كايـة مدينـة «قـارص» فـي صـراع الامبراطوريـات
اسامة العارف
الصورة البانورامية كما وصفها اورهان باموق والتي جعلها البطل الرئيسي في روايته «ثلج» اثارت فضولي وجعلتني اهتم بهذه المدينة التي كانت اشبه ببرج بابل.
كانت الغالبية الساحقة من سكانها منذ القرن السابع عشر من المسلمين الاتراك ثم يأتي الارمن في الدرجة الثانية من حيث العدد ثم الارثوذكس فالكاثوليك ومسيحيون آخرون، ويأتي اليهود في اسفل السلم عدديا.
وتجدر الاشارة الى ان منطقة الاناضول الشرقية حيث تقع «قارص» اتت ضمن الدولة العثمانية وعلى حدودها مع الامبراطورية الروسية حيث توجد منطقة القفقاس. وبالتالي فإن منطقتي الاناضول الشرقية والقفقاس متشابهتان، بحيث تعتبران منطقة واحدة بالرغم من وجودهما ضمن امبراطوريتين كبيرتين، ومن الخطأ بمكان دراسة كل منطقة على حدة بعيدا عن الاخرى، خصوصا ان هناك صلات متينة بين المنطقتين من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والدينية واللغوية، وهكذا فإنه من غير المعقول البحث في احوال ارمن الاناضول بمعزل عن ارمن القفقاس الموجودين في يريفان. كذلك الامر بما يتعلق بالمسلمين في منطقة القفقاس اذ لا يمكن دراسة اوضاعهم وكأنه لا علاقة لهم بمسلمي الاناضول الشرقية، فثمة صلات تجارية وعائلية بينهم على مر السنين جعلت الوشائج بينهما كالوشائج بين ارمن الاناضول وارمن القفقاس.
وتجدر الاشارة الى ان ارمن الاناضول التابعين للدولة العثمانية كانوا يشعرون بأنهم اقرب الى ارمن القفقاس التابعين للامبراطورية الروسية منهم الى مسلمي الاناضول حتى لو كان هؤلاء مواطنيهم من حيث تبعيتهم للدولة العثمانية. كذلك الحال بالنسبة لمسلمي القفقاس، فقد كانوا يشعرون بأنهم اقرب الى مسلمي الاناضول منهم الى ارمن القفقاس.
فالولاء على اساس الانتماء الديني كان القاعدة في كلتا المنطقتين وليس للدولة التي يتبع لها الفرد.
الا ان الارمن في الاناضول في موقفهم هذا لم يكونوا مدفوعين بالانتماء الديني لارمن القفقاس فقط بل لاسباب قومية ايضا.
فمن المعروف آنئذ ان الدول الغربية المعادية للدولة العثمانية عمدوا الى اتباع سياسة اضعاف السلطة العثمانية عن طريق تشجيع الافكار القومية، وقد نجحت هذه السياسة بتشجيع اليونانيين والصرب والبلغار والارمن والعرب.
من هنا، فإن ارمن الاناضول كانوا يتطلعون الى ما وراء حدود الدولة العثمانية فيجدون ارمنا مماثلين لهم يتبعون الامبراطورية الروسية، الامر الذي دعاهم الى العمل على إنشاء ارمينيا مستقلة عن السلطة العثمانية تجمع ارمن الاناضول الشرقية وارمن القفقاس في دولة ذات استقلال ذاتي، لكن تحت السيادة الروسية. هذا الوضع سبب ازعاجا للدولة العثمانية التي شعرت بأن تحركات ارمن الاناضول تشكل خطرا على الدولة العثمانية.
كذلك الحال بالنسبة للامبراطورية الروسية اذ شعرت بأن التواجد الاسلامي في القفقاس يشكل خطرا على طموحها بجعلها منطقة أمان وقاعدة صلبة تجاه سياستها التوسعية الرامية الى الوصول الى البحر الاسود وهو الشيء غير الممكن الا عبر اضعاف السلطنة العثمانية في منطقة الاناضول.
وهكذا، فإن القوات التركية حين دخلت منطقة القفقاس الجنوبية لاقت دعما من مسلميها ضد القوات الروسية، وحين حرض العثمانيون مسلمي القفقاس على الثورة ضد الروس فإن هؤلاء قاموا باعداد قوات نظامية وانشأوا عصابات غير نظامية قاتلت ضد الجيش الروسي. ولهذا السبب قام الروس بعملية تهجير ممنهجة ضد مسلمي القفقاس من شركس وابخاز وداغستانيين لتغيير الوضع الديموغرافي في المنطقة بهدف تحويل المسيحيين الذين كانوا اقلية في منطقة القفقاس الى اكثرية.
ففي غمار حرب 7281ـ 9281 ضد الدولة العثمانية عمدت روسيا القيصرية الى تغيير سكاني في منطقة «يريفان» التي كانت حتى عام 7281 اقليما «ايرانيا» وكان اكثر سكانه من المسلمين، فقامت بعمليات عسكرية قاسية ضد المسلمين مما ادى الى قتل وترحيل اجباري لـ00062 شخص منهم وقاموا باستقدام 00054 ارمني سنة 2381 الى الاقليم المذكور اتوا بهم من ايران ومن بلاد الاناضول.
وفي عام 9581 قام الروس بعمليات تطهير عرقية ضد الشركس بعد هزيمة زعيمهم «شامل» واستولوا على أراضيهم الخصبة بعد ان قاموا بنهب القرى وتدميرها وقتل سكانها، الامر الذي اجبر قسما كبيرا منهم على النزوح الى البلدان التابعة للدولة العثمانية واحل الروس مكانهم مسيحيين روسا.
وفي عام 7681 وبنفس الطريقة قام الروس بطرد «الابخاز» من منطقة القفقاس الامر الذي ادى الى تهجير ثلاثة ارباع مسلمي ابخازيا من عائلات المقاتلين الشبان الذين استبقوهم في البلاد لتشغيلهم والاستفادة من قواهم البدنية.
والامر نفسه يتعلق بالتتار.
وهكذا، قام الروس خلال فترة قصيرة من الزمن بتغيير ديموغرافي في منطقة القفقاس. وبعد ان كان المسيحيون من ارمن وجورجيين اقلية في المنطقة جرى تهجير سكانها المسلمين بالقوة واحلوا مكانهم روسا واوكرانيين وقوزاقا اضافة الى الارمن والجورجيين الموجودين فيها اساسا فتحول المسيحيون الى اكثرية كما اشرنا. وقد بلغت اعداد المسلمين الذين هجرهم الروس من منطقة القفقاس مليونا ومئتي ألف انسان وصل منهم الى اراضي الدولة العثمانية ثمانمئة الف اما الباقون فقتلوا وتشردوا خارج حدود السلطنة العثمانية.
وبالتالي، ضمن هذا الاطار يجب دراسة الوضع في منطقة الاناضول الشرقية والعلاقة مع الارمن. فهؤلاء كما أشرنا كانوا يعتبرون انفسهم حلفاء للامبراطورية الروسية ويمنون النفس بمساعدتها لهم على انشاء جمهورية ارمنية في كل من الاناضول والقفقاس ذات استقلال ذاتي ضمن السيادة الروسية.
وكان الروس من جهتهم يساعدون ارمن الاناضول مساعدة فعالة في نضالهم من اجل انشاء ارمينيا موحدة تجمع بين ارمن الاناضول وارمن القفقاس عن طريق تزويدهم بالاسلحة والاموال وكذلك بالدعم السياسي.
وعندما كانت تأتي الجيوش الروسية وتدخل الاناضول كما جرى في حروب 7281ـ 9281 فإنها كانت تجد دعما عسكريا ومخابراتيا قويا من ارمن المنطقة خصوصا ان الجيوش الروسية المذكورة كان من ضمنها مقاتلون من ارمن القفقاس.
هذا الامر جعل السلطان عبد الحميد يقوم بعمليات ترحيل للارمن من مناطق اصبحوا فيها اكثرية بنقلهم الى مناطق ذات اكثرية اسلامية منعا من تحولهم في المناطق التي اصبحوا اكثرية فيها بحيث يمكنهم عند ذلك التأثير في المجريات السياسية فيها، وخوفا من نجاحهم في مشروعهم انشاء دولة ارمنية مستقلة.
وحين غادر الجيش الروسي منطقة الاناضول عام 9281 خرج معه ليس فقط من ارمن القفقاس المحاربين معه بل آلاف مؤلفة من ارمن الاناضول الذين خافوا من انتقام الاتراك العثمانيين منهم لتعاونهم مع الروس وامدادهم بالمعلومات التي سهلت دخولهم المنطقة وتعاملهم معهم اثناء فترة الاحتلال. وقد بلغ عدد المهاجرين من ارمن الاناضول في الفترة المذكورة تسعين ألف ارمني.
وفي اثناء حرب القرم التي جرت بين الروس والعثمانيين حاصر الروس مدينة «قارص» وقلعتها الشهيرة حصارا شديدا ادى بالنتيجة الى احتلالها من قبل الروس عام 5581 بعدما اصاب الجوع سكانها نتيجة هذا الحصار الذي قضى على الاخضر واليابس فيها، ما ادى الى فناء الجيش التركي فيها عن بكرة أبيه. وقد ساعد الارمن في «قارص» الجيش الروسي ضد الجيش العثماني كما فعلوا عام 7281 وقدموا له معلومات مهمة ساعدت في احتلاله ارض «قارص».
هذا الموقف ادى بالطبع الى اثارة حقد دفين عند المسلمين الاتراك ضد الارمن. وعند خروج الروس من «قارص» بنتيجة معاهدة باريس في 03/3/5581 جرت عمليات انتقام من قبل المسلمين الاتراك ضد الارمن واعتبروهم خونة للسلطنة العثمانية.
كذلك الامر عام 7781 فاثر قيام السلطان عبد الحميد بنفي المحرك الاساسي لدستور 6781 الديموقراطي مدحت باشا وحله البرلمان، عمدت الدول العظمى الى توقيع وثيقة في شهر آذار 7781 عرفت باسم بروتوكول لندن تتضمن فيها تتضمنه حق هذه الدول باتخاذ التدابير الكفيلة بتحقيق السلام في الشرق اذا رأت ان احوال الشعوب المسيحية لم تتحسن في الدولة العثمانية.
الا ان السلطان عبد الحميد رفض اعطاء الدول الاوروبية حق التدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية فأقدم الروس عندئذ على اعلان الحرب على الدولة العثمانية معتبرين انفسهم المدافعين عن المسيحية في الشرق.
اخذت تلك الحرب طابعا دينيا فارتفعت الرايات النبوية فوق المساجد والتكايا في تركيا والتحق الدراويش بالجنود الاتراك وساروا في مقدمتهم مع اعلامهم وبيارقهم. الا ان هذه الحرب التي استمرت 39 يوما انتهت بانتصار الروس وسقطت «قارص» مرة اخرى امامهم في 81/11/7781. وقد قام الجنود الروس وخصوصا القوزاق منهم بفظائع في السكان المدنيين المسلمين من تنكيل بهم وبقر بطون النساء ورسموا اشارات الصليب بالحديد المحمى على اجساد الفتيات.
وكالعادة كان موقف الارمن في «قارص» مؤيدا للروس ومساعدا لهم.
الهزيمة
هذه الهزيمة المنكرة للعثمانيين في تلك الحرب اجبرتهم على التوقيع على معاهدة «سان استيفانو» مع الروس عام 8781 وبموجبها تنازلت الدولة العثمانية عن «قارص» وأضحت هذه المنطقة تابعة لروسيا.
شهدت مرحلة السيطرة الروسية على «قارص» والتي استمرت ثلاثا واربعين سنة استقواء الارمن بحلفائهم الروس، فعملوا على ارهاب السكان المسلمين فيها وقاموا باعمال سلب ونهب وقتل في القرى المسلمة ما ادى الى هجرة اعداد كبيرة من المسلمين الى خارج الولاية.
وخلال تلك الفترة كان السلطان عبد الحميد قد أسس عام 1981 «فوج الخيالة الحميدية» من الاكراد وقد حضهم على القيام باعتداءات على ارمن الاناضول بسبب تأييدهم للروس في حروبهم ضد العثمانيين. فقاموا بعمليات قتل ونهب ومذابح للارمن في هذه المنطقة التركية ما اثار الدول الاوروبية وجعلها تطالب بحل الفوج المذكور خصوصا اثر المذبحة الكبيرة التي تعرض لها الارمن في منطقة بحيرة «فان».
هذه الحدة في المواجهة بين العثمانيين المسلمين والارمن المسيحيين ادت الى قيام احقاد بينهم ساعد في تأجيجها العمليات المستمرة التي كانت تقوم بها الميليشيات الارمنية ضد المسلمين والقرى التي يسكنها مسلمون، وكذلك عمليات القتل والارهاب المقابل التي قامت بها السلطات العثمانية وأفواج الخيالة الحميدية الاكراد ضد الارمن.
المذبحة
واثناء الحرب العالمية الاولى كان لارمن الاناضول نفس الموقف من الروس في حربهم ضد العثمانيين، وقامت قوات غير نظامية ارمنية بحرب عصابات ضد العثمانيين. وفي اقليم «قارص» بالذات الذي كان تابعا للروس آنئذ قام الارمن باعمال عنف ضد المسلمين فيه ادت الى نزوح عدد كبير منهم ايضا عن الاقليم والمدينة.
هل كان الارمن في الاناضول مخطئين في مواقفهم هذه ضد الدولة العثمانية؟
والجواب انه اذا تطلع المراقب الى ما يحدث من وجهة نظر قومية فان الارمن كانوا مصيبين في هذه السياسة.
لكن خطأ القيادات الارمنية بمجملها كان اعتمادها في مواقعها تلك على الدول الاوروبية وخاصة انكلترا وفرنسا، في حين ان هذه الدول وان كانت تشجعها على الانتفاضة ضد الاتراك، الا انها لم تكن مستعدة للتضحية بمصالحها كرمى لعيون الشعب الارمني.
وهكذا فإنه اثناء فترة خضوع الاناضول الشرقية للروس نتيجة معاهدة استيفانو بولوس واتفاقية برلين اللاحقة لها والتي بموجبها ارغمت الدولة العثمانية على التنازل عن مساحات كبيرة من املاكها، كان من الممكن حينئذ الوصول الى توحيد ارمن الاناضول والقفقاس في دولة ارمنية موحدة ذات استقلال ذاتي، الا ان العثمانيين قاموا بقطع الطريق على مثل هذه الخطوة المنتظرة عن طريق التنازل لانكلترا عن قبرص بحيث تصبح هذه الجزيرة تحت ادارة هذه الاخيرة مع بقائها تابعة للدولة العثمانية مقابل تعهد الانكليز بالدفاع عن املاك الدولة العثمانية في آسيا بوجه المطامع الروسية في هذه الاملاك. وكان هذا يعني القضاء كليا على الحلم بانشاء ارمينيا موحدة تجمع ارمن الاناضول مع ارمن القفقاس في تلك المرحلة.
كما ان القيادات الارمنية وقعت في تقديري في خطأ انها لم تقدر حجم ردود فعل الدولة العثمانية من مخاطر استقطاع قسم من اراضيها لانشاء دولة ارمنية مستقلة. ومع ان الشعب الارمني ذاق عمليات ترحيل كثيرة من قبل السلطات العثمانية في كل مرة تلحظ السلطة العثمانية امكانية تحول الارمن الى اكثرية في منطقة ما، فإن القيادات الارمنية كان عليها ان تتحسب لامكان قيام العثمانيين بعملية ابادة ضد الشعب الارمني.
وهكذا اقدم الاتراك عام 5191 على حل مشكلة عدم ولاء الارمن للدولة العثمانية عن طريق القيام بأكبر عملية تطهير عرقي عندما امر وزير الداخلية طلعت بك وبتصديق من الصدر الاعظم آنئذ سعد حليم باشا على اجبار الارمن الموجودين في الاناضول الشرقية والوسط وعددهم نصف مليون انسان على النزوح من مناطقهم بالقوة بعد القيام بعمليات سلب ونهب واعتداء على مدنهم وقراهم وذلك كله تحت نظر ومعرفة الجيش العثماني، وقد تمت عملية التهجير هذه في الاناضول في ظروف مناخية قاسية تسببت في سقوط قتلى بسبب البرد، يضاف الى ذلك ما قام به الرعاع والعصابات تحت بصر الجيش العثماني بسرقة اقوات المهجرين بحيث مات منهم مئات الالوف جوعا وبردا ونتيجة الامراض التي اصابتهم اثناء عملية التهجير المذكورة.
وبدل ان يقوم العثمانيون بسوقهم مباشرة الى البلاد التي وجهوهم اليها في سوريا ولبنان والاردن والعراق وعبر اقصر الطرق، فانهم قاموا بتخطيط مسار عملية الترحيل الاجبارية باختيار طريق طويلة ادت الى زيادة الضحايا بسبب الوقت الطويل الذي استغرقته تلك المسيرة.
والامر الاخطر ان عملية الترحيل القسرية لم تشمل ارمن منطقة الاناضول الشرقية الذين كان ولاؤهم للدولة العثمانية موضع شك، بل شملت جميع ارمن تركيا من اسطنبول الى اضنه وقليقيا وسائر المناطق التي يتواجد فيها بقية الارمن، علما بأن هؤلاء لم يشاركوا في عمليات ضد الدولة العثمانية ولم يقاتلوها الا انهم ذهبوا بجريرة ارمن الاناضول الشرقية.
ولم ينج من عملية التهجير هذه سوى الارمن الذين كانوا ضمن منطقة النفوذ الروسي وارمن منطقة «قارص» بينهم.
والسؤال الواجب طرحه في هذا المجال هو: هل كان بامكان الاتراك العثمانيين حل مسألة تعاون ارمن الاناضول الشرقية مع الجيش الروسي، وبالتالي تجنب عمليات الابادة الجماعية بحق الارمن؟ وبالمثل، هل كان بامكان الروس الذين قاموا ايضا بتهجير حوالى مليون ومئتي ألف مسلم من مسلمي القفقاس عن طريق القتل والنهب والاغتصاب بسبب ولائهم للدولة العثمانية تجنب عملية التطهير تلك؟
اني اعتقد انه كان بالامكان امام ضعف الحياة الديموقراطية في الامبراطورية الروسية والسلطنة العثمانية حل تلك المسألة بطريقة تتضمن اضراراً اقل من عملية التهجير القسرية مع ما رافقها من ضحايا وعذابات، اعني بذلك القيام بعملية تبادل سكاني بين الروس والعثمانيين كما حدث بين الاتراك واليونانيين في خلال سنتي 2291 و3291 حين اجل الاتراك الذين يعيشون في مناطق الاكثرية اليونانية مقابل اجلاء اليونانيين الذين كانوا يعيشون في مناطق الاكثرية التركية.
وقد شهدنا عمليات تبادل سكاني في قبرص بين يونانييها وأتراكها وكذلك بين الهند وباكستان، بحيث تمت عمليات التبادل المذكورة بالحد الادنى من الضحايا. وبالتالي كان بالامكان ان تحول عملية التبادل السكاني بالرغم مما فيها من قسوة وألم دون حصول الضحايا في عمليات التهجير الروسية لمسلمي القفقاس وعمليات التهجير القسرية لارمن تركيا.
لكن حسن النيات للاسف لم يكن يوما الدافع لحل المشكلات السياسية لدى الدول الكبرى. ونعود الى اقليم «قارص» لنجد انه بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 7191 انسحبت القوات الروسية من منطقة الاناضول ودخل العثمانيون الاقليم لفترة قصيرة الا انهم اضطروا للخروج منه بانتهاء الحرب العالمية الاولى وهزيمة العثمانيين فيها، وقام الانكليز باحتلال هذا الاقليم عام 9191 وانشأوا مجلس شورى فيه اناطوا به السلطتين العسكرية والمدنية وسلموه الى ارمن الولاية الذين لم تستطع السلطات العثمانية تهجيرهم عام 5191، وقد اعتبر الانكليز انهم بتسليمهم الارمن مجلس الشورى في الاقليم المذكور بأنه سيكون جزءا من جمهورية ارمينيا المرتقبة.
وفي هذه المرحلة تشكلت قوات الاتحاد عبر القفقاسي المؤسس ما بين جورجيا وارمينيا واذربيجان، الا ان هذه الدول الثلاث انفصلت وصار الجنود هم جنود الجمهورية الارمنية فقط.
وفي «قارص» قام الجنود الارمن النظاميون وغير النظاميين بنزع السلاح من المسلمين الاتراك وسلموا الاسلحة للسكان الارمن، فأصبح هؤلاء وبعض القبائل الكردية القوات المسلحة الوحيدة في الاقليم. وقد قامت القوات الارمنية التي لا يزال أفرادها يذكرون ما حل بمواطنيهم الارمن في عمليات التهجير القسرية التي قام بها الاتراك، بارتكاب اعمال وحشية بدورهم بحق المسلمين في المنطقة فنهبوا قراهم واحرقوها واغتصبوا نساءهم ما ادى الى نزوح عدد كبير من المسلمين من المنطقة.
«قارص» بلا أرمن
وتلى تلك المرحلة ظهور مصطفى كمال كمحرر للشعب التركي، فكلف قائد الجيش الثاني كاظم قره بكير باخراج الارمن خارج حدود الدولة العثمانية، فقام هذا الاخير بذلك سنة 0291 وانتصر على الجيش الارمني وارغمت الجمهورية الارمنية الوليدة على توقيع معاهدة «غمرو» التي اعيدت بمقتضاها منطقة «قارص» الى تركيا، وتعهدت الجمهورية الارمنية الفتية بعدم المطالبة بأي حقوق في منطقة الاناضول الشرقية، وقام الجيش السوفياتي المتحالف آنئذ مع مصطفى كمال باصطحاب الجيش الارمني من منطقة «باطوم» الى «يريفان».
وبنتيجة خروج الجيش الارمني خارج الحدود التركية، نزحت معه الآلاف المؤلفة من الشعب الارمني خوفا من قيام اعمال ارهابية بحقهم من قبل الاتراك المسلمين انتقاما على ما قاموا به هم ضد المسلمين.
وقد صادر مصطفى كمال اراضي الارمن في المنطقة وفي «قارص» بالذات وغيرها من مناطق الاناضول الشرقية بمقتضى قانون خاص بمقتضاها اعتبر تلك الاراضي التي هجرها الارمن هناك «املاكا متروكة».
وفي عام 6291 ونتيجة للضغوط التي تعرض لها مصطفى كمال، اصدر قانونا اعتبر فيه ان جميع ملاك الاراضي في الاناضول الشرقية من الارمن من الاملاك المتروكة يمكنهم استردادها في حال عودتهم الى البلاد خلال عشر سنوات من تاريخ صدور القانون، الا انه عدّل هذا القانون سنة 8291 واتخذ قرارات باسقاط الارمن المالكين للعقارات في الاناضول الشرقية من ملكياتهم لعدم عودتهم الى البلاد، مع ان المهلة القانونية لرجوعهم لم تكن قد انتهت.
وهكذا تحولت منطقة «قارص» وعاصمتها من مدينة ارمنية قديمة قدم التاريخ الى مدينة لا يسكنها ارمني واحد، تنعق الغربان على بيوت اهليها الارمن وقصورهم وكنائسهم واديرتهم، في حين يعيش ابناؤها وابناء ابنائها في بلاد المهجر في مختلف اصقاع الارض يبكون أراضيهم التي اجبروا على تركها بالقوة يسكنها ناس لا يستحقونها، كما يبكون دماء ابنائهم واشقائهم الذين قضوا في عملية الترحيل الظالمة قتلا او جوعا او بردا او مرضا.
ولا اشك ابداً في ان من يعيشون الآن في «قارص» نادمون على خسارتهم للشعب الارمني العظيم الذي ظلم ظلما مبينا مرة على ايدي جلاديه الاتراك، ومرة ثانية على يد قيادته السياسية التي لا تعترف حتى الآن باخطائها في كيفية مواجهتهم السلطنة العثمانية وتحملهم جزءا من المسؤولية عن ايصال الاتراك لهذه المرحلة من التصرفات الوحشية وغير الانسانية تجاه الشعب الارمني المجيد. وهكذا انضمت ««قارص» الى مدينة لا تحمل هويتها الاصلية مثلها مثل كوسوفو» وكثير من المدن التي غابت هويتها عنها لتحل هوية اخرى.
وللاسف، فإن هذا هو مصير هذا الشرق التعس الذي عشعشت فيه الكراهية والاحقاد والتعصب، وغابت عنه انوار العقل والحكمة والتسامح.