العــودة إلــى الشــيخ إمــام
عباس بيضون
نعاود سماع الشيخ إمام ونعيد كل مرة اكتشافه. لسنا فقط معاصري الشيخ ولكن معناأيضا أبناؤنا الذين لا يعرفون ما هي هزيمة 67 وربما أحفادنا الذين لن يعرفوا حرب لبنان او احتلال العراق. سيبقى الشيخ هو نفسه تقريبا بالنسبة لنخبة غير متعينة وكأن لم يمر عليه الزمن. رغم ذلك ليس للشيخ مقام في التاريخ الرسمي للأغنية العربية. انه يداوم على نبذه ويجد سهولة في ذلك اذ يفضل حتى محبو الشيخ ان يبقى لهم وحدهم. وأنا ايضا لست مؤرخا ولا خبيرا لكني أظن ان المؤرخين والخبراء، اذا وجدوا، لن يستطيعوا الاستمرار في تجاهل الشيخ. خطر لنا في يوم ان الشيخ جاء مع موجة هزيمة حزيران وسيذهب معها. كنا ذلك الحين أكثر ما نكون جهلا بالشيخ وحسبنا أنه جزية مفروضة علينا «للثورة». حسبنا أن موسيقاه تنفع في هذا الظرف وصوته يصح في هذا الظرف وأداءه يجوز في هذا الظرف. كان صوته العريض الجوفي لا يناسب الرخامة او النعومة المطلوبتين في الطرب العربي حيث الصوت في سلاسته وضبطه يباري الموسيقى. كانت موسيقاه مباشرة وفورية ولا تباري المقدمات السيمفونية التي اولع بها موسيقيو الأغنية العربية وكان أداءه نابعاً من تقاليد عريقة متعددة فاستكثرنا، يومذاك، على غناء ثوري أن يكون تقليديا. سايرنا الشيخ إمام آنذاك أكثر مما أحببناه، حفظنا أغانيه وأديناها في سهراتنا لأنها كانت أغنياتنا، وحسبنا أنها مناسبة لهذا السبب وحده.
لكن الشيخ عاش معنا وهو الآن يعيش مع أبنائنا الذين، فيما أحسب، يحسنون تذوقه أكثر منا. بل هم الذين يدربوننا مجددا على تذوقه من حيث لم يدر لنا في ماضينا الثوري. انهم يحبون خليطا من أغانيه ولا يتوقفون عند (غيفارا مات) وامثالها. بل يتراءى لي أن غناءه السياسي ليس الأرسخ بالنسبة لهم ولأغاني الحب مقام مماثل. ثم ان غناء الشيخ امام السياسي وبأشعار نجم البارعة لا يزال يُسمع ويحب رغم انقضاء الظرف، ورغم ان المناسبة اختفت. لا يؤثر في ذلك ان تواريخ وأسماء متضمنة في الأغاني لم يعدلها مجرى في الذاكرة. ثمة في أغنية إمام ـ نجم قوة تعبير لا تتخطى المناسبة فحسب ولكنها تحيلها إلى رعف داخلي ومعاناة لا يمكن تجنبها. مصر مثلا في أغنيات إمام ـ نجم لا تحيلنا على المارش الحربي العصبوي الذي نراه في الوطنيات العربية، لكن إلى صلة مغلوبة بالأرض والناس لا يمكن للعذاب الذي فيها الا أن يلمسنا.
مع الوقت ننتبه إلى أننا، نحن الذين تعلقنا بغناء الشيخ، اخترنا ان نوجزه في جانب منه. اخترنا السياسي فيه مع انه ليس سياسياً إلا بمقدار، فهو في الغالب معاناة جماعية مكسورة اكثر منه موقفا. الموقف أضعف ما فيه فالرعف واللهفة والانخراط المأسوي هي الأساس. ليس السياسي هو الأساس في عمل نجم ـ امام. لا لأن موضوعات أخرى موجودة بالقوة نفسها، الحب مثلا، فليست المسألة مباراة بين موضوعات. ليس السياسي او غيره من الموضوعات هو ما يهم الآن في غناء الشيخ. ما يهم هو اللغة والأداء والموسيقى. ما يهم هو التجربة الفنية التي لا نستطيع ان نعزلها، لوقت طويل عن محيطها الفني. لا بد أن نقول هنا ان تجربة امام نجم ورشة فنية كاملة. نحن امام مكان لا حدود فيه للتجريب والتنويع. ولا حدود فيه للابتكار والمغامرة. تجربة امام ـ نجم، واستعجل هنا القول، قد تكون أهم تجربة في الأغنية العربية الحديثة وان تم هذا بوعي وغير وعي. بل يمكن القول انها هي وأغنية زياد الرحباني المحاولتان الوحيدتان لتجديد فعلي. أما محاولة زياد فهذا واضح في مشروعها نفسه وفي مراجعها وتوجهاتها، فيما ان محاولة نجم ـ إمام لم تضع هذا في مشروعها الأولي. لقد وصلت إليه بزخم وبغزارة بدون ان تعنيه غالبا أو تتقصده. ثم ان تجربة إمام ـ نجم تضع بساطة وسهولة حلولاً لما هو اشكالات مزمنة ومقيمة. اذا كانت تجربة زياد الرحباني هي في القفز على تقاليد راسخة. فإن تجربة نجم إمام هي، بالعكس، في استنفار التقاليد بما في ذلك اكثرها سفليه وثانوية، فالتقاليد ليست وحدها تقاليد الطرب البلاطي والارستقراطي. التقاليد هي ايضا تقاليد في اللغة وفي الأداء وفي اللحن وفي التعبير غائرة في الطين الشعبي وهي في الغالب مهجورة، انها أيضا تقاليد تتصل بعذابات شعب وملحمته. كان صنيع امام ـ نجم ان رفعوا هذا التراث الغائر إلى الفن، وهو تراث مدهش في تنويعه وفي وتائر تعبيره: السخرية والتهريج والتعريض واللعب الكلامي والاشارات الضمنية واللمز الخفي والنكتة والنواح والنشيد الحكائي والعديات والوقفات الملحمية… الخ كل هذا التراث طفا بالكامل في غناء نجم ـ إمام وطفا معه طين لغوي لا حدود لثرائه. طين يعصى علينا أحيانا فهمه لكننا لا نزال نشعر بنبضه ومعاناته وغناه.
هكذا نجد أنفسنا أمام تجربة تحاكي تجربة البلوز. لقد صعد من التقاليد روح شعب وتاريخه ومعاناته بل صعد من التقاليد قوة عبارة تلامسنا في أعماقنا..
لا يحتاج إمام ـ نجم إلى الكثير ليرفع هذا الطين الشعب إلى تجربة ومعاناة مفتوحتين. هذا يحدث بقوة الزفرة الداخلية وبقوة الأداء وبقوة الموسيقى. سماع إمام ـ نجم لا يضعنا أمام تجربة فردية، اننا أمام أصوات متعددة ووتائر متعددة. هنا القوال الذي ينشد بكل لغة ويعطي لكل صوت مقامه. يسخر ويهرج بالصوت الذي يبكي به والذي يتعذب به، اننا أمام مسرح كامل وأمام تعدد بلا حصر داخل الأداء نفسه. الشاعر والمغني والمونولوجيست والمنشد والقوال والمنشد هم بالتواتر وفي أدوار وألعاب ومقامات متوالية متداخلة داخل غناء يتحول إلى أوركسترا بإداء واحد وصوت واحد. ثمة الآن هذا الأداء غير الخطي الذي يسم الأغنية العربية. غير الخطي وغير الطربي الذي يجعل التلوين الصوتي والترخيم والتجويد في المقام الأول. لا بد ان التجويد أساس في غناء الشيخ إمام لكنه واحد من عناصر، انه دور من أدوار (بالمعنى المسرحي للكلمة). للتجويد مكان لكن للعدية الشعبية ايضا مكان. للموال مكان وللقوال ايضا مكان.
ليست التقاليد للتقاليد في غناء إمام نجم، فالغناء هنا ليس تمرينا على الأصيل كما يحدث غالبا. بل لسنا البتة أمام أي أصالة او مديح للأصيل. ليست التقاليد هنا سوى مخزونها من المعاناة والزخم التعبيري وهي تنكسر فوراً برسالة فورية وحيه وراهنه بل تنكسر بقوة الآنية واللحظة فيها.
هنا في كل شيء هذه اللحظة وذلك التعبير الفوري الصادم. الموسيقى ليست تمارين سيمفونية انها في الغالب فورية ومباشرة ومتغيرة كالكلام الذي تصاحبه. انها من جنسه ومن لونه، عدية كان أم فكاهة أم موالا أم انشاداً أم.. أم. اما صوت الشيخ إمام الذي احتملناه في يوم على مضض فقد احتجنا الى الوقت لنرى فرادته الهائلة وجماله الذي يتفتح أكثر فأكثر كلما سمعناه. ليس بالطبع الصوت الرخامي والمصقول والزخرفي، فهو في الحقيقة يتنكر لهذه الصفات فيه ويتجاوزها كل لحظة لنجد أنفسنا أمام غناء متحرك حيوي لا يقع في ما يقع التجويد فيه من رتابة وبطء. ينطلق من التجويد، حين يريد، ليضعه في حركة ودرامية ليستا، في أصله، نتذكر محمد عبد المطلب وارمسترونغ وآخرين. نتذكر هذه الأصوات التي هي أكثر من غناء وأصحابها أكثر من مغنين.
ملحق السفير الثقافي