ليما وبورخيس وجهان لعملة حياة واحدة
سمِّي الشاعر والروائي والقاص والباحث الكوبي خوسيه ليساما ليما “كاتبا صعبا” بسبب استخدامه اللغة الباطنية والتصوير القاتم، في حين اعتُبر ادب الارجنتيني خورخي لويس بورخيس نسجا حول نواة قصص مقلقة تقود دوما الى خارجها، أي الى أبعد من تخوم النص عينه. غير ان الاثنين استطاعا استيلاد عمل ادبي من مصادر الدهشة، وجعلا ادبهما مساحة تستوعب المساحات الاخرى، في حين كان استقرار حياتهما تكريما لشغف الفكر والروح وقيمة الابتكار العظيم. كان كل شيء في حياة هذين الأديبين كأنه يدور على الشعر.
فرّقت الثورة الكوبية عائلة ليساما ليما تفريقا يتعذر بعده التئام الشمل. خرج افرادها كلهم تقريبا من الجزيرة في بداية سبعينات القرن الماضي، باستثناء الكاتب وامّه. في المراسلة الغزيرة المتبادلة خلال سنوات بينه وبين افراد العائلة الغائبة والمنفية، يتبدى التركيز على الالم العميق الذي انتجه فراقٌ يبدد الاقدار. في سنوات الصبا في هافانا كان سعيدا ولم يكن يدرك ذلك. كان الكون مختزلا بحفنة عناصر بالنسبة الى ليساما ليما: جزيرته وامه وشقيقاته ومنزله. كرّر الكوبي الذي خرج من محليته الى العالم، ان لا شيء يعنيه اكثر من ان يكون كوبيا، وان من المحال ان يستطيع الكتابة خارج مسقطه.
في سيرة بورخيس بعض شذرات من حياة ليساما ليما. تشكلت دنيا بورخيس في منزله. مكان صغير تقاسمه وامه واخته واصدقاء معدودين. كان هذا الاستقرار منعطفا في بروز الرؤيا الفذة اللامتناهية التي تمنحها مؤلفاته. تأجل كل شيء بالنسبة الى بورخيس ليفسح للسعادة المتأتية من مطالعة الكتب او من كتابة نص او من الاستماع او من التعبير عن الافكار. ألم يقل يوما ان حياته نقصت حياة؟ لكأنه يعلن صلاحية المعيش من اجل التفرّغ للمعرفة فحسب.
ولد ليساما ليما في بداية العقد الثاني من القرن العشرين في مخيم عسكري بالقرب من هافانا. كان والده ضابطا توفى في سن مبكرة، وقد طارده هذا الواقع على مر حياته واستخدمه همّاً شحذ كتاباته. ربطت ليساما ليما علاقة وطيدة مع والدته التي عاش في جوارها على امتداد ايامه، بينما جعلته مشكلاته الصحية المستديمة مع مرض الربو يمضي وقتا طويلا في رفقة وحدته وقراءاته. بالنسبة الى الكوبي العالمي الذي لم يغادر تقريبا جزيرته وإن سافر لفترة وجيزة الى المكسيك، خلال شبابه، حلّت الكلمة مكان التجارب والاسفار معرفةً ولذة. بنى اشهر عملين روائيين في سجله، “الجنة” و”اوبيانو ليكاريو”، استنادا الى نصوصه الاولى كباحث وشاعر. في “الجنة”، كتابه شبه الذاتي، تابع حياة خوسيه سيمي في مرحلة وصوله الى سن النضج في كوبا ما قبل كاسترو، حيث رصد تيمات من مثل الصلات بين العالمين المادي والروحاني وطبيعة الحياة العائلية. فيه يقنع سيمي صديقه ومعلمه اوبيانو ليكاريو انه ينبغي له عيش حياته من خلال عيون الشعراء. أما في قصائده وابحاثه كـ”موت نرسيس” و”شائعات العدو”، فقد اوغل الكوبي ليما في تلك الموضوعات متسائلاً عن دور الشعر والشاعر والحياة والموت والله والدين، في حين ادعى في “التعبير الاميركي” ان ثقافة القارة الاميركية التي تتفاوت مع الثقافة الاوروبية، تخلق بيئة جمالية ما بعد الباروك. حاجج ان التقاطع بين الفرح والواقعية السحرية، يخلق تأويلا اميركيا ادبيا على فرادة. الشاعر هو عنده، الوسيط بين الله والانسان، والوحيد القادر على التعبير عن الامكانات غير المحدودة الموجودة في الحياة.
اما بورخيس فكان صاحب كتابة ثقافية هي مزيج من الكلمات والصور والافكار. شاعر وفيلسوف احب جمال الفكر واستلذ بالمفاهيم من خلال جماليتها الشكلية. عرف بورخيس كما لم يعرف غيره الافادة من المعرفة والقراءة. افتخر بما قرأه اولاً، وبعدذاك بما كتبه. الكتابة والقراءة صنوان واسلوبان متكاملان. مع ليما تنطوي الكلمة على معلومات فيها مغالاة، واحيانا فجاجة. معرفة تدعمها بلاغة غامرة تسيطر على بياض الصفحة كلها. مع بورخيس لا شيء ينقص ولا شيء يزيد او يفيض. في رأيه، يمكن اخضاع الامور كلها الى التفكير العميق وايضا الى الهزء. يشبه عجب بورخيس سحر ليما، انعكاسا لإدراك يجابه عالما لا يكف عن الادهاش. ما هو التقليد الارجنتيني، كان يسأل بورخيس، والجواب الذي كان يعطيه كان نفسه الذي قد يعطيه اي لاتيني اخر: الثقافة الغربية برمتها.
بالنسبة الى بورخيس الذي كان كفيفا لسنوات، شكلت الكلمة ضوءا وحكمة خيمت على عالمه القاتم الذي فصله عن محيطه. في وقت من الاوقات عرّف فقدان البصيرة بـ”اسلوب الحياة” وشكلت الوحدة والكتابة والعمى بالنسبة اليه جزءا من رمز واحد. وجد بورخيس في الشعر مصدرا لإعجاب بلغ حد العبادة ومصدرا لشغف صوفي، وهو يبقى في ذاكرة قرائه محصلة مزج الحياة والصور الشخصية برموز لازمنية كررها العالم سابقا ويكررها اليوم وسيكررها غدا.
انتمى ليما الى تيار الريادة الكوبية الذي نشأ في 1923 مع تشكل “ايل غروبو مينوريستا” الذي ضمّ مجموعة من المثقفين عبّروا عن افكارهم في مجلة “لا ريفيستا دي افانثي” بدءا من 1927. في ذلك العام بدأ بكتابة الشعر، وبدءا من الثلاثينات والى الخمسينات من القرن الماضي نشر مجموعة من المجلات المرصودة للادب والسياسة والفنون والثقافة في كوبا. وبين التاريخين وفي عام 1944 اسس ليما “أوريخينيس”، أي “أصول”، احدى اهم المجلات الادبية والفنية في كوبا وفي الاميركتين. قدّمت الفن النامي في القارة القديمة وفي اميركا، وعقدت حوارا بين الفنانين في شأن التعبير الجمالي. وضعت “اصول”، الفنانين الكوبيين في مصاف ابرز الكتّاب والتشكيليين والفلاسفة والمؤلفين الموسيقيين، فيما اخذت انتباه ليما من حاله الذاتية القريبة الى صلة مع باقي العالم. وفي حين كان المجهول تقليد ليما الوحيد، كان الفن والادب مصدر بهجة وحقيقة عليا بل ديانة وايمان والكتابة احتفال وطقس مقدس وسعادة.
لم يكن بورخيس ليهوى التشابه، هو الذي كتب في “المرايا”: انا خاشي رعب المرايا، ليس امام الكريستال الذي يصعب اجتيازه فحسب، حيث تختتم وتبدأ مساحة مستحيلة من الانعكاسات يتعذر سكنها، وانما امام المياه التي تقلّد الازرق الثاني في سمائه العميقة وهو يحدّ رحلة الطائر الوهمية الذي يهزه الارتجاج”.
يبقى ليما في الذاكرة شاعرا باطنيا مأخوذا من حياته بسبب شؤون شخصية لا يمكن تشبيهها بشيء. كتب بورخيس وليما مستخدمين سيرتهما نصا لا ينتهي، الى ان غمرهما جاعلا منهما صفحة اضافية فيه، ليتحد الحياة والادب بالنسبة اليهما، في عناق مبكر. كان الشغف الذي قاد حياتهما ادبيا وخدم الاثنين وكان سببا اساسيا لوجودهما، فكانا وجها لعملة واحدة كونها الانسان والشاعر.
كان بورخيس عاشق القارة الاميركية في شطرها الجنوبي، عاشق فحواها وشكلها ايضا. اما ليما الذي تماهى مع بورخيس ولكن ايضا مع اونيتي وباث، فجعل جميع هذه الاسماء تحوم في مؤلفاته، ليحاورها احيانا، وخصوصا ليقفز فوقها.
ر. ل.
النهار