إطلالة فيروزية نادرة
أمجد ناصر
نحن أبناء الزمن الرحباني. زمن عاصي وفيروز ومنصور ونصري شمس الدين. عندما كان ملحم بركات وهدى وإيلي شويري وجوزف عازار ووحيد جلال ووليم حسواني وسهام شماس وانطوان كرباج ووديع الصافي وفيلمون وهبة وزورو وكيغام، ثريا متلألئة في سماء الشرق العربي، أبطالاً يوميين في حياة جيلنا. لو أزحنا إرث ‘الأخوين رحباني’ من ذاكرتنا لامّحى، على الأقل، نصفها. أو لفقدنا الدليل بين أطلالها المتشعبة.
كيف يمكن أن نفكِّر بصباحات الذهاب الى المدرسة. بمراهقتنا. بشبابنا المتلفت نحو عشرين جهة، بالطرق التي مشينا فيها. بالشبابيك التي وقفنا تحتها. بالمقاهي التي جلسنا إلى طاولاتها الخشبية. بأوراق الخريف المتساقطة. بنباتات فقيرة ولكن مزهرة في أصصٍ على حواف بيوتنا، بالمواعيد التي ضربناها. بالطلَّة التي عبدناها من دون ‘الأخوين رحباني’.. أقصد، طبعاً، من دون فيروز. لكل أغنية فيروزية ذكرى في حياتنا. هناك وجوه صمدت في ذاكرتي بسبب أغنية لفيروز. شوارع كان يمكن أن تمّحي من الواقع والذاكرة لولا أغنية لها. جدران يتعرش عليها لباب وياسمين بلدي قضمتها أسنان البلدوزر، صار موقعها كراجاً لغسيل السيارات، ولكنها لا تزال تحتفظ برائحةٍ ولونٍ واسمنتٍ في ذاكرتي. هناك شباب يكاد يكون خالداً لذات الغمازتين بسبب أغنية فيروزية لم تُكتب عنها. أفكِّر، الآن، بصاحبي الذي صعدت معه درجاً حجرياً شاهقاً الى أحد جبال عمان وهو يدندن ‘تعا ولا تجي واكذب علي الكذب مش خطية’. صاحبي لم يعد صاحبي. خطوتي مضت بعيداً عن ادراج عمان الحجرية. وصلت إلى حواف المياه المظلمة. لولا تلك الأغنية التي كان يدندن فيها للحبيبة المتمنعة ‘التي تأتي ولا تأتي’ لامّحى اسمه ووجهه من ذاكرتي. أتذكر ذلك الساهر الأبدي الذي يقلد أغنية ‘يا عود، يا رفيق السهر يا عود’. لم يكن يعزف عوداً ولا جيتاراً ولكنه بدا كذلك. هناك، أيضاً، الشاعر الذي ترك على المجيب الآلي لهاتف منزله مقطعاً من ‘ما في حدا’. إنه يقصد، بالطبع، لا أحد في المنزل الآن.. إترك رسالة. لي مع ‘البعلبكية’ أكثر من ذكرى. بل حياة. أحببت ‘البعلبكية’. تزوجتها. أنجبت ‘يارا’. هل كان يمكن أن نسمي ابنتنا ‘يارا’ لولا فيروز. رغم أن جدائلها سود كنا نغني لها ‘يارا الجدايلها شقر، فيهن بيتمرجح عمر، وكل نجمة تبوح بسرارا، يارا، يارا’. طبعاً يمكن أن يقال كلام كهذا عن غناء آخر، عبد الحليم مثلاً. لي، شخصياً، مع غناء عبد الحليم ألف ذكرى، لكنها من نوع مختلف. غناء فيروز، أقصد الرحابنة، كان ينعقد على الحلمي والواقعي معاً. هناك لبنانيون وسوريون يعرفون خارطة الغناء الرحباني موقعاً موقعاً. نحن الأبعد قليلاً قد لا نعرفها ولكننا أصبنا بعدوى الألفة. هناك سلالة من الصبيان والبنات نهلت أسماءها من أغنيات ‘الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع’. بهذا يختلف عبد الحليم عن فيروز: خارطة الأمكنة والأسماء والتواريخ. غناء عبد الحليم عاطفة شبه مطلقة. قلب جريح دائماً. فم أبدي ظامىء على حافة الماء. ليس هذا حال الغناء الفيروزي. العاطفة، مهما جاشت، تظل منضبطة. عاطفة واقعية إذا جاز التعبير. الأماني ليست معلقة بنياط القلب، قد تكون في سلة زهور أو بندورة. لست في وارد المفاضلة ولا المقارنة بين ظاهرتين. الحديث عن الغناء بحد ذاته ليس هدفي، بل الإرث الرحباني ومصائر صناعه.
‘ ‘ ‘
كنت أعرف فيروز فقط. لم تكن تهمني الورشة الدؤوب التي تعمل وراء صوتها. ثم صرت أعرف ‘الأخوين رحباني’. ثم رحت أحب عاصي. ربما لأنه مات مبكراً. لأن الشعلة، وهي تضيء، تحرق نفسها. تتغذى من لهبها. وربما لأنني حدست أنه هو الشعلة الرحبانية رغم اسم ‘الأخوين’. ربما لأنه كان زوج فيروز. لكن سيقدر لحدسي أن يصيب أو أن يغلّب ظنونه. تعرفت الى شاعر كبير عمل مع الرحابنة. كان ذلك بعد رحيل عاصي. قال لي إن ‘الأخوين رحباني’ هما، إلى حدٍ كبير، ‘عاصي’. الشعلة هي عاصي. الدينمو هو ذلك العصبي، المتوتر، الطاغي، والمتفجر باللحن والكلمة الذي خذله الدماغ العبقري باكراً، ومثل الأنبياء القدماء سيخذله أهله، لكن صرخته ستسمع، يوماً ما، في البرية. الزمن قد يكون برهاناً على حدسي غير المبرأ من الانحياز. في الواقع ليس لدي برهان آخر على أن ‘عاصي’، هو إلى حد كبير، ‘الأخوين رحباني’ غير الزمن. عاش ‘منصور’ شقيق ‘عاصي’ وشريكه في تلك الماركة المسجلة، نحو ربع قرن بعد أخيه. حسبتي بسيطة: لو كان ‘منصور’ نصف ‘الأخوين رحباني’ لحصلنا على نصف غنائهم وموسيقاهم ومسرحهم بعد رحيل ‘عاصي’! لكن ما قدمه ‘منصور’، بعد غياب شقيقه، لم يترك أثراً. دلوني على أغنية شاعت من انتاج ‘منصور’؟ أريد أن يقول لي عارف بالمسرح الغنائي، ولكن من غير المطبلين، أي عمل يمكن تذكره لمنصور بعد عرضه بسنة؟ قد تكون تلك الحسبة ساذجة. وليس هكذا يحسب الإبداع. فربَّ كلمة واحدة نطقها منصور، جملة موسيقية واحدة أضافها، جعلت أكثر أغاني ‘فيروز’ التصاقا بذاكرتي ممكنة. ربما لن نعرف أبداً أين يبدأ ‘عاصي’ وأين ينتهي ‘منصور’. فلم يترك ‘الأخوان’، على ما يبدو، خارطة طريق الى مئات الأغاني والاسكتشات والمسرحيات التي صنعت ظاهرتهما غير القابلة للتكرار.
‘ ‘ ‘
أعود إلى الخذلان الذي هو أصل هذه الكلمات. فقد رأيته على وجه ‘السيدة’ في اطلالة تلفزيونية نادرة لها على محبيها. كانت فيروز تتحدث بأقل قدر ممكن من الكلمات ‘الدالة’ إلى الكاميرا. إطلالتها التلفزيونية، في ذكرى رحيل عاصي، خصصت لهدف واحد: وضع الأمور في نصابها! هناك ما طفا على السطح داخل العائلة الرحبانية التي صارت عائلات. هناك من يود أن يستقوي بالزمن. بطول العمر فقط. أقصد بقاء ‘منصور’ نحو ربع قرن بعد رحيل أخيه، وتجيير الظاهرة، كلها، إليه. ربما هذا هو سبب إطلالة ‘الديفا’ التي لا تدلي، عادة، بأحاديث صحافية أو تلفزيونية. على طريقة ما قل ودل تكلمت. كانت ملامحها صارمة، وكان لكلامها وجهة محددة. لم تذكر سوى ‘عاصي’. إنه الاسم الوحيد الذي تكرر أثناء المقابلة. يعقبه، مباشرة، مقتطفات من أحاديث تلفزيونية، نادرة أيضاً، لعاصي الرحباني مأخوذة، على الأغلب من أرشيف فيروز. ‘ريما’ ابنة فيروز التي أشرفت على اطلالة والدتها هي التي رتبت التعاقب الدال لكلام والديها في المادة التلفزيونية التي فاجأت محبي فيروز. تتكلم فيروز بتلك اللغة المختزلة ثم يحضر عاصي من الأرشيف ليكون مصداقا على ما تقول. كل الكلام كان عن عاصي. الإشارة الوحيدة الى ‘منصور’ كانت سلبية. فهمنا من كلمات فيروز أن ‘عاصي’ كان يشتغل ‘شغله وشغل غيره’. من هو ‘غيره’؟ لا بدَّ أن يكون ‘منصور’. لعل تلك المادة التلفزيونية التي أعدتها ‘ريما’ كانت محاولة لـ ‘وضع الأمور في نصابها’، ولكنها بدت مجحفة لأنها حذفت ‘منصور’ من المشهد تماما. لعلها كانت رداً غير مباشر على قرار وزارة التربية والتعليم في لبنان تكريم ‘منصور’ من دون أخيه العبقري الراحل، مؤسس العائلة الرحبانية. هل يهمنا حقاً، نحن أبناء الزمن الرحباني، ‘صراع الورثة’؟ هل يغير كثيرا؟
القدس العربي