صفحات العالم

انعطاف استراتيجي مؤجل.. ولكنه قاوم

منذر سليمان
مدرسة الإدارة الجديدة
في تتمة للبحث الذي نشر نهار السبت الفائت، تحاول الدراسة استكمال صورة التفكير الاستراتيجي الأميركي الذي طبع السجال في أميركا. ويستكمل الكاتب قراءة التقديرات الممكنة لصيانة استراتيجية جديدة.
أحاول إلقاء الضوء على ما يمكن أن نتوقعه من رؤية محتملة للإدارة الجديدة تشكل قاعدة لرسم استراتيجيتها الجديدة، والإجابة عن سؤال: هل سترسم الإدارة مدرسة فكرية خاصة بها، أم ستعتمد على مدرسة من المدارس السابقة الذكر؟ في تقديري أن إدارة أوباما ستكون أقرب في صياغتها لاستراتيجيتها المقبلة إلى المدرسة الليبرالية المثالية، مع تطوير انتقائي لها، وسيكون مضطرا الى اعتماد استراتيجية تمزج بين جوانب من المدرسة الواقعية المحافظة والمدرسة الليبرالية المثالية، بواقع الاضطرار وليس الرغبة.
ومن السهل توقع رؤية الإدارة الديموقراطية المقبلة استنادا إلى طبيعة المستشارين المتحلقين حول أوباما إبان حملته الانتخابية، وكان أبرزهم ـ ولو عن بعد ـ بريجينسكي وجوزف ناي، بالإضافة إلى مسؤولين سابقين حفلت بهم إدارة الرئيس كلينتون، وينتظر أن يعتمد أوباما على فريق الأمن القومي الخاص به من مسؤولين سابقين في الحزب الديموقراطي، يتوزعون الآن على مراكز أبحاث ومؤسسات محسوبة على الحزب، ولا بد من الأخذ في الاعتبار ايضا أن تأييد شخصيات بارزة محسوبة على الحزب الجمهوري مثل الجنرال باول (وهو من المدرسة الواقعية المحافظة) رغم خدمته في المرحلة الأولى من عهد بوش الابن، يشير الى إمكانية لجوئه الى ضم بعض الجمهوريين من الذين ساهموا في صدور تقرير بيكر ـ هاملتون الشهير (مجموعة عمل العراق iraq study group حول العراق والسياسية الخارجية الذي صدر في عهد بوش الابن الثاني، والذي استغله سياسيا وانتخابيا ووضعه على الرف من الناحية العملية، ومن المنتظر أن ينفض أوباما الغبار عن هذا التقرير ليوحي بأنه حريص على اتباع استراتيجية إجماع وطني داخلي، رغم انه سيجري عليه دون شك تعديلات، فالتقرير تضمن 79 توصية كانت يفترض أن تتحقق منذ صدوره في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني 2006».
أهمية تقرير بيكر ـ هاملتون انه يحظى بإجماع الواقعيين في الحزبين الجمهوري والديموقراطي ولم يقتصر على وضع تصورات محددة تتعلق بالعراق، بل ربطها بمجمل أوضاع المنطقة وقدم تفصيلات لكيفية التعاطي مع دول المنطقة والصراع العربي الاسرائيلي، وأفرد أبوابا خاصة لكيفية التعامل مع كل من سوريا وايران، وركز على ضرورة المبادرة بما أطلق عليه الهجوم الدبلوماسي الشامل نحو قضايا المنطقة إشارات الى انعطاف مقبل.
مع اقتراب موعد نهاية عهد الرئيس بوش الابن في دورته الثانية شهدنا اندحار وتساقط العديد من رموز المدرسة التدخلية للمحافظين الجدد كما تتساقط أوراق الشجر اليابسة في الخريف، وبدا الأمر لافتا عندما أغلقت مؤسسة القرن الاميركي الجديد أبوابها بعدما كانت مرتعا لشلة المحافظين الجدد.
وانطلقت بعض المبادرات الرافضة لسيطرة المحافظين الجدد وسعت للمواجهة والتحدي حتى قبل الانتخابات النصفية في عام 2004، حيث انطلقت مجموعة وازنة في موقفها الأكاديمي والخبرة السياسية من المحسوبين على التيار الوسطي المحافظ المتمثل بمعهد كاتو، والليبراليين من الحزبيين من سبق لهم الخدمة في إدارات جمهورية وديموقراطية سابقة، أطلقوا على أنفسهم اسم «تحالف من أجل سياسة خارجية واقعية»، وأصدروا بيانين متلاحقين في الشهور الأخيرة من عام 2003 وقع عليهما أكثر من 50 شخصية أكاديمية وسياسية مرموقة، تحت عنوانين بارزين الأول «مخاطر الامبراطورية»، والثاني «مخاطر الاحتلال».
وتلاحقت المبادرات الأخرى لتشكيل مراكز بحثية ومؤسسات استشارية تعبر عن التوجه الديموقراطي، وخاصة الجناح «اليساري» بالمعيار الأميركي طبعا داخل الحزب، مثل مركز التقدم الأميركي «Center of American progress» ومركز الأمن الأميركي الجديد «Center for new American security» وسرت حالة من الحيوية والانتعاش في أوصال بعض المراكز البحثية المحسوبة على الحزب الديموقراطي، وارتفعت وتيرة الانتقاد لسياسة الرئيس بوش ومخاطرها في وسائل الاعلام الاميركية المختلفة.
وسارعت بعض المراكز البحثية الى تشكيل فرق عمل مشتركة من مفكرين استراتيجيين ومسؤولين سابقين من الحزبين، لتقديم رؤى ودراسات وبرامج جديدة تعالج مختلف الجوانب السياسية والاستراتيجية، ومن أبرز الدراسات التي صدرت أخيرا عن مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية CSIS تحت عنوان A smarter more secure America أميركا أذكى وأكثر أمانا»، أو بعبارة مختصرة: القوة الذكية.
وشكلت الدراسة عمليا إدانة صارخة لنهج وسياسة الرئيس بوش وهي وان تجنبت اتهامه صراحة باستخدام «القوة الغبية» إلا ان الكتابة كانت على الجدران كما يقول المثل. وتشكل الدراسة تطويرا لمقولة «القوة الناعمة» التي أطلقها جوزيف ناي، وهو من الذين شاركوا في صياغة الدراسة بالاضافة الى بريجينسكي وريتشارد ارميتاج وغيرهم.
وملخص هذه المقولة يشير إلى أنه يتوجب على أميركا ان تعيد إحياء قدرتها على «زرع الأمل والإقناع» حول العالم، بدلا من الاعتماد على قوتها العسكرية وحدها. فبالرغم من هيمنتها وتفوقها في امتلاك القوة القاسية Hard Power فهي محدودة القدرة في مواجهة تحديات السياسة الخارجية، فمركز وهيبة أميركا في العالم في تلاش متسارع، وتجاهلت الى حد كبير استخدام الوسائل التقليدية للقوة الناعمة soft power ولا تزال تفتقد الى رؤية استراتيجية تمكنها من مزج القوتين «الناعمة والقاسية»، وتحويلها الى «قوة ذكية» لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.
وباشر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية CSIS منذ صدور هذه الدراسة في عام 2007 الى عقد سلسلة من المحاضرات الدورية تحت هذا العنوان «القوة الذكية» وكان لافتا ايضا ان يصدر في صيف عام 2008 كتاب جديد لتيد غيلن كاربنتر، احد ابرز خبراء ومحللي شؤون الامن القومي في معهد كاتو، تحت نفس عنوان: «القوة الذكية: نحو سياسة خارجية حكيمة لأميركا». ويتناول فيه بصورة أساسية مخاطر وثغرات الاعتماد الاميركي المفرط على القوة العسكرية، ويدعو الى ضرورة إعادة النظر بالانتشار العسكري المكلف للولايات المتحدة، ويطالب بضرورة تقليص الميزانية التي تنفقها الولايات المتحدة على الشؤون العسكرية والأمنية.
ولاستكمال لوحة التفكير الاستراتيجي يتوجب تسليط الضوء على «مشروع إصلاح الأمن القومي» الذي صدر التقرير الأولي عنه في يوليو 2008، ويشكل أهم مراجعة حول استراتيجية وهيكلية الأمن القومي الاميركي منذ عام 1947. وتحول المشروع عمليا الى مؤسسة دائمة تمول من الكونغرس ومن مؤسسات أهلية مستقلة وتحظى بتأييد ومساندة الحزبين ويشارك في إعداد الدراسة عشرات الخبراء والباحثين من الحزبين ايضا وبالتعاون مع مركز دراسة الرئاسة الأميركية The center for the study of the president.
وكما أسلفنا صدر التقرير باستنتاجات اولية في يوليو/تموز 2008، وتحوي قائمة المراجعين العديد من الشخصيات التي سبق ذكرها من الحزبين في مشاريع الدراسات الأخرى المعنية بطرح مفهوم «القوة الذكية»… ووُضع عنوان فرعي لهذه الدراسة: «ضمان الأمن في عالم مضطرب: الحاجة الملحة لإصلاح الأمن القومي». Ensuring security in an unpredictable world: the urgent need for national security reform
يهدف هذا المشروع التاريخي وغير المسبوق الى تقديم توصيات تتحول الى مشاريع قوانين في الكونغرس، للمصادقة على تعديلات جوهرية في طرق عمل وتنظيم هيكلية الأمن القومي الاميركي بانعكاساتها الخارجية والداخلية.
وتهدف هذه المراجعة الشاملة الى تحديد مكامن القصور والضعف، وتقديم البدائل لنظام الأمن القومي بإسقاطاته على الصعيدين الخارجي والداخلي، ويعلن أصحاب المشروع أن هدفهم المركزي «أن يتم تبني النظام الجديد للأمن القومي في مرحلة مبكرة من عهد الإدارة الجديدة». وستشمل التعديلات المقترحة مجالات الأوامر التنفيذية الصادرة عادة عن الرئيس، قانون جديد للأمن القومي، وقواعد عمل ورقابة مجلس النواب والشيوخ. تجدر الاشارة الى ان المشروع انطلق في شهر سبتمبر/ ايلول عام 2006 وشارك في اعداده اكثر من 300 خبير في شؤون الأمن القومي من مسؤولين حكوميين حاليين وسابقين ومن القطاع الخاص (مراكز ابحاث، جامعات.. الخ)، وتوزع العمل على 13 مجموعة عمل مختلفة فحصت بالتفصيل اكثر من مئة حالة سابقة ومتنوعة تعاملت معها أجهزة الادارات الاميركية المتعاقبة منذ عام 1947، وقيمت أداءها المشترك، كما حلّلت أكثر من 20 قضية دستورية وقانونية رئيسية، ووقفت أمام المشاكل التي واجهتها وأسبابها والنتائج المترتبة عليها، وجدير بالذكر انه تم تقديم ملخص عن التقرير والتوصيات في مؤتمر خاص عقد في 22 اكتوبر/ تشرين الأول 2008 بمعهد هدسون في العاصمة الاميركية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى