الإخوان المسلمون بين المرونة السياسية والتشدد المذهبي
ياسين الحاج صالح
على الحركات الإسلامية في العالم العربي «القبول بنتائج الانتخابات الديموقراطية في بلادها، حتى عندما تفرز امرأة أو مسيحياً رئيساً للجمهورية، ما دامت قد قبلت الدخول في اللعبة الديموقراطية». هذا ما قاله المحامي علي صدر الدين البيانوني، المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين، متحفظا على توجهات وردت مشروع برنامج الحزب الذي يزمع الإخوان المسلمون المصريون تشكيله،
تنكر تولي النساء وغير المسلمين هذا المنصب. وفي مؤتمر مخصص لقراءة مشروع الإخوان المصريين، عقد في لندن في 27 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، عبر البيانوني عن «خشيته من أن يُنظر إلى الإسلاميين على أنهم يصنفون المواطنين في بلدانهم إلى درجات، بحيث يظن البعض أن المسلمين الرجال مواطنون من الدرجة الأولى، يليهم المسيحيون في الدرجة الثانية، فالمرأة في الدرجة الثالثة». وطالب الإخوان المصريين بالتحلي بـ»الواقعية»، إذ «أننا في مصر أو سورية لسنا في حاجة لأن ينص على أنه لا يجب أن يكون رئيس الدولة أو الحكومة امرأة». ودعاهم إلى أن «يتجاوزوا هذه النقطة أو يسكتوا عليها» لرد اتهام الإسلاميين بالتمييز بين المواطنين على أساس الجنس (موقع «أخبار الشرق» المقرب من الإخوان السوريين، 29/10/2007).
كذلك اعترض «القائد الديني» السوري، حسبما وُصِف في نص انكليزي للخبر من موقع «أخبار الشرق» نفسه (1/11/2007»)، على فكرة «هيئة منتخبة لكبار العلماء تراقب التشريعات ومدى مطابقتها للشريعة الإسلامية»، معتبرا أن قيام مثل هذه الهيئة يعني «ممارسة الوصاية على البرلمان»، ويؤدي إلى حصول «شبهة الدولة الدينية». ورأى أن المحكمة الدستورية تكفي لذلك، ما دام الدستور المصري يقرر في مادته الثانية أن الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع.
تتوافق هذه التصريحات مع تطور المواقف المعلنة للإسلاميين السوريين كما دونت في وثائقهم التي صدرت في السنوات المنصرمة من هذا القرن. هذا سجلته بالخصوص وثيقة ذات اسم دال: «مشروع ميثاق الشرف الوطني» أصدروها في أيار (مايو) 2002 تفاعلا مع «ربيع دمشق» (هوامش أوسع للتجمع والتعبير العلني عن الرأي خلال العام الأول من العهد الحالي، انتهى باعتقالات في أيلول/سبتمبر 2001). الوثيقة تنطلق من افتراض مضمر بوجود أزمة ثقة بين الأطراف السياسية السورية، وتدعو إلى بناء الدولة الحديثة التي توصف بأنها تعاقدية ومؤسسية وقانونية وتداولية وتعددية، ويلتزم المشروع بمبدأ المواطنة ونبذ العنف ويحيل إلى الإسلام كـ»مرجعية حضارية». الروح العامة للوثيقة منفتحة، يبرز فيها السياسي ويكاد يتوارى العقيدي. وفي آب (أغسطس) 2002 وقع ماركسيون وعلمانيون، فضلا عن الإسلاميين، على صيغة معدلة قليلا للوثيقة، بعنوان «الميثاق الوطني لسورية»، قرر فيها أن «الحريات الأساسية والحقوق السياسية» لم تعد «مسالة فيها نظر»، وأحيل إلى «احترام المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان». ثم أصدر الإخوان منفردين وثيقة موسعة (140 صفحة) بعنوان «المشروع السياسي لسورية المستقبل» صدرت في مطالع عام 2005 (كان عنوان صيغة أبكر منها «المشروع الحضاري…»، وقد طرحت للتداول في أواخر عام 2004). تبسط الوثيقة هذه أفكار «مشروع ميثاق الشرف..» وتعمل على «تأصيلها»، أي عرضها على «أدلتها» في «الشريعة الإسلامية» وفي فكر السلف الإخواني الحديث. وفي تصريحاته الأخيرة ذاتها عن مشروع الإسلاميين المصريين، أحال البيانوني قبول الإخوان بالديموقراطية إلى ما يفترض أنه سند أصيل لهذا الموقف في كتابات حسن البنا ومصطفى السباعي، لا إلى اعتبارات اجتماعية وسياسية وطنية.
هنا، في «المشروع السياسي..»، وبصورة أوسع من ذي قبل أخذ ينتأ توتر بين التطلع التغييري السياسي للإسلاميين والنزعة المحافظة اعتقاديا واجتماعيا وتربويا المنبثقة من مرجعيتهم المذهبية؛ ومن جهة أخرى التنازع بين شرعيتين: الأممية الإسلامية (على ظهر نص «المشروع السياسي..» تعليقات تثني عليه للشيخ يوسف القرضاوي والشيخ فيصل مولوي وآخرين) والوطنية السورية، أي بين وحدة المرجعية التي تتأسس عليها الأممية الإسلامية وتميز الواقع السوري الذي هو موضوع العمل السياسي.
والواقع أن المزج بين براغماتية سياسية ومرجعية دينية ثابتة هو الخاصية البنيوية الجوهرية للإسلام الإخواني في كل مكان. قد تبرز البراغماتية عند الإسلاميين السوريين أكثر من غيرهم لأسباب ربما تتصل بتكوين المجتمع السوري، وسابقة صراعهم العنيف مع النظام، وإرادة مواكبة الحراك السياسي والفكري الداخلي في سورية، وكان هيمن عليه علمانيون في السنوات المنقضية من القرن. لكن المزيج غير المستقر مشترك بين الجماعات الإخوانية، وهو ما يميز «وسطية» الإخوان عن «السلفية الجهادية» من جهة، وعن الإسلاميين الليبراليين الأكثر انفتاحا على الأفكار والقيم الحداثية. ويتبدى التوسط الإخواني في استصلاح مفهوم إجرائي للديموقراطية، ينزع إلى ردها إلى «صندوق الاقتراع الحر والنزيه» (مرفوض طبعا من السلفيين الجهاديين الذين يعتبرون الديموقراطية كفرا). والصندوق هذا له وظيفة وليس له شخصية، ووظيفته إظهارية وليست بنائية: إظهار الأكثرية، أي في الواقع «إخراج» ديموقراطي لواقع إحصائي يتمثل في أن المسلمين (في سورية: السنيين) أكثرية السكان، بافتراض أنهم جمهور مضمون للإسلاميين. أما الشخصية أو الروح المبثوثة في الصندوق فهي لـ»الأمة». والتباس مفهوم الأمة (أمة سياسية أم أمة دينية، أمة مواطنين أم أمة مؤمنين، متكونة حول الشريعة أم الدستور؟) يتيح حجب المزج غير المستقر بين السياسي والمذهبي.
لسنا في معرض التشكيك في نيات الإسلاميين السوريين أو لومهم على ازدواج توجههم، فهم لا يستطيعون تجاوز أفق الجمع بين انفتاح تجريبي على الواقع وتشدد مبدئي. يقتضي الأمر قفزة في الفكر الإسلامي بما يجعل منه أكثر توافقا مع عصرنا دون أن يخون نفسه. وهذه مهمة لا تنجز في بلد واحد، ولما تنجز عربيا وإسلاميا، ولا مفر من إنجازها من أجل إسلامية ديموقراطية.
غرضنا بالأحرى إظهار وحدة النموذج الإخواني وحدوده البنيوية، فيما وراء تفاوتات سياسية ملحوظة بين الجماعات الإخوانية العربية، كما عبرت عنها انتقادات البيانوني للإخوان المصريين. وليس من هذا الغرض تزكية سياسة عملية تدفع نحو عزل الإسلاميين وتدافع عنه، أو «سياسة نظرية» تمتنع عن نقد نموذجهم. قد يكون هذا خارج سياقنا، لكننا ننحاز إلى إدماج الإسلاميين في الحياة العامة في بلدانهم دون التخلي عن نقد فكرهم ومذهبهم الاجتماعي والسياسي.
في الشرط الراهن تبقى نصائح البيانوني للإخوان المصريين محكومة بحدود هذا النموذج. هي نصائح تعكس شعور زعيم الإسلاميين السوريين بالواقع، واقع بلده قبل غيره، دون أن تمس في شيء المرجعية الإسلامية المفترضة، وبالتحديد مبدأ «تطبيق الشريعة» أو العمل على ترقيتها إلى مقام السلطة العمومية. والمشكلة أن الجمع الذي تحفزه الإرادة الطيبة أو الشروط القاسرة بين مرونة سياسية وتشدد عقيدي سيتفكك حتما عند التطبيق العملي. وكفة «نيات المرجعية» (غير الديموقراطية) سترجح على النيات الذاتية (الديموقراطية) للسيد البيانوني أو الشيخ مهدي عاكف. سبق لمثل ذلك أن حصل في الثورة الإيرانية، وقبلها في الثورة الروسية عام 1917.
الحياة – 11/11/07