اسمي عمر، لكنّني لست سيّئاً جدّاً!
عمر قدور
في صغري لم أكن أشعر بالرضا عن اسمي، وإلى حدّ ما أغبط أخواتي وأخوتي على أسمائهم العصريّة، بينما قُيّض لي كولد بكر أن أرث اسم جدّي. ولم يخطر لي حينها أنّ اسم “عمر” يثير حفيظة آخرين لأسباب مختلفة، ولم أفهم لماذا كانت جارتنا الشيعيّة تخطئ على الدوام باسمي، فتناديني عليّاً وأصحّح لها “خطأها” باستمرار دون جدوى، ودون فهم لمحبّتها التي تدفعها إلى التكرّم عليّ باسم محبّب لديها. الأمر ذاته تكرّر بعد سنوات طويلة في ملتقى للرواية العربيّة، فقد استنكفت ناقدة عربيّة عن مناداتي باسمي منذ لحظة التعارف الأولى، واستعاضت عنه بمختلف ألفاظ التودّد، ولم أفهم إلا بعد انقضاء الملتقى أنّها تحاشت استخدام اسمي الذي لم يَرُقْ لها. وقتها تذكّرت بودّ جارتنا القديمة الأمّيّة، مع شعور بالمرارة من الصديقة الناقدة. في الواقع تبخّر استيائي من اسمي منذ زمن بعيد، على الرغم من اكتشافي دلالاته المذهبيّة، وبتّ أحفظ عدداً كبيراً من النكات التي يتمحور معظمها على الاستهجان أو الدهشة من كون من يحمل اسم عمر شخصاً جيّداً، حتّى صرت أبادر إلى التعريف بنفسي ممازحاً، عندما أدرك أنّ الطرف الآخر ينتمي إلى المذهب الشيعيّ أو العلويّ، بالقول: اسمي عمر، لكنّني لست سيّئاً جدّاً.
طبعاً ينبغي ألا أكون في وارد التشكّي؛ فاسمي يضعني شكلاً في مقلب الأغلبيّة المذهبيّة التي يُفترض بي أن أنعم بتفوّقها العدديّ! نعم، ومع الأسف، هناك الكثيرون في بلداننا ممّن يفكّرون على هذا النحو، ومع الأسف ثانيةً نجد هذه الكثرة في تعاظم، بحيث أضحت الأقليّة الفعليّة مكوّنة من صعاليك الطوائف الذين لا يُعترف بهم. ومع الأسف ثالثةً يُشاع أنّ البعض راح خلال السنوات الأخيرة يطلق اسم عمر على أحد من أبنائه نكاية بأبناء المذاهب الذين يثير هذا الاسم حفيظتهم، وبغياب المعلومات الإحصائيّة عن شيوع الاسم فعلاً فإنّ مجرّد الترويج لهذه الظاهرة يدخل في باب النكاية، ويستجلب النكاية المضادّة. أي أنّ تعبير الأسماء عن الرمزيّات الثقافيّة البسيطة بدأ يتحوّل إلى نوع من العنف الثقافيّ الذي يمارس بهدوء وصمت تجاه الآخر، لكنّ هذا النوع من العنف لا يقلّ خطورة عن العنف المادّيّ المباشر، فهو ينطلق من الافتراض: “اسمي هكذا لا لأنّني أختلف عنك وحسب، ولكن لأنّني أدرك بالضبط ما يحمله اسمي هذا من معاني التهديد والنفي بالنسبة لك”. من هنا تكون الأسماء بمثابة متاريس ثقافيّة تؤسّس للعنف بشكليه الرمزيّ والفعليّ، وتُسيِّس ما هو فرديّ ليعبّر عن الجماعة في انسجامها الداخليّ المزعوم، أو في مواجهة الجماعات الأخرى المنافسة.
تنضمّ الأسماء إلى مجموعة من الرمزيّات التي أخذت تكوّن المنظومة الطائفيّة في بلداننا، وكما نعلم فإنّ الطائفيّة هي التعبير السياسيّ عن واقع التعدّد الدينيّ أو المذهبيّ، وقد شهدت السنوات الأخيرة طفرة في انتعاش المفاهيم الطائفيّة، في الوقت الذي بدأت فيه ثقافة التعدّد تتسلّل إلى المجتمعات العربيّة. ومن الملاحظ شيوع تأويل مسألة التعدّد على محمل السياسة، مع التبعات السلبيّة لذلك على المجتمعات الوطنيّة، بدلاً من أن تأخذ التعدّديّة مسارها الثقافيّ فتكون مصدر قوّة لهذه المجتمعات من خلال الاعتراف المتكافئ بمكوّناتها، وتمكين المكوّنات المهمّشة تاريخيّاً. أي أنّ فهم مسألة الهويّة في المجتمعات العربيّة سرعان ما يتمثّل سياسيّاً، ومردّ ذلك إلى التباس مفهوم الهويّة بالمشروع السياسيّ القوميّ ومن ثمّ الإسلاميّ، وعلى هذا لم تجد ثقافة التعدّد طريقها إلى الخطاب السائد ما دام هذا الخطاب مبنيّاً على مفاهيم الهويّة الجمعيّة، إن لم نقل على القطيعيّة.
ربّما تبدو هذه النقلة مفاجئة؛ فالخطاب السياسيّ والثقافيّ العربيّ درج خلال عقود من الاستقلال على تجاهل المسألة الطائفيّة أو إنكارها، كما درج على تجاهل التعدّد الإثنيّ، وبدا مضطرّاً على نحو مفاجئ إلى مواجهة هذه القضيّة التي لم يألف وجودها، أو لم يتصالح معها فكريّاً. لقد رمى الخطاب ذاته بعوامل التفرقة الداخليّة على ممارسات الحقبة الاستعماريّة، وتستسهل بعض الأقلام اليوم إحالة “الفورة الطائفيّة” إلى مخطّطات إمبرياليّة جديدة، هكذا تبقى المسألة أسيرة حدّين؛ فإمّا تجاهل وجود الأقوام غير العربيّة والأديان والمذاهب المختلفة، أو تحوّل الطوائف إلى مشاريع طائفيّة، وتحوّل التعدد الإثني إلى قوميّات متصارعة. وكما نشهد اليوم، فإنّ وعي الطوائف لذاتها سياسيّاً يسبق وعيها لذاتها ثقافيّاً، بل يطرح الوعي السياسيّ ذاته على أنّه السبيل الممكن لتحقيق الهويّة المغيَّبة أو المهمّشة، وتطرح المحاصصة السياسيّة أو ما يُسمّى “الديمقراطيّة التوافقيّة” نفسها بديلاً “منطقيّاً” عن المسألة الوطنيّة مستفيدة من تعثّر المشروع الوطنيّ على أكثر من صعيد.
تكمل الطائفيّة ما بدأته المشاريع القوميّة العربيّة والإسلاميّة، إذ تُحوّل الفرد إلى كائن أيديولوجيّ بالمعنى الشموليّ بدلاً من كونه فرداً سياسيّاً، ويتمّ ذلك بإبراز العصبيّات مكان الهويّة بمفهومها المركَّب، أو بتغليب عنصر واحد من عناصر الهويّة وطغيانه المطلق على عناصرها الأخرى. تهيمن الهويّة السياسيّة “الأيديولوجيّة” على الفرد فتُفقر تعدّد مستويات هويّته، وتحجب بالتالي فرص الالتقاء مع المختلف، وعلى العكس ممّا تدّعيه، أو توحي به، الهويّة الأيديولوجيّة كهويّة جامعة فهي تنحو باطّراد إلى تغريب الفرد عن ذاته، وتغريبه عن الآخر، تحت وهم التماثل أو التطابق. لن يكون مستغرباً إذن أن نشهد فشل المشاريع الأيديولوجيّة الكبرى، حتّى إن بدا النجاح يحالف بعضها مؤقّتاً، لأنّها تقوم على مساحة من المكبوت والمقموع، وتفرض على أتباعها المكابدة من أجل تمثّل النموذج المبتغى. من هذا الجانب قد تكون الطائفيّة خدشاً لتلك المشاريع بشكلها الذي ساد حتّى الآن، واحتجاجاً على خطابها الإقصائيّ المضمر والذي يجد عمقه في تاريخ طويل من تسلّط الأغلبيّة العرقيّة والمذهبيّة، لكن العنف المؤجّل في الخطاب الطائفيّ، مهما كان مصدره، ينذر في حدّه الأدنى بتفسّخ مفهوم الوطنيّة، وفي حدّه الأقصى بحرب أهليّة تبتغي إبادة أكبر عدد ممكن من الآخر قبل التسليم بأحقّيته في الوجود. من المفيد في هذا السياق أن نستذكر التفجيرات الإرهابيّة في العراق، والتي لم يكن من شأنها تحقيق هدف سياسيّ محدّد، بل كانت غايتها إيقاع أكبر قدر من الهلاك بأبناء الطائفة الأخرى.
عندما تتحارب المذاهب أو الأديان فيما بينها يضيق هامش المناورة والمساومة، لأنّ كلاً منها يدّعي امتلاكه الحقيقة الأبديّة، فلا مجال إذن للهدنة أو العيش المشترك تحت سقف “اللـه” ما دام الأخير لا يقبل إلا تأويلاً وحيداً من كلّ جانب. حتّى إن لم تكن الحرب واقعة كفعل مباشر فهذا لا ينفي وقوع أفعال العنف الرمزيّ يوميّاً، وخاصّة من جهة الأغلبيّة التي اعتادت على إقصاء الآخر، وبات هذا الفعل من بديهيّات وجودها، لذا قد يكون من شأن تململ الأقليّات، وتعبيرها عن ذاتها، أن يزحزح الأغلبيّة عن استقرارها في حال تمّت المحافظة على مستوى منخفض من العنف الرمزيّ المتبادل؛ أي عندما يبقى العنف الرمزيّ وسيلةَ تفاوض ولا يتهدّد الآخر في وجوده. في الحالة الأخيرة قد يؤذن العنف الرمزيّ بمشروع وطنيّ جديد، على أن تقرّ الطوائف بالعيش تحت سقف الدولة الحديثة لا تحت سقف اللـه، إلا أنّ هذا يتطلّب من العقلانيّة ما لا يبدو ظاهراً للعيان حتّى الآن. لكن، ومع كلّ المخاطر التي تكتنف نبش القضايا الطائفيّة والإثنيّة، تطلّ هذه القضايا كاستحقاقات طال تأجيلها، ولم تعد تحتمل التجاهل أو التسويف، لذا لا بدّ من وضعها موضع البحث الجدّيّ، وعدم التهيّب من مواجهتها.
أخيراً، وعلى الرغم من اسمي هكذا، أقرّ بأنّني أقرب إلى الشعور الأقلّويّ في ظلّ ما نعايشه من تحصين طائفيّ، والمسألة هنا ليست في تعاطفي الشخصيّ مع قضايا الأقلّيّات، بل هي في انتمائي إلى أقلّيّة لا يُعترف بوجودها، وغالباً ما تكون أوّل مَن يدفع ثمن الاصطفاف الطائفيّ لأنّها بطبيعتها منافية له، ولأنّ الطوائف تبدأ حربها “المقدّسة” عادة بالخارجين عليها من أبنائها.
موقع الآوان