صفحات ثقافية

صور الجسد وأخيلته في الثقافات التكنولوجية

null
جورج فيغاريللو *
لا تقتصر الثقافة التقنية على الآلات، بل تتناول الى الآلات، الحركات والسكنات، وطريقة «نقل» الجسد وتحريكه. والحركات والسكنات تسندها صور في الذهن. هي صور عن الأجساد والمكان والآلات والأدوات. ويغذي عالم الآلات والأدوات الخيالات، وعلى الخصوص ما يتعلق منها بعمل وظائف الجسد الداخلية أو الباطنة. فبعض نصوص عصر النهضة (الأوروبية) الطبية تتوسل بمثال التقطير الى التعبير عن الظاهرات الجسمانية. ومثال ديكارت يرى الجسم على صورة آلة. ويترتب على التصورات هذه أثر عملي. فعلى الأمزجة أن تتعرض للحرارة وهي تصعد الى الرأس والدماغ، ويقتضي هذا تحريرها من البرد. فيتقى برد البطن، أو برد القدمين.
ونصبت الحداثة محل المثال الحراري أو الآلي البسيط مثالاً ميكانيكياً معقداً على غرار الإنسان الآلي والساعات والطلمبات. وغذت هذه بدورها خيالات تناولت الجسم ووظائفه. والحق أن المثالات والنماذج هذه لا تحل محل المثالات والنماذج التي سبقتها، ولا تلغيها، وشيئاً فشيئاً تغلبها. فمثال الطلمبة والأواني المستطرقة وأواني التقطير لا يلبث أن يضم اليه عناصر مثل المفاصل والأسطوانات المسننة والرافعات والوصلات الهوائية، وسرت، من هذه، في الثقافة العامة صور انضباط الحركات المفصلية، الى صور الشبكات والتدفقات والدوائر. وسرعان ما صارت الآلة البخارية معين إلهام لا ينضب. فاستعمل عالم الطبيعيات الفرنسي، بوفون، في أواخر القرن الثامن عشر، الآلة البخارية كناية عن التلقيح والإخصاب. وفي العقود التالية، طوال القرن التاسع عشر، كانت الآلة البخارية مفتاح صور أخرى عن التمرين، وتخفف الحركة تدريجاً من معوقات الانطلاق التي تؤخره وتشده الى حال التوازن والقرار.
وفي عشر 1820، اكتشف كارنو واحتسب المعادل أو المكافئ الميكانيكي للحرارة. فقلب رأساً على عقب تناول المردود والمفاعيل. فإذا بالأوكسيجين والأطعمة محروقات، وإذا بالحركات والوظائف مفاعيل ومترتبات. وولدت الأسئلة عن أفضل الطرق المؤاتية الهواء وتنفسه، وتلك المناسبة الطعام الممضوغ، وعن السبل الى تحسينها وتيسيرها. وتكاثرت صور الجسم العضوي، ظاهراً وباطناً وعمل وظائف، وتناسلت معها واليها صور مباشرة الجسم أفعاله ومبادرته اليها. ولا يخلو هذا من غرابة في قرن أحل الآلة محل جسم العامل. وهو يعيد الى الملاحظة، الافتتاحية، غالباً ما يغذي عالم الآلات التقني الكنايات الجسمانية العضوية، وتلك التي تصف أفعاله وأحواله ومفاعيله.
ويقتضي البلوغ الى أجهزة الحواسيب، اليوم، توسيط حلقات. فينبغي أن تتولى الآلة الأعمال الحسابية، من وجه، وينبغي ذلك أن يكون في مستطاع الاتصال والتبادل. فكتب إميل سوفيستر، في العقد الخامس من القرن التاسع عشر، «العالم الآتي». وجعل في وسطه وقلبه آلة بخارية عظيمة أنزلها في كهف يقوم من المدينة مقام القلب. وأوكل الى آلة واحدة النفخ في أوصال المدينة، مثل ضخ المياه، وتعهد المواصلات، وتوزيع الصحف (بواسطة بساط متحرك يتفرع ويتكاثر ويتشابك الى ما لا نهاية). ولكن الخيال التقني يبقى أسير الآلة البخارية والنارية الى أوائل القرن العشرين. فالكهرباء والشبكة والهاتف والبرق نصبت مثالاً جديداً طوى المثال السابق.
والذين كتبوا في «المحرك البشري»، شأن جول أمار في 1914، افترضوا ضمناً رسم الكهرباء، واتصال أجزاء الجسم العضوي بعضها ببعض، وتشابكها. ومُدح الجسم أو نسبت اليه فضائل غير تلك التي مدح بها من قبل، مثل التنسيق والتكيف وانفاق الطاقة العصبية. وغلبت الفضائل هذه على وصف عالم العمل وعوالم أخرى. وهجس الناس بتزامن الحركات وتوقيتها التوقيت النافع والمجزي، وبمناسبتها الواحدة الأخرى، وتناغمها.
فالمرجع هو الآلة العصبية. وفي 1943، وسم لوي (س) لابيك كتابه بالعنوان هذا. وتستجيب العبارة حاجات العمل المتعاظمة الى الضبط والدقة. ولم يحن بعد وقت الحواسيب الصغيرة. فالغلبة لا تزال للأمر. والى الأمر يعود تنسيق الحركات، وحفزها وبعثها، وقيادتها الى حيث ينبغي لها أن تفضي وتنتهي. والآلة العصبية تفتصر على انفاذ اجراءات نظام عصبي مركزي، وتغلب دينامية تروح الى المركز الى الأطراف، على خلاف الحاسوب الصغير (المجهري). فهذا يجمع ما يعلم به ويلم من الأطراف، وينقله الى المركز. والدينامية هذه لم تظهر، على هذا النحو، قبل الأعوام 1970 – 1980.
ومن عناصر جدة الحواسيب الصغيرة الجسمانية وغير المسبوقة، عنصر الدفق، على معنى التيار الصادر عن المركز وتيار المعلومات الصادر عن الأطراف والصاعد الى المركز. وكان النظام أو المثال العصبي قدَّم عمل التـنسيق بين الحوافز، واتبع العمل هذا بتوقع الاستجابة. وأما المثال المعلوماتي فيقتضي وقتاً أول وسابقاً هو وقت «الإدراك» الذي يسبق وقت الرد والتكيف. ونشر جورج فريدمان، في 1956، كتاباً كبيراً وســمه بـ «فُـتات العـمل» (أو «العمل فتاتاً»). ويتناول الكتاب مكانة تنسيق حركات العامل من سـيرورة انجاز العمل ومـهماته. وهـي مـكانة أولى وحاسـمة. ولم تنقض 20 سنة حتى حلت المكانة هذه مسألة مختلفة: كيف تولي أو الاستفادة من المـعلومات التي تصف حالاً فعلية قائمة، وتنقلها الـشاشة؟ كيف دمج «الرسائل» والرد عليها؟ والاستعارات التي تؤدي الحال الجديدة تتناول جسداً في حال «الاستماع» أو الإصاخة. وتدعو حال الاستماع الى الاستيعاب والتمثل والهضم.
فتحمل الخيالات والاستعارات الجسد على آلةٍ «حاسوب»، تحسب وتحتسب وتدمج وترد. وعندما يذهب ألفين توفلير «الى الكلام على بروليتاريا المعرفة» (أو «كوغنيتاريا»، على قوله) فهو يريد التنبيه الى أمرين: الأول هو صور الجسد وكناياته، والآخر هو أصناف الإرهاق الجديدة. ففي نطاق معلوماتي، من العسير تشخيص الإرهاب وتثبيت سريانه. ويعجز الفرد العامل عن تعيين مصادره وتظاهراته، بينما هو يتخلل العمل، ويلابسه ملابسة حميمة. فثقل العمل كله، والحال هذه، ذهني في المرتبة الأولى. والإرهاق ثمرة استنزاف ذهني ناجم بدوره عن أسئلة تدور على النفس، وتتناول «ما يصيبني»، والأعراض التي «تتهددني» وأعجز عن تعيينها ووصفها.
فمنذ 1980، أقلعت الكتب التي تصف العمل عن تناول العامل في مقابل آلة عليه معالجتها، وتناولت العامل بإزاء شاشة عليه تأويل علاماتها. وعلى هذا، يتولى «صاحب» المعلومات، أو مُدخلها (إلى) الآلة، إمدادها بدفق يتمتع بالسيولة والمرونة والوضوح والنتؤ. وعلى عاتق العامل تقع مهمة الرد السريع والآمن والمناسب. وتترتب على مواصفات الرد، في حال مثل حال المواصلات (خطوط سكك الحديد أو خطوط مترو الانفاق أو المطارات الكبيرة)، تبعات كبيرة وثقيلة، وكلفة باهظة في حال الخطأ. ويقتضي التدبير السليم أو الحصيف إيلاء الاستماع أو التنبه المحل الأول.
ويتطاول أثر الحاسوب الصغير الى الجسد المستهلك ولا يقتصر على الجسد العامل. فهو يلم إلماماً متعاظم الإحاطة بحياتنا اليومية ودقائقها. ويستعمله الناس على نحو قد يبدو غريباً بل مجنوناً، فهم يستفهمون تكنولوجيا المعلوماتية عن الأماكن التي هم فيها، وعما حصل أو حدث، وعن المعايير التي عليهم التزامها في معالجة بعض الأمور. ويلاحظ أن عصر أو عهد تكنولوجيا المعلوماتية هو عصر «تقديس الجسد». فالأفراد يعرفهم وجودهم الطبيعي أو الفيزيائي أوفى تعريف، على ما يرون ويعتقدون. فهم تركوا تعريفهم من طريق نسبتهم الى جماعات كبيرة، أو حملهم على مراجع كبيرة وعامة. وواحدهم هو تجسيد نفسه المادي والطبيعي في «لحم ودم». وتثقيف الأنا هو تثقيف الجسد. وعلى مثال الحاسوب الصغير، ينزع التثقيف الى اصاخة السمع الى النفس، وتمييز الرسائل الصادرة عن «الطوية» و «السريرة». والغاية هي الوقوع على الأحاسيس المناسبة أو الجيدة. فالعالم الجسدي صار أولاً عالم الاستماع.
* مؤرخ ومنسق كتاب «تاريخ الجسد» مع ألان كوربان وجان – جاك كورتين، عن «إسبري، الفرنسية، 3-4/2009، إعداد و.ش
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى