن على عوائق تواجه الكتّاب الحقيقيين والناشرين الأصيلين والقراء الجيدين للسير في مجتمع يجنح صوب السخف. يوزّع فيلا ماتاس النبرات فينتقل من التجلّي بنسخة جويس، الى اضطراب كلامي يصل الى الصمت بنسخة بيكيت. انه عمل رصين ومتمكّن حيث يهجع حسّ عال للفكاهة. انه الأدب في حلته البهيّة.
تقتبس احدى شخصيّات الكتاب قول خايمي خيل دي بييدما، ان “الكاتب تهويم الناشر”، ويبني فيلا ماتاس عليه. اراد الروائي لشخصيّته الرئيسية، ريبا، ان يصير كاتبا في البداية، غير انه لم يلبث ان جعله ناشرا، والحال ان منحى الرواية ومعناها تبدّلا جذريا من خلال الدفع بريبا صوب مواجهة تهويماته. رغب الإسباني في ان تقصّ الحكاية من مقترب مختلف لكي يبدد، قدر المتاح، كل تقارب محتمل بين ريبا وفيلا ماتاس نفسه.
لا يذهب الكاتب عرضا الى جعل سيلباد وبولانيو وماغريس وبورخيس يشاركونه الافتتنان بمسارات يمكن تعريفها في ظل نقصان تعبير أشد دقة “ميتا- خيالية”. يقفز الكاتب على المسافات الزمنية والخصوصيات، في مسار عضوي وفيزيولوجي اكثر منه منوطاً بالمغامرات، لا يتردّد في اللحظات الاكثر صعوبة من البداية الى الخاتمة، في اعتماد نبرة ساخرة. والحال انه لا يمكن احدا في كامل قدراته العقليّة ان يدفع بأصدقائه الى اقامة جنازة لحقبة الطباعة. كان ضروريا ان يحيط تالياً اكثر من سانتشو بهذا الصنو لريبا- يل كيخوتي المؤتمن على قدر الرواية، فيغرق الجميع في غمامة ساخرة مرتبطة بنهاية الأزمنة.
يختار الريادي فيلا ماتاس تطوير النواة السرديّة وفق ترتيب تدريجي على مدى ثلاثة أشهر، اي من ايار الى تموز،  فيتشابك تأزم حال الناشر والتخطيط لرحلته الإنقاذيّة والإقامة في دبلن معا. غير ان هيكل الرواية يتراءى حذرا جدا لأنه ينبغي له وضع اطار يسهّل القراءة التواصليّة لإيجاد انشغالات الكاتب الثقافية والجماليّة. ينسج فيلا ماتاس شبكة مرجعيات ثقافية. تبرز أسماء لكتّاب وسينمائيين، غير انه يقال اليسير في خصوص قصيدة او رواية او فيلم سينمائي. يخطّ نظرية عامة للرواية، وأحيانا يقحم نظرية أدبية، وفي حالات معينة يمارس النقد أيضا. يحاول ريبا اقتراح مفهوم للرواية، فيحدّد عناصر خمسة عناصر تستدعي جوليان غراك، ويعتبر أن لا مفر منها: النصيّة والصلات مع الشعر الرفيع ووعي مشهد اخلاقي في الحضيض، وتقدّم طفيف للأسلوب على الحبكة، فضلا عن اعتبار الكتابة ساعة تتقدّم عقاربها. يهتم الناشر “بكتّاب يخبرونه شيئا ما، في حين يظن الآخرين من نسج الخيال”، وهذا ارتياب له مسوّغاته دوما في أعمال فيلا ماتاس. ولأن الكاتب من رسل “فن الإقتباس”، يُدخل جملا من سجلّ الأدب إلى متن اعماله، فنجد تاليا جول رونار وفرنسيس فيتزجيرالد وامرسون ورامبو. في لحظة محددة، يكرر ريبا انه “لا يريد العيش في رواية” غير ان هذا الواقع يتراءى محتما عند فيلا ماتاس. رواية “على نسق دبلن”، احتفاء بالذكاء في تكهّن بارد وفكري مبهم وانما مليء بالتهكّم والبركة. انها ايضا مرثية متوقعة بعض الشيء للأدب الرفيع. غير ان هذا البعد الثقافوي للرواية لا يستثني الكثافة الوجودية. يجمع فيلا ماتاس الدوافع المتكررة في منجزه الى الآن، اي الهوية والشخصيّة والصنو والمصادفات والحدود بين الحياة والأدب، في اطار سيرة ذاتية تساعده في تناول موضوع القدر الإنساني. والحال ان بورتريه الناشر الذي لا يبتعد عن الرواية النفسانية التقليدية، يوفّق بين الإشكالية العائلية والشخصية الواضحة وبين النموذج المطلق. يلتزم صموئيل ريبا دورا تمثيليا، ذلك انه يعكس التململ الجماعي في اطار حال من التأزم القيمي العام، في عالم يترصده احساس الفوضى والفشل. في اعقاب مغامرته الروحانية الخاسرة، يستطيع ريبا ان يدنو من خشية التقدم في السن وخوف الموت.
من خلال هذه الشخصية المضطربة والمتخاذلة ضمن واقع تهويمي وغير مفهوم تماما، يقترح فيلا ماتاس احد اكثر ابطال “الحداثة” السرديّة امتلاء في الآداب بالقشتالية. لا تقول الرواية ان الهلع من انبثاق العالم الرقمي في الآداب ضروري، ذلك انه لم ولن يُحدث قطيعة بين زمني غوتنبرغ وغوغل. اما خشية الكاتب القادم الى باريس في 1968 منفيا طوعيا من حكم فرنكو وبحثا عن مزيد من الحرية الابتكارية، فاندثار عدّة اللغة والتفكير والسرد.

مقتطف: مـــرض مــونـتـــانــو
ملاحظات طفيليّة
كان ليسرّني ان تزورني ذكريات ألان باولس الشخصية وتحديدا ذكريات ذاك اليوم الاستثنائي حين كتب فصلاً من مؤلفه “العنصر بورخيس” بعنوان “اليد الثانية”. ينمّ ما قلته للتو عن رغبة واضحة في ان أندسّ تحت جلد باحث مثير للإعجاب، بيد ان هذه الأمنية اقلّ غرابة في العمق من رغبة كافكا في ان يغدو من سلالة الهنود الحمر. لا ينبغي لأحدهم ان يفاجأ بإعجابي بـ”اليد الثانية”، ذلك انه يتناول تأمّل الكبير بورخيس اليقظ في شأن ظاهرة الطفيليات الأدبية وفي واقع مصّاصي دم الكتب. جعلني الأمر اجوب شوارع نانت في حال من القلق والانشغال الشديدين حلّت فجأة بعدما صرت بدوري من اصناف الطفيليات الأدبية. اكتشفت في ذروة السرور اني ربما صرت كذلك قبل ان ادرك وجود كتاب “العنصر بورخيس” وقد عثرت عليه الاسبوع المنصرم هنا في برشلونة في منزل رودريغو فريسان.
يتوقّف ألان باولس في “اليد الثانية” عند الآثار الإيجابية لكتاب أبحاث اصدره بورخيس قبل عام بعنوان “نقاش” متجاوزا مراجعة نقدية سلبيّة للعمل كتبها احدهم بإسم رامون دول في 1933. كان رامون دول ناقدا قوميّا بانت نقمته على بورخيس في كتابه “الشرطة الثقافية” حيث اتهم الأرجنتيني بأنه من الطفيليّات الأدبية. كتب: “تنتمي هذه المقالات البيبليوغرافية من حيث المضمون والنيّة على السواء، الى نوع الأدب الطفيلي القائم على تكرار امور جيدة قالها آخرون على نحو سيئ، او على اعتبار “ايل كيخوتي” وقصيدة “مارتين فييرو” مؤلّفين غير منشورين، والعمد الى اجتزاء صفحات كاملة من هذين العملين. ناهيك بتنصيب نفسه الموكّل بالبحث في كل مسألة فيقنص آراء الآخرين معتمدا هيئة السذّج، بغية ان يتنبهوا الى انه ليس أحادي النظرة وانه يحترم جميع الآراء”.
هل اعيد على نحو سيئ ما قاله الآخرون على نحو جيد؟ اتمنى أن لا يكون هذا صحيحا. هل اتّخذ هيئة البراءة واكتب ان باولس يقول ان المسكين دول في حال من الصدمة؟ هذا صحيح، غير ان صدمته لا تستند الى أساس لأنها تغضّ الطرف عن ان التهم الموجهة ضد بورخيس تتراءى أكيدة الى حدّ بعيد.
يشير باولس الى ان بورخيس، وعلى عكس كل ما توقعته شرطة دول، لا يعارض على الأرجح فحوى كلام الناقد، وانما على العكس: “لا يرفض بورخيس إدانة دول وانما يجعلها برنامجا فنيّا ذاتيا، من خلال توظيف حنكة الاقتصاد وحسّه لدى الضّالين العظماء، اولئك الذين يعيدون تدوير ضربات الأعداء بغية جبه ضرباتهم الذاتية. تغزر في أعمال بورخيس هذه الشخصيات السفلية القاتمة بعض الشيء التي تتبع كالطيف خطى عمل معيّن أو شخصية محددة. يتحدّث بورخيس عن المترجمين والباحثين والممثلين وحافظي المكتبات ناهيك بالسارقين ورماة الخناجر، فيعاين على هذا النحو أخلاقيات التبعية الحقيقية في غاليري من الرسوم الكاريكاتورية المجهولة. يتوّج بيار مينار سلسلة الخنوع الأدبي الواسعة من خلال انجاز فصول جديدة من “ايل كيخوتي”. من يكون بيار مينار سوى ذروة الكتّاب الطفيليين، او لنقل المتنوّر الحامل دعوة التبعية في تجلّيها وفي انحطاطها؟”.
هذه الشخصيات السفلية، فضلاً عن أخلاقية التبعية، تجعل بورخيس يقترب من روبرت فالسير، واضع “جاكوب فون غونتن”، وهي رواية ويوميات من صنف لافت في آن واحد. “لا يمكن تعلّم  الكثير في تلك الصفحات حيث يغيب الحس التلقيني الشخصي، في حين لن نتوصل نحن ايضا فتيان معهد بنجامينتا الى اي شيء، لأننا سنبقى غدا جميعا اشخاصا تابعين وشديدي التواضع”.
كان فالسير دوما من المرؤوسين ويمكن ان يجسّد على نحو مثالي احدى شخصياته التخييلية او احدى شخصيات بورخيس الغامضة ايضا. والحال، ان فالسير عمل كناسخ في زيوريخ والتحق احيانا بـ”حجرة الكتابة الخاصة بالمتبطّلين”، علما ان بورخيس لم يبتكر هذا الاسم في اطار قصة قصيرة تتناول الناسخين ولم يخترعه فالسير ايضا. جلس فالسير الى منضدة الكتابة “مستويا في مقعد واطئ قديم عند الغروب ينيره ضوء مصباح شاحب. راح ينسخ التعليمات بخطّ انيق وينجز مهمات صغيرة من هذا النوع اوكلته بها بعض الشركات او الجمعيات او الأشخاص”.
نوّع فالسير المهن، غير انه كان دوما من ذوي الرتب الثانوية واعتاد القول انه يشعر بالراحة “في الأماكن الواطئة”. اشتغل على هذا النسق موظّفا في احدى المكتبات وسكرتيرا لدى احد المحامين وموظّفا في مصرف وعاملا في مصنع لماكينات الخياطة وأخيرا رئيس خدم في احد قصور بولونيا. انجز هذا كله مدفوعا برغبة دائمة في تعلّم خدمة الآخرين.
حرّكتني رغبة خدمة الآخرين ايضا. اردت ربما ان اقول للقارئ انه وبغضّ النظر عن المسافات التي يتعذّر تخطّيها بيني وبين بورخيس، يمكن مخطط عملي الأدبي ان يذكّر احيانا بالكاتب الأرجنتيني، وإن لم ادرك ذلك إلاّ اخيرا في اعقاب اطلاعي على “اليد الثانية”. اردت الاعلان اني انتمي الى الطفيليات الأدبية مذ كتبت قصيدتي الأولى، وكانت كناية عن أبيات عاطفية هدفت الى جعل احدى زميلاتي في المدرسة تغرم بي. بنيتُ القصيدة وفق نسخ مباشر لشعر ثيرنودا واقحمتُ احياناً، بل احيانا كثيرة، احد ابيات الشاعر من دون حرج، من قبيل القول “احبّكِ في غمرة دفء وطنك الضبابي”.
لم اجعل رفيقة المدرسة تتيّم بي، غير انها اقرّت بموهبتي الكتابيّة. عوضا من ان اتذكّر ان القصيدة كانت بنسبة ثمانين في المئة ملكاً لثيرنودا، اقتنعتُ بأن أبياتي الذاتية تلك التي تطوّرت بفضل رفقة شاعر عظيم، هي عينها راقت للفتاة. اعطاني هذا الواقع طمأنينة كبيرة مذّاك، وأثّر على نحو حازم في خطواتي الأدبية اللاحقة. رويدا، راحت نسبة المنسوخ في قصائدي تتقلّص، وبان على هذا النحو أسلوبي الشخصي المبني، قليلا او كثيرا، بالتعاون مع كتّاب آخرين مصصتُ دم نصوصهم لفائدتي الشخصية. من دون عجالة، رحت أبلور رويدا اسلوبي الذاتي، لم يكن متوهجا وانما كافيا. كان اسلوبا شخصيا بفضل تعاون سواي القسري، اي اولئك الكتّاب الذين مررتُ بهم من اجل بلورة أدبي الذاتي.
من دون تسرع، اكتشفت اكثر من ثيرنودا واحد تراءوا لي الأوائل او الأصليين. صرت على نسق شخصيات فالسير المرؤوسة او شخصيات جوزف روث المتحفّظة تلك التي تجتاز الحياة، في حال فرار لا تنتهي. تتموضع على هامش الواقع الذين يزعجنا وعلى هامش الوجود من اجل الدفاع عن مخلّفات الفردية وعن ذاتها ازاء آليات مماثلة. وجدتُني عند الآخرين. وصلتُ في اعقابهم. رافقتُهم اولا وتحررتُ لاحقا. يسعني القول انه بفضل دعم ثيرنودا الحامي، بدأت امشي من تلقاء نفسي ورحت اكتشف الى اي فئة من الكتّاب انتميت. ادركتُ ايضا ما لم أكن عليه، او من كنتُ بنسب قليلة جدا. أدركتُ ان أسلوبي الأدبي كناية عن ترسّبات، غير ان هذا افضل من اللاشيء. يمكن تطبيق المنطق عينه على طبيعة وجودي. املك اليسير من الحياة الخاصة كما تجلّى، غير انها الحياة خاصتي، وهذا يبدو لي على قدر كبير من الاهمية. نظرا الى حال الدنيا، يتراءى ان الحصول على القليل من السيرة الذاتية يعني الكثير.
اعرف القليل عن نفسي، غير ان هذا ربما يكون أفضل. يستحسن ان يحظى المرء بحياة “وجيزة وهادفة”، وانما ان يحصل على قسط من هذه الحياة، علما ان كثيرين لا ينالونه حتى. ربما يكون من المثالي إبقاء هذا الوضع، على نسق قول غوته لإيكيرمان “لا اعرف نفسي وأتمنى ألاّ اعرف نفسي ابدا”.
يعتقد موسيل ان اليوميات الحميمية تؤكّد ان المرء لا يعرف نفسه ابدا. كان يظن اليوميّات الشكل السردي المستقبلي الوحيد، ذلك انه يحوي جميع أشكال الخطاب الممكنة. في الواقع لم يقل هذا بحماسة، ذلك انه ظنّ الإيمان بأن اليوميات قادرة مثلا على مساعدتنا في معرفة انفسنا، مضيعة للوقت او تطيّر فحسب. اما اليوميات التي كتبها فتظهر غياب الثقة باليوميات الحميمة، ذلك انها لا تتخطى السيرة الذاتية السلبية، وهي ابرز الامثلة على التناقض مع مفهومها.
تشكّل اليوميات بالنسبة إلى موسيل النوع الأدبي الأدنى. وهذا لا يفاجئ عندما نعي رأيه في خصوص كتّاب اليوميات الحميمة، ذلك انه يعتقد ان هؤلاء لا “يجدون فيها تفاصيل تهمّهم”. يسأل ما الذي يدّعون انهم يهتمون به، مضيفا ان “اليوميات هي احدى علامات زمنها. تنشر يوميات كثيرة، وهي الشكل الأكثر عملانيّة والأكثر فوضويّة. لا بأس. غير ان من المحتمل ألاّ ينشر في الأمد المنظور سوى اليوميات، في حين يعدّ الباقي غير مستحق. تختزل اليوميات بالتحليل فحسب، من دون نقصان او زيادة. ليست فنّا، ولا ينبغي لها ان تكون كذلك. ماذا ينفع اذاً الإصغاء الى كلام مماثل؟”.
يمكن القول ان خطتي المستقبلية مذ بدأت الكتابة من خلال نسخ ثيرنودا، تختزل بإصراري على ان لا أعرف نفسي ابدا او ربما قليلا فحسب، وان أكون من أصناف الطفيليات تجاه الكتّاب الآخرين، من اجل ان ينتهي بي الأمر في رفقة بصيص أدب ذاتي. سيقال ان هذا كان مشروعي منذ بدأت بنسخ ثيرنودا. والحال اني رحت استند الى مقولات الآخرين من اجل التعرّف الى نطاقي الذاتي الضيّق كمرؤوس، وفي الوقت عينه من اجل اكتشاف اني لن اعرف نفسي تماما في النهاية، ذلك ان الحياة ليست وحدة تتكوّر حول نواة. في حين يسعني ان اكون اكثر من شخص، بل صلة مذهلة بين الاقدار المختلفة ومجموعة من الاصداء المنبثقة من مصادر متنوعة. يمكنني ان اكون كاتباً ملعوناً، أرغم وفق الظروف التي سمحت لي بالعيش على ممارسة نوع أدبي يتجاوز السيرة الذاتية، اي التخييل الذاتي، غير اني اعي مع حلول زمن العقاب انه لا يزال يعوزني الكثير.
رلى راشد
(عن القشتالية)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى