أشعر بيوم اكتشاف سوريا..!
فاضل الخطيب
بعث أكبر كاتب ساخر إنكليزي برنارد شو، بعث برقية إلى وينستون تشرشيل رئيس وزراء بريطانيا يدعوه فيها حضور العرض الأول لإحدى مسرحياته، وجاء في البرقية: يسعدني أن أدعو السيد رئيس الوزراء وينستون تشرشيل لحضور العرض الأول لمسرحية “بايغماليون Pygmalion”، تعال واحضر معك صديق أيضاً إذا كان موجود!
وجاء رد وينستون تشرشيل: شكراً على دعوة الكاتب الكبير. مع الأسف لا أستطيع حضور العرض الأول. لكني سأذهب لحضور العرض الثاني إذا صار!
رغم أن ما أريد الحديث عنه لا يدخل ضمن باب السخرية، لكنه قد يكون استباقه هو السخرية بعينها، سخرية القدر الذي لا مجال للهروب منه، كما لا يستطيع كتبة التقارير للمخابرات الهروب والاختباء في خزائن وإضبارات الفروع الأمنية للأبد، ولعنة المخابرات أو الأمن بكل تسمياته ستبقى تلاحق المخبرين حتى القبر، ولن تترك الأبناء وحتى الأحفاد من إذلال مرتكبيها، وأعتقد أنه منذ حوالي تسعين عاماً مازال الكثير يتذكر الذين تعاملوا مع الاستعمار الفرنسي – وأنا على قناعة تامة أن حكم الفرنسيين كان أكثر وطنية لسورية من حكم الأسرة الأسدية -..
أسماء، بضع أسماء جديدة، كانت محفوظة بسرية بالغة ولغاية خمسين عاماً، وكان المفروض لها أن تظهر قبل عشرين عاماً، لكنها اختفت في أدراج آمنة أمينة وفي خزائن محفوظات أكثر أماناً وفي مكان ما في بودابست، اختفت عشرين عاماً منذ تغيّر النظام الذي كانت في خدمته..
أحد أكبر وأشهر محامي دولة هنغاريا دكتور جورج باراندي الأب، وقد تخطى الثمانين عاماً وما زال يعمل كمحامي، واختيار ابنه – وهو محامي أيضاً – قبل سنوات قليلة وزيراً للعدل المجري، يرفع من مكانة الأب الاجتماعية شأناً آخر..
مفاجأة كبيرة أن المحامي الكبير والذي تتسابق محطات تلفزة وإذاعة كثيرة لإجراء حديث معه، المحامي الذي كان اسمه كفيلٌ بربح أكبر القضايا تعقيداً، لما يملكه من قدرة مهنية وتأثير على سير الدعاوى، مفاجأة كبيرة أن المحامي الكبير كان “مخبرجي” صغير يكتب للأمن السياسي تقارير عن زملائه وأصدقائه، عن أقربائه وجيرانه.. والمفاجأة أن الدكتور باراندي وهو على حفة قبره أبى القدر إلاّ أن يكحّل عينيه برؤية إضبارته وتقاريره التي رفعها خلال سنوات طويلة، وعندما تغيّر النظام صار من أكثر المدافعين عن النظام الجديد، أبى القدر إلاّ أن يفضحه ويكشف مستوره..
لم يكن الوحيد، لقد سبقه وربما يلحقه “مخبرجية” آخرون، وفي اللغة المجرية أيضاً يستخدمون تعبير الحثالة، وحثالة المخبرجية في أي بلد كان تترك بصماتها المُذلّة على أبنائهم وأحفادهم…
بعد أن قرأت الخبر والتعليقات التي يتداولها أصدقائي الهنغار، سرح خيالي في رفوف وخزائن فروع الأمن السوري وما يمكن أن تحويه من أسماء قد نكون نعرفها بوجهها “المُعارض” أو المُعاند، أو التابع أو المتبوع.. أسماء قد أكون شربت مع بعضهم القهوة، وربما دفعت أنا ثمن تلك القهوة..
في هنغاريا يوجد من كان معارضٌ للنظام السوري منذ انقلاب حافظ الأسد، وكان معارضٌ عنيدٌ لشيوعيي الجبهة الوطنية التقدمية بسبب تحالفهم مع البعث، وبعد أربعين عاماً من المعارضة وقرض الماركسية التي لم يستطع البعض هضمها، حتى تكرّشت بطونهم، بعد ذلك يكتشف البعض وطنية الأسد الصغير، وصارت عتبات سفارة النظام السوري مزاراً، وبعد تتويج صك البراءة يحاول المتكرشون المنتفخون هواءً ممانعاً للامبريالية – يحاولون خلق وهم لا يوجد إلاّ في عقولهم ونفوسهم القاصرة أو في بطونهم المتكرشة تخمة من الماركسية المسكينة والتي صارت كقميص عثمان، ولكون جاذبية نيوتن قوية عندهم، فهم قريبيون من سطح الأرض، ولكون مقاومة نيوتن صعبة، لذا يحاولون بدل الصعود جرّ من هم فوق إلى سطحهم، وقد يكون قول همنغواي ” عندما نغوص في القذارة نتذكر الطهر” هو التفسير النفسي للذين سيموتون وهم على شهادة الطاغية وممانعته. ويحكى أنه لم يبقَ للمناضلين التائبين سوى الحج إلى مكة المكرمة وهم عازمون على ذلك، ومن هنا نتمنى لهم حجاً مقبولاً، وكان قد سبقهم رفاق شربوا من نفس النبع وللغرابة ليسوا متكرشين..
شيء واحد بقي لبعض من تجاوز السبعين من عمره ولكنه رغم حضوره الدائم ومنذ عشرات السنين على موائد النظام إلاّ أنهم لم يتكرشوا، رغم كل فرص التكريش المتاحة قديماً ليس فقط عند موظفي نظام الأسد بل عند موظفي أنظمة “تقدمية” أخرى رحمها الله، شيء واحد بقي لهم وهم يعرفونه…
عند الحديث عن بعض ملحقات نظام الأسد الصغير، من مثقفي البلاط الصغير في بودابست، يخطر ببالي رئيس إيران أحمدي نجاد، قد يكون شَعر ونظافة البعض وثيابهم النظيفة تُذكّر بالرئيس ذو الرأس والشَعر الوسخ دائماً وهندامه العفشيكة. وقد ذكرت وسائل إعلام نمساوية عن أحد قادة حزب الخضر النمساوي، وهو متخصص في شؤون سياسة الأمن القومي حيث قال: أن ديكتاتور إيران ذو الهلوسات المضحكة عن زيارة المهدي المنتظر له في منامه وعن قرب ظهوره، أن نجادي كان مشاركاً في عملية إجرامية نفذتها مجموعة إيرانية قامت باغتيال ثلاثة معارضين أكراد إيرانيين في فيينا عاصمة النمسا وذلك بتاريخ 13 تموز/يوليو 1989، وأشارت الدلائل أن سفارة طهران في فيينا قد ساهمت في تخطيط الجريمة وتنفيذها، وقد حضر نجادي بجواز سفر دبلوماسي مع اثنين هما علي رضا أصغري وناصر تاغيبور وهما من قادة الحرس الثوري الإيراني. وبعد تنفيذ عملية الاغتيال هربوا على دراجة نارية كان نجادي يقودها، ثم اختفوا في سفارة طهران في فيينا..
رئيس دولة كان يقوم بأعمال إجرامية قبل وصوله للسلطة، وبعد الوصول يجد ألف طريقة لمتابعة جرائمه ضد معارضيه.. الطغاة دائماً مجرمون ومريضون نفسياً..
والحديث عن نجادي لابدّ أن يذكّر ليس فقط بالطاغية السوري الصغير، بل يذكّر بالحركة التي يتزعمها رجال إصلاحيون من ضمن المؤسسة الدينية التي أنتجت نجادي، قد تكون هذه الحركة شبيهة بمحاولات الإصلاح التي أرادها الشيوعيون الإصلاحيون في دول أوربا الشرقية قبل ربع قرن من الزمن، وكانوا جادين في ذلك، لكنهم وجدوا استحالة الإصلاح وتابعوا المسيرة حتى حصول التغيير، إن اعتبار معارضو نجادي هم من نفس طينته والصراع مجرد خلاف بين أهل البيت هو باعتقادي خطأ، وقد يكون موسوي هو غورباتشوف إيران.!
ساحات إيران، المحامي المجري، المتكرشين والمدّاحين، خزائن وإضبارات الأمن، نجادي والأسد الصغير، حثالات المجتمع، وكمشة معارضين معترضين مرشوشين هنا وهناك… كل هذا وأشياء أخرى عنوانها المصداقية تساعد على اكتشاف سورية.. هذا ما أعتقده. لابدّ أن نكتشف أنفسنا وبعضنا أولاً، وبعدها نتحدث عن اكتشاف الوطن السوري…
27 / 6 / 2009
خاص – صفحات سورية –