صفحات ثقافية

الشاعر الإسباني رامون مايراتا: لاشيء يفتح العقل مثل الحوار مع ما هو مختلف عنك

null


أنور بدر

دمشق القدس العربي رامون مايراتا كاتب وأديب اسباني، ولد عام /1952/ ودرس الأنثروبولوجيا، لكنه لم يمارس هذا الاختصاص إلا في مرحلة وجوده في الصحراء الغربية، هذه المرحلة التي ألهمته أهم رواياته الإمبراطورية الصحراء .

نشر رامون مايراتا أربع روايات وتسع دواوين شعرية، كما كتب في أدب الرحلات، وقُدّم له عمل مسرحي أيضاً. ونشر العديد من المقالات والأبحاث في المجلات والملاحق الأدبية لجريدتي البايس و ABC ، كذلك عمل في برامج ثقافية للتلفزيون والإذاعة الوطنية الإسبانية، ويعطي حالياً دروساً في الأدب الإسباني للقرن السادس عشر في إحدي الجامعات الأمريكية، وقد سبق وترجم الأستاذ رفعت عطفة إلي العربية روايته علي باي العباسي منذ عام 1999.

علي هامش مشاركته في مهرجان الشعر العربي الرابع في الرقة، وهذه ثاني زيارة له إلي سورية. التقته القدس العربي فكان الحوار التالي:

بداية كيف نشأت علاقتك بالأدب؟

أنا أتحدّر من أسرة كانت تعطي أهميّة كبيرة للكتاب، وقد ولدت في مرحلة كانت دكتاتورية فرانكو ما زالت تسيطر علي اسبانيا، فكنت أهرب من الواقع إلي الأدب، وهذا يعني أن أعيش مع الكتاب حيوات أخري، لذلك ومنذ نعومة أظافري كانت علاقتي مع ما يحيط بي عبر الكتاب، مما كان يسمح لي أن أعيش الأشياء بتكثيف أكبر. وبدأت بكتابة الشعر.

حالفني الحظ أنّ قصائدي الأولي اختيرت ضمن مختارات شعرية قدّم لها الأديب الكبير ذي سنت الكسندر الحائز علي جائزة نوبل للآداب، وكنت في السابعة عشرة من عمري. ومنذ هذه اللحظة بدأتُ مسيرة أدبية، وبدأ اهتمامي بالعالم الخارجي أيضاً، لأنني أعتقد أنّ معرفة أي شيء جديد تعني مزيداً من القدرة علي الكتابة، ولذلك منحت في هذه الفترة من عمري أهميّة لمعرفة الثقافات الأخري، أقمت عدة سنوات في شمال أفريقيا وفي فرنسا، إلي أن أنهيت مرحلة التشكل هذه.

أيضاً حالفني الحظ بأن تعرفت علي عدد من الكتاب الاسبان كانوا منفيين زمن الدكتاتورية استفدت من تجاربهم كثيراً. وبدءاً من هذه اللحظة بدأت طريقي الخاص والمستقل عن السياسة الأدبية لبلدي.

أعتقد أنّ الأدب تحوّل بالنسبة إلي إلي أداة للمعرفة وطريقة للتعمق في تلك المسائل التي تشغلني، وأعتقد أنها تهم الناس في زمني.

من هي الأسماء التي أثرت في بداياتك؟

بعضهم قد لا يكون معروفاً لكم، كخوسيه برغامين، الذي كان أحد المفكرين الاسبان الأهم في الجمهورية الثانية، كما حالفني الحظ خلال إقامتي في باريس بحضور الدورات التي كان يقيمها دولوث فوكادل، كما لفت انتباهي وأثار اهتمامي التجديد الذي حصل في رواية القرن التاسع عشر المكتوبة بالاسبانية، كذلك أثر فيّ كتاب من أميركا اللاتينية كخوان رولفو، وغابرييل غارسيا ماركيز.

ما هي دوافعك للانتقال ما بين الشعر والرواية؟

بالنسبة لي الشعر علمني القلب الحقيقي للأدب، تعلمت الكتابة ممارساً الشعر، لكن جاءت لحظة استحوذت فيها العناصر الروائية والسردية علي اهتمامي، لأنّ الرواية كما تبدو لي جنساً حديثاً بامتياز، يمكن أن يقدم وجهات نظر مختلفة، وأصوات متعددة في نص واحد، وهي طريقة كي يخرج المرء من ذاته ويعيش شخصيات وحيوات أخري، وكي يدرك ويفهم طرائق تفكير الآخرين.

يبدو الشعر حالياً في تراجع قياساً للإقبال علي قراءة الرواية عالمياً؟

هذا صحيح، وأعتقد أنّ الشعر تحوّل إلي نوع من الممارسة السرّية. لكنّ هذا يمكن أن يتبدّل وبشكل أساسي من خلال الانترنيت، فللإنترنيت فضيلة أنه يتيح للأشخاص إمكانية العثور علي ما يهمهم، مهما كان صغيراً وغريباً، ويمكن للشعر أن يمضي باحثاً عن قرائه عبر الانترنيت.

وهناك أسباب كي لا يملك الشعراء المعاصرون مساحة الانتشار التي حظي بها سابقاً رافائيل البرتي وبابلو نيرودا لأنّ ذلك الشعر كان متداخلاً في الحركة الاجتماعية والسياسية للناس، بينما الشعر الحالي يتوجه إلي الفرد وليس إلي الجماعة.

في كل لغات العالم عرف الشعر أنماطاً كلاسيكية، وأشكالاً من الحداثة الشعرية مؤخراً، كيف تجلت هذه العملية في الشعر الاسباني؟

هذا التحوّل في الشعر الاسباني حدث مبكرا، منذ مئة عام تقريباً، بدأت الحداثة مع مدرسة روبن دارين ورامون خومنولوث، ثم امتصت هذه الحداثة في الحركات الطلائعية كالسُريالية والدادائية وسواهما

ولكي نملك تصوراً عن ذلك، نقول أنّ الحداثة الشعرية مرّت بالمراحل نفسها التي مرّ بها الفن التشكيلي لدينا، لنأخذ بيكاسو مثلاً، فهو قد قام بما قام به روبرت داريو في لشعر، وبعده جاء ميرو ودالي فتمثلا هذه الطلائعية أيضاً، وهذا يسمح لأي شاعر اسباني أن يملك بين يديه لغة مشغولة بالطريقة نفسها التي أبدعت فيها ـ خلال قرون ـ صوراً أدبية مستخرجة من العالم الطبيعي، كانوا يستخدمون فيها الأزهار والخيول في اللغة الاسبانية. الآن انضمت حالات الواقع المعاصر إلي تلك الصور، لغة الاتصالات، لغة العلوم والتكنولوجيا، هذه العناصر التي تشكل معاصرتنا، وهذا يسمح لنا بالكتابة عمّا يحدث حقيقة، لأنّ الشعر غير زمني، ولكن من الضروري منحه باستمرار طزاجة ما يبدو أنه يُعبَر عنه لأول مرّة.

أنا باستطاعتي أن أعرّف الشعر علي أنه القدرة علي قول شيء كما لو أنه يُقال لأول مرّة، هو عودة للجذور، بمعني أنّ العالم يولد من جديد كل يوم، وبالضرورة كل شعر هو حديث، لأن حتي القديم من الشعر إذ بقي مستمراً فلأنه يمتلك حداثة ومعاصرة بالنسبة للناس.

ولكن هذه الحداثة تتبدي حالياً بطرائق عدة ومتباينة؟

نعم، هناك نزعات عدة، إحداها هي الشعر الذي يفسر الواقع الافتراضي ويدور حول الحقيقة والكذب، ومعني الوجود، وهناك خط آخر هو خط التجربة، والذي يمتح من التجارب اليومية والبسيطة للإنسان، وهناك خط ثالث يحاول أن يُعبر عما لا يُمكن التعبير عنه، لكنه مضمر في قلب البشر، وهناك خط رابع مهم له علاقة مع الإلكترونيات، ففي العصر الرقمي يمكن الجمع ما بين الكلمة المكتوبة والصوت والصورة لخلق قصيدة تستخدم كل هذه العناصر في قراءته.

دعنا ننتقل إلي عالمك الروائي؟

في رواية الإمبراطورية الصحراء إدانة للاستعمار الاسباني في هذا العالم، ولنتائج هذا الاستعمار، تحديداً في الصحراء الغربية، وإدانة للطريقة الخاطئة التي تمّ بها إنهاء هذا الاستعمار. أما في المجال الشخصي، فهي نتيجة لاكتشاف ثقافة أخري مختلفة، وصرخة للعودة بالتفكير إلي عالم الآخر، بطريقة مختلفة عمّا كنا نلقن في طفولتنا.

لا شيء يفتح العقل مثل الحوار مع ما هو مختلف عنك، وأعتقد أنّ هذه إحدي خصائص أدبي.

بعد عدة سنوات كتبت رواية علي باي العباسي وكان هذا الحوار هو موضوعها، رحلة طويلة عبر ضفتي المتوسط، مرئية عبر نظرات رجل مؤمن وذي عقل. لقد اهتممت دوماً بمعرفة ذاك الذي يعني تحدياً لقناعاتك.

روايتي الأخيرة الناظر إلي السماء وكانت ترجمت إلي الروسية باسم قارئ النجوم هي رواية عن الشقاء، من خلال طفل يُعاني من نتائج الحرب، ويعيش في مدينة ما زالت تدفع فواتير تلك الحرب، إنه طفل يملك موهبة خاصة تجاه الموسيقي، وقد تمكن عبر الموسيقي من خلق عالم خاص يحميه ويعزله عن العالم الخارجي القاسي جداً. وهي تكريم لمجموعة الأشخاص الذين تعرفت إليهم خلال ديكتاتورية فرانكو ، وقد تمكنوا من الحفاظ علي أفكارهم وقناعاتهم في مواجهة الواقع الذي يحيط بهم، واستطاعوا أن يحافظوا علي شعلة الحريّة متقدة باستمرار.

هذا الاهتمام بالثقافة العربية هل دفعك لتعلم اللغة العربية؟ وهل اطلعت بشكل كافٍ علي ما يترجم عن العربية؟

حاولت تعلم العربية لكن ظروفي لم تسمح لي بالاستمرار في هذه التجربة، وبشكل خاص لجهة سكني في السنوات الأخيرة خارج مدريد، ولتنقلي المستمر وأسفاري التي لا تنقطع، ومع ذلك يبقي هذا الحلم قائما بالنسبة لي حين تتيح الإمكانيات ذلك.

أما بخصوص الأدب العربي فكان من المهم بالنسبة لي الاطلاع علي بعض دواوين الشعراء الأندلسيين، ابن قزمان وابن عباد وابن زيدون وصولاً لابن عربي ..

ومن الأدب المعاصر قرأت أدونيس ونزار قباني كما قرأت لبعض الشعراء الشباب.. وفي الرواية قرأت لنجيب محفوظ وأمين معلوف وقرأت لروائيين مغاربة وجزائريين وليبيين، والآن سوف أشرف علي نشر مجموعة من الكتب علي علاقة بالصحراء، وسيكون بينها بالضرورة كتب مترجمة عن العربية. كما أترأس مجلة الكترونية، أعتمد فيها علي رفعت عطفة في ترجمة الشعراء العرب.

أنت فنان تشكيلي لكنك ترفض الاعتراف بذلك؟

الرسم حالة خاصة جدا، وممارسة الرسم تشكل لي نوعاً من الغبطة الداخلية، وأعتقد أنها ساعدتني علي تطوير رؤيتي البصرية لعالم الأشياء، لكنني أحترم العمل كثيرا، ومن المحال أن أكرس للرسم الوقت الذي أكرسه للأدب، فأنا أمنح أفضل ساعاتي للكتابة، وهي تأخذ كل وقتي واهتمامي أيضا، وكم أتمني أن يتاح لي وقت إضافي لممارسة الرسم أكثر من مجرد هواية عابرة.

هنالك مسافة بين الإبداع والنقد، كيف تراها أنت؟

ربما في اسبانيا نجد أنّ النقد الأكاديمي يحاول أن يلحق بالإبداع، ويتابع كل ما يطرأ علي الساحة الأدبية، لكن إدراك الجديد دائماً عملية لاحقة علي وجود هذا الجديد، ويصعب علي النقد أن يقول المستقبل الإبداعي، لذلك يقع علي الشعراء عبء التقدّم بالحداثة الشعرية، والنقاد سيفهمون ذلك يوماً ما.

تخم المدينة

قصائد للشاعر الإسباني رامون مايراتا

غ1ف

عِراك الأصوات

حشرجاتُ محرّكاتٍ وزمامير،

زوغانُ صفّاراتِ إنذار،

أصواتُ المدينة تَتَرَدّدُ في مغناطيسِ صمتِ النسيان.

قَرْعُ نواقيسِ المدينةِ يُفْزِعُ

العصافيرَ نحو حرّيةِ ذؤاباتِ الشجر، الفرورة.

الزيتونُ العاري من شدوِه يرتدي الطيران.

العصافيرُ لا تُغَرِّدُ مناقيرُها،

لكنَّ أجنحتها تَتَكَلَّم.

غ2ف

يجيء الروثُ

للعجلاتِ علي الدربِ الترابيِّ وقعُ حذاءٍ ممزّقٍ.

في الشاحنةِ، علي ظهرِها، في متنها،

تَتَقَطَّرُ الأرضُ الموعودةُ (الروثُ).

كالعسلِ، كالهديّةِ،

ينتشرُ السمادُ الحارُّ.

تتداخلُ رائحتُهُ، دون تبدّلٍ، بين الزنابق،

فتتجلّي قوَّتُه وتفسخُه متحدَيْن،

مُتلاحِمَيْن. ضوعٌ فريد.

غ3ف

هواء محفور

مطروحةً علي وجْهِهَا

المعزقةُ فوقَ الأرضِ،

تسندُ ذراعَها الوحيدَ علي الترابِ،

وتطوي في الهواء ظهراً خفيّاً.

غ4ف

فضّة زيتون

تهزُّ الريحُ أوراقَ الزيتونِ

فتطيرُ حرَّةً خلاصةُ فضَّةٍ كتيمةٌ.

ضرباتُ ريشةٍ.

يصعبُ استقراءُ المُحصلة

علي الملابسِ البيضاء المُتدليةِ

من خصورِ حبلِ الأبنيةِ المحيطةِ بحقلِ الزيتون،

وقد صارتْ أكثرَ بياضاً في خضرةِ الأشجار.

يتلقّي الغسيلُ ضربةَ الريشةِ الشفافةَ

لفضّةِ الأشجارِ العتيقةِ،

ويلفُّ بملابِسِ لغزِهِ أجسادَ الخادماتِ

اللواتي يتزيّنّ خلفَ بَلَلِ لملابسِ المنشورة.

غ5ف

الخمّ المهدوم

الفراغُ لا حيٌّ

ولا مَيْتٌ، شَبَحِيٌّ.

لم يبقَ غيرُ الشبكِ المعدنيِّ.

أبوابُ الشبكِ المعدنيّ،

التي تترنّحُ أمام الأبنيةِ الأخري،

تنفتحُ علي الفراغ.

ضجيجُها، ضجيجُ عاملِ البرقِ

لا يوصِلُ بأيّ مكان.

الخطوطُ القاطعةُ تقطعُ السماءَ

التي تُضاعِفُ إلي اللانهاية

فضاءَ قبرٍ داخليّ.

قام بترجمة الحوار والقصائد

الكاتب والمترجم: رفعت عطفة


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى