صفحات ثقافية

عن الحب وشياطين أخرى» لماركيز: القبر والشيخوخة والشعر الطويل

null
ابراهيم العريس
عادة، يكاد غابريال غارسيا ماركيز يقسم انه لم يخترع اياً من حبكات رواياته أو قصصه القصيرة. كل ما في الأمر انه خلال رصده لحياة الناس، خلال قيامه بكتابة تحقيقاته الصحافية، تطالعه هذه الحكايات من حيث لا يتوقع، وإذا بها ترسخ في ذهنه ليقرر تدريجاً ان يعود إليها ذات يوم مستخدماً إياها إما مادة أولية لكتابة نص ما، وإما مادة نهائية فيكتبها كما هي. طبعاً، مهما أقسم ماركيز على صحة ما يقول، لن يكون في وسعنا تصديق كل هذا. لكن في إمكاننا في المقابل ان ندرك، أن ثمة خلف كل نص روائي أو قصصي يكتبه، سنداً في الواقع، سرعان ما يتحول على يديه الى شيء مختلف تماماً عما كان عليه أول الأمر. ينطبق هذا الكلام على «مئة عام من العزلة» كما ينطبق على «ليس للكولونيل من يكاتبه» وعلى «يوميات موت معلن» وغيرها، وحتى على كتابه اللطيف حول تسلل السينمائي الشيلي – من أصل فلسطيني – ميغويل التين، الى وطنه الشيلي بعدما كان منفياً ايام الديكتاتور بينوشيت. ولعل ماركيز أوصل هذا الرابط بين الواقع وأدبه، متجاوزاً في هذا الأدب ذلك الواقع تجاوزاً تاماً، إلى اقصى ذرواته في واحدة من رواياته الأخيرة – وإذ نقول الأخيرة هنا، نعني بالنسبة الى وتيرة إنتاجه، لا بالنسبة الى زمن الصدور، لأن هذه الرواية التي نتحدث عنها هنا، صدرت قبل نحو عقد ونصف العقد من الآن-. وهي «عن الحب وشياطين أخرى».
* في أول هذه الرواية الفاتنة، والتي سنرى كيف أوصل ماركيز فيها واقعيته السحرية، إلى أقصى درجاتها، يخبرنا الكاتب كيف ولدت لديه هذه الرواية: كان ذلك عام 1949، حين كان لا يزال مراسلاً صحافياً يعمل في بلدة قرطاجنة الكولومبية. وهناك كلف بأن يغطي عملية تفريغ قبر في دير تاريخي يدعى دير سانتا كلارا. وكان ذلك القبر يقع وسط مقبرة دُفن فيها على مدى مئات الأعوام عدد كبير من المطارنة وغيرهم من البشر. ويقول ماركيز انه فيما كان يتفرج على إفراغ أحد القبور، شاهد بأم العين كيف أن سطح القبر انشق ليطلع منه شعر طويل جداً أصهب اللون رائع الحسن، وراح هذا الشعر يتطاير في الهواء، حتى انكشف القبر كله عن هيكل عظمي لفتاة بدا من الواضح أنها مراهقة، تفتت كل شيء فيها باستثناء شعرها الذي بلغ طوله اكثر من 22 متراً. وماركيز، ما ان شاهد هذا حتى تذكر على الفور «خرافة» كانت تحكيها له جدته وهو صغير: حكاية عن صبية في الثانية عشرة من عمرها، كانت تعيش هنا قبل أكثر من مئتي سنة. كانت الصبية ابنة مركيز ينتمي الى عائلة نبيلة حط بها الدهر بعض الشيء. وكانت خلال حياتها معروفة بجمالها، وبخاصة بشعرها الطويل الرائع الذي كانت تجره وراءها مثلما تجر العروس ذيل ثوب العرس. وتقول الحكاية ان الصبية ماتت في تلك السن المبكرة بفعل عضة كلب لها. ولقد بجلت قبل موتها من قبل كل البلدات والمدن الساحلية في منطقة بحر الكاراييب، بسبب المأساة التي أصابتها وبسبب المعجزات التي كان يقال يومها انها تحققها.
هذا ما جاء في الرسالة الافتتاحية التي تحدث بها الكاتب الى القراء. وهو بعد ذلك، يترك هذا الأصل الواقعي جانباً، كي ينصرف الى رواية ما حدث للصبية وكيف وصلت، حقاً، الى القبر، مستنداً بصورة أولية الى الخرافة التي روتها له جدته، ولكن بعد ذلك الى ما يمكننا اعتباره تحقيقاته الخاصة. فهل يمكننا منذ الآن ان نقول ان ما في هذه الحكاية مثبت تاريخياً؟ ابداً، هنا – بالطبع – يلعب خيال المؤلف جاعلاً للصبية حياة ومأساة افتراضيتين، من دون ان يكون ثمة ما يمنع من ان تكونا حقيقيتين. كل هذا لا يعود مهماً هنا. المهم هو ان الكتاب يتحول منذ تلك اللحظة الى ما يمكننا أن نسميه «حكاية حب مستحيلة» وأكثر من هذا: «حكاية حب مستحيلة لا يمكن احداً إنكارها أو تثبيتها». لكنها هنا، بحسب نظرة ماركيز الدائمة: إنها موجودة طالما انها موجودة في الكتاب… أليس كذلك؟
عند هذا المستوى الثالث من الكتاب – علماً أن المستوى الأول كان مقدمة المؤلف، والثاني: الحكاية كما نقلتها الجدة-، تصبح لدينا تلك الحكاية التي حدثت قبل أكثر من 200 سنة في مدينة كولومبية تقع على الساحل. مدينة كانت مزدهرة ايام العصر الكولونيالي ويقطنها كل أنواع الناس، المتدينون والثائرون، النبلاء والحثالة، العشاق والبرص، اللصوص والفنانون. وفي تلك المدينة كانت تعيش في ذلك الحين الصبية سييرفا ماريا دي تودوس لوس انخليس وهذه الصبية كانت ابنة رجل جعله انحدار طبقته العليا، غير مبال بابنته التي رباها العبيد الهجناء الذين كانوا يخدمون المنزل. فتعلمت الفتاة لغاتهم المختلطة ورقصهم وفنونهم. تعلمت منهم الحياة وكل ما يتعلق بالحياة. وهي كانت من الجمال وبهاء الشعر الأصهب، كما قلنا الى درجة انها حين كانت تتمشى في الشارع، كان الناس يقفون لينظروا إليها. أما تحررها الأخلاقي المبكر فجعل أهلها يقولون ان ليس فيها ما هو أبيض سوى جلدها. ثم كان ان عضها ذلك الكلب الرمادي اللون وجرحها في يدها اليسرى. والذي حدث يومها هو ان الكلب مات على الفور، فيما راحت سييرفا ماريا تتحول حقاً الى فتاة غريبة الأطوار. طبعاً لم يستطع أحد ان يفسر سر ما حدث لها، وإن كان كل واحد قرر لنفسه بصددها نظرة خاصة. وحتى الطبيب الذي تولى تشخيص حالتها لم يصل الى يقين. وفي نهاية الأمر قرر المطران ان الفتاة مصابة بمس ما، وأنها مستحوذة يستدعي الأمر معالجتها روحياً وهكذا قرر، بعد 39 يوماً من عضة الكلب ان يحجزها في زنزانة خاصة داخل دير سانتا كلارا. وهو إضافة الى هذا عهد بها الى الأب غايتانو ديلاورا، وهو كاهن شاب مثقف كان في ذلك الحين في السادسة والثلاثين من عمره. وهنا، عند هذه النقطة من الرواية يحدث ما كان يمكن لنا ان نتوقعه: تغرم الصبية بالكاهن.
في البداية يبقى الأمر سراً، ولكن بعد حين يعلم المطران بما حدث فلا يكون امامه إلا ان يفرق بين طرفي الحب المستحيل هذا. ويرسل الكاهن غايتانو، الى مكان مخصص لإقامة المجذومين على ألا يعود الى هذا المكان من الدير إلا بعد ان يشفى من الحب. أما بالنسبة الى الصبية فقرر المطران، نظراً الى ان حالتها باتت مستفحلة، ان يعالجها بطريقة مختلفة: عبر جلسات تهدف الى انتزاع الشيطان من داخلها. وهكذا تعرض الفتاة لجلسات من هذا النوع، تتوالى ويتوالى معها عذابها، ولكن صمتها ايضاً. وأخيراً، بعد الجلسة الخامسة، يُعثر على سييرفا ماريا ميتة في سريرها. ويكون التشخيص واضحاً: لقد ماتت حباً.
كتب ماركيز هذه الرواية سنة 1994، في وقت كانت سنه تناهز السبعين عاماً. وكان من الواضح ان الشيخوخة والحب والدين والطب ونظرة المجتمع الى الحب، والعلاقات العائلية والذاكرة، وما الى ذلك من مواضيع، كثيراً ما ملأت روايات ماركيز ونصوصه الأخرى، ماثلة هنا بقوة. غير ان الجديد إنما كان ذلك التشاؤم 070525b.jpg المطلق في عمل أتى مفرغاً من كل أمل وبهجة. فالدمار هنا في كل مكان. والسقوط مصير الشخصيات. والحياة والسعادة تفقدان رونقهما بسرعة. كان سؤال ماركيز الأساس في هذه الرواية: إذا كان التدهور هو المصير النهائي والحتمي، لماذا ترانا نسعى الى اي خلاص وإلى أي نجاة؟
بالنسبة الى البعض يمكن اعتبار «عن الحب وشياطين أخرى» أقوى روايات ماركيز (المولود عام 1927) حتى وإن كانت من أقصر رواياته. غير ان آخرين اعتبروها تخرج عن سياق عمله. وفي الأحوال كافة، نعرف ان هذه الرواية احتلت بسرعة مكانتها في سياق أدب صاحب «مئة عام من العزلة» و «الحب في زمن الكوليرا»، علماً بأنه لم يكتب بعدها، وطوال الأعوام العشرة التالية سوى رواية «ذكريات عاهراتي الحزانى» (2004)، والتي لم تقل عن تلك قوة وسوداوية.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى