هل تؤيد انضمام المثقف لصفوف المعارضة ؟
محيط – شيرين صبحي
كان المفكر الراحل د. عبدالوهاب المسيري يؤمن بأن المثقف والمفكر إذا كان صادقا فلن يكتفي ببرجه العاجي، وإنما سينخرط في التغيير كتابة وموقفا.. وفي سبيل هذا الإيمان لم يقعده مرضه الخطير ولا سنوات عمره التي تجاوزت السبعين، عن النزول للشارع ومشاركة الجماهير في مطالبهم، والانضمام لحركة “كفاية ” المعارضة ليصبح المنسق العام لها.
ويطرح انخراط المثقفين في صفوف وتنظيمات المعارضة العديد من التساؤلات حيث ترتفع الأصوات بضرورة بقاء المثقف خارج الإطارين السياسيين السلطة والمعارضة , فهل يتسق الانضمام لحركات واحزاب المعارضة مع دور المثقف الذي يفترض أن يكون مستقلا؟ وهل يعتبر انضمام بعض المثقفين للمعارضة هروب من محاولات السلطة لاحتوائه وإدماجه داخل جهازها؟ فكيف يضمن عدم استغلاله من قبل المعارضة لتسويق أجندتها؟ وأخيرا ما مدى مشروعية اقتراب المثقف من السلطة وأحزابها ؟ .. أسئلة طرحتها شبكة الإعلام العربية “محيط” على المثقفين ..
الصحفى المصرى عبدالحليم قنديل
الكاتب عبد الحليم قنديل المتحدث الإعلامي لحركة “كفاية” المعارضة، لا يرى أي غضاضة في انضمام المثقف إلى أي حزب أو حركة توافق اتجاهه والتزامه السياسي إذا رأى أن الحزب يكفل له حرية التعبير بصورة أكبر تأثيرا.
ويفرق قنديل بين المثقف والمتعلم موضحا أن ليس كل متعلم أو مهتم بالأدب يعد مثقفا، ولكن المثقف هو من له علاقة بمجال الفكر وفي ذات الوقت لديه التزام اجتماعي تجاه قضايا مجتمعه، فيمكن أن يوجد آلاف من أساتذة الجامعات لكنهم لا يهتمون بمجتمعاتهم ولذلك لا يعدون مثقفين.
ويوضح أن الالتزام السياسي لدى المثقف يمكن أن يكون بصفة مستقلة، وضرب مثالا بالمفكرين طارق البشري وجلال أمين الذين لم ينتموا لأحزاب أو حركات بعينها لكن لدى كل منهما التزام وانحياز لفكرة وقضايا معينة.
مثقف الحكومة
المفكر السياسي د. شريف حتاتة يعلق بأن المثقفين ليسوا كتلة واحدة ولكن تيارات واتجاهات مختلفة، فهناك مثقفي الدولة حيث لا يستغنى النظام الحاكم عن مثقفين يقومون بدور الدفاع عن الحكم وتبرير سياساته والتأصيل لها نظريا وفكريا ويكتبون عنها في الصحف والكتب وحتى الأفلام وكل مجالات النشاط الثقافي.
ويضيف: هناك مثقفين نطلق عليهم معارضين ينتمون لتيارات مختلفة، لكنهم معزولين، وفي رأيي أن المثقف المعزول – وأنا منهم- فاعليته محدودة لأن المثقف الحقيقي يجب أن يكون جزءا من كتلة شعبية يعيش وسطها ومرتبط بها ويناضل معها ويطلق عليه المثقف “العضوي”، وهذا غير موجود، حتى المثقفين الذين يريدون أن يفعلوا شيئا حقيقيا لازالوا حتى اليوم لظروف كثيرة جدا معزولين.
هناك تنظيمات شعبية غير الأحزاب من نقابات مهنية ونقابات عمال وجمعيات، وحركات مجتمع مدني، يرى د. حتاتة أنها أيضا معزولة فمثلا إتحاد العمال حكومي وليس بجواره تنظيمات عمالية أخرى، مضيفا : ” النقابات المهنية مسيطر عليها إما الحكومة أو جماعة “الإخوان المسلمين “، كذلك إتحاد الكتاب حكومي، منظمات المجتمع المدني عبارة عن أفراد وعدد جماهيرها قليل جدا، لذلك فالتنظيمات الشعبية أيضا معزولة حتى عن الأعضاء الذين لا يذهبون إليها إلا أثناء الانتخابات”.
مأزق عالمي
د. شريف حتاتة
ويرى د. حتاتة أن الانترنت يمكن أن يكون له دور ولكن هذا يتوقف علي قدرته على تحريك الناس وفي أي اتجاه.. مضيفا أننا في وضع يمكن اعتباره مأزق ولكنه ليس خاص بمصر وحدها بل في العالم كله بدرجات متفاوتة ؛ حيث أصبح الناس بعيدين عن السياسة بسبب تجاربهم مع الأحزاب التي لم تستطع التغيير في المجتمع لصالح الأغلبية وعدم ثقتهم في القيادات ومشاكل المعيشة المتزايدة.
يمكن للمثقف الانضمام للحزب ولكن .. أي حزب؟ وكيف يتعامل معه الحزب هل تكون هناك ديمققراطية حقيقية داخل الحزب بشكل تسمح له بالتعبير عن رأيه حتى لو كان معارضا أحيانا لسياسات وقيادات الحزب وله وجهة نظر أخرى؟
ويجيب بأنه ليس لدينا أحزاب تمتلك هذا المنطق، “فقد كنت في الحركة اليسارية لفترة طويلة وانتمي لحزب معين وكتبت أشياءا في كتبي تعارضهم فسألوني كيف أكتب هذا الكلام فقلت لهم إذا كنتم لا تريدوني أن اكتب هذا الكلام يمكنكم التحقيق معي وإقالتي لكني متمسك في حريتي بكتابة ما أريد”..
وعن حركة “كفاية” يقول أن لها ايجابياتها لأنها تمردت علي أشياء كثيرة وكسرتها من ضمنها هيبة النظام ومنع المظاهرات، لكنها تحولت أيضا إلى حركة محدودة ومعزولة وجامدة إلى حد كبير وليس لها أفق حتى أصبحت متوقفة عن أن تتقدم لظروف كثيرة أدت إلى ذلك.
ويختتم د. حتاتة حديثه مؤكدا أننا لم نهتد حتى الآن إلى صيغ من العمل تخرجنا من السجن والحصار والفكري والتنظيمي والحكومي الذي نحن بداخله.
د. حلمي القاعود
أحزاب ورقية
يفترض في المثقف وخاصة في بلدان العالم الفاسد مثل بلادنا العربية أن يكون على مسافة بعيدة من السلطة وغوايتها، كما يقول الأديب والناقد د. حلمي قاعود الذي يؤكد أن السلطة هنا بالنسبة للمثقف جحيم وضياع وإدانة .. ماذا يفعل مثقف مع نظام مستبد فاسد اللهم إلا تسويغ أخطائه وتبرير خطاياه نظير فتات لا يسمن ولا يغني من جوع !
ويرى أن أحزاب المعارضة في بلادنا مجرد كيانات ورقية لا وزن لها لا في الشارع أو الفكر، ومعظم همومها شخصية إنشائية، إنها أحزاب ديكور لحزب السلطة الذي يحركه نفر قليل ولا يملك أعضاؤه الذين يبلغون الملايين من أمرهم شيئا . ولا أظن المثقف الحقيقي يقبل بالانضمام لهذه الأحزاب أو حزب السلطة لأن ذلك يمثل عارا يلاحقه أبد الدهر .
د. قاعود يؤكد أن المثقف الحقيقي يعاني في توصيل أفكاره، حيث تسيطر السلطة على معظم وسائط التعبير، والباقي تتركه للأحزاب الورقية والجهات التي تسمى مستقلة بشروطها وتحت سيطرتها أيضا من خلال خطوط حمراء لا يجوز تخطيها.. وإن كانت الشبكة العنكبوتية “النت” قد أحدثت شرخا في هذا الحصار الاستبدادي، وأتاحت إلى حد ما فرصة مخاطبة جمهور ما ببعض الأفكار الحرة بعيدا عن تأثير مؤسسة الاستبداد.
ويضيف أنه كلما كان المثقف جادا ومخلصا وزاهدا في فتات السلطة، استطاع أن ينأى بنفسه عن هيمنة السلطة وأحزابها الورقية، ولنا في الأستاذ العقاد رحمه الله خير النماذج التي تمردت على السلطة والأحزاب جميعا ، بل والنظام العسكري بعد يوليه 1952.
ويختتم د. قاعود معلقا “هناك بعض مثقفي الحظيرة يزعمون أن الاقتراب من السلطة يمكن أن يحقق فوائد للأمة، ويغير من أفكار الاستبداد, ولكن ثبت أن هذا وهم، فالسلطة هي التي حققت أهدافها الشريرة وغيرت هؤلاء المثقفين وجعلتهم يلمعون حذاءها العسكري أو البوليسي”.
استثارة الضمير
أما الشاعر المصري حاتم عبدالهادى فيقول أن التاريخ السياسى يعرف أن علاقة المثقف بالسلطة هى علاقة تضادية ولكنها ليست تصادمية مثل أحزاب المعارضة اليوم ولهذه العلاقة يصف المعارضون المثقفين بالتخاذل لأنهم لايسايرونهم فى أفكارهم الصدامية مع السلطة.
ويرى أن رسالة المثقف تنحصر فى المناداة بالقيم الحقيقية فى المجتمع، وعليه أن يوجه الرأى العام لما هو أسمى وأرقى من أى فكر معارض لأن المعارضة تستهدف الوصول للسلطة وهى فى هذا الصدد تقوم بالتظاهر والاحتجاج عن طريق استثارة الجماهير ولكن المثقف لا يعنيه ذلك بقدر ما يعنيه استثارة الضمير الاجتماعى العام.
ويرى عبد الهادي “أن رسالة المثقف لا تتعارض مع رسالة وفكر المعارضة ولكنها لاتتسق معها أو حتى تتقاطع لأن الممارسة تختلف وبهذا تختلف الأهداف”.
حرية المثقف
يرى الكاتب والناقد الأردني د. محمد القواسمه أن المثقف يملك سلطة، وإن كانت معنوية أو رمزية، وهنالك صراع بين سلطته والسلطة السياسية، سلطة الحكم. وتعمل الأخيرة على ادماج المثقف بها أو احتوائه، وإذا لم تستطع فهي تهمشه أو تصادر حريته؛ لهذا فإن مشروعية المثقف الحقيقي تكمن في المحافظه على سلطته من أي احتواء أو تهميش، ليستطيع الإخلاص لقضيته في الدفاع عن قيم الحق والعدالة دون الرضوخ لأي أفكار دوغماتية مهما كان مصدرها..
ويضيف أن المثقف الحقيقي صاحب قضية ورؤية وموقف، وليحافظ على إرادة مستقلة فإنه لا ينضم لحركات المعارضة وأحزابها؛ إنه بذلك يتفوق على المثقف العضوي الذي قال عنه غرامشي المفكر الايطالي الماركسي، فلا يتحزب لأي طبقة. إنه يتحزب لمشروعه الخاص الذي يتبنى الدفاع عن القيم الإيجابية في الحياة ويبشر بها، ويدعو إليها.
ويقول القواسمة: لمّا كانت المعارضة تمثل سلطة، وهي تسعى إلى كسر شوكة السلطة السياسية والاحلال مكانها فإن المثقف الحقيقي لا ينضوي تحت سقفها. إنه طائر يغرد حسب طبيعته في فضاء من الحرية والاستقلال.إن انضمامه للمعارضة مقتل لفكره المستقل.
انضمام المثقف للمعارضة يعني فقدانه قوته المعنوية، كما يؤكد القواسمة، وعلى المثقف أن يدرك اللعبة التي تقوم عليها السلطة أي سلطة سواء أكانت سلطة الحكم أم المعارضة، وأن يبقى في منطقة تسمح له بالنقد الحر، ليحافظ على منزلته وقوّته. إن انضمام المثقف للمعارضة يعني فقدان مشروعه الفكري الخاص، وانعدام الرؤية السليمة للواقع، والسقوط في حبائل الظلم ؛ فأي سلطة هي ظالمة كما يرى كونفوشيوس.
مفيد أحيانا
الناقد السينمائي المصري محمد عبد الفتاح الحائز علي جائزة الدولة التشجيعية لهذا العام، يرى أن انضمام أي مثقف لأي حزب قد يكون له فائدة للحزب والمثقف، وقد يكون ضد استقلالية المثقف الذي لا تقيد رؤيته أي قيود، لكن في العادة عندما ينضم إلى حزب فإن آفاق الرؤية أمامه تضيق إلى حدود رؤية الحزب وبالتالي قد يتحول إلى بوق دعائي لخدمة أغراض الحزب الذي ينتمي إليه ويفقد استقلاليته.
ويضيف أنه من الملاحظ علي مدي التاريخ الإنساني أن المفكر والمثقف في العادة يميل لأن يكون بعيدا عن الارتباط برؤية أي حزب، ولكن هذا لا يمنع من ان يعبر أو يحمل بعض رؤى الحزب الذي يميل قلبه إليه ولكنه لا يعد نفسه عضوا في هذا الحزب.
ويرى الناقد عبد الفتاح أنه علي الجانب الآخر فإن الأحزاب أحيانا تكون مفيدة للمفكر أو المثقف إذا وجد من يدفع بأفكاره إلى التحقيق أو بتبني أفكاره لتكون موضع تنفيذ وهنا قد يميل بعض المثقفين والمفكرين إلى الارتماء في أحضان بعض الأحزاب، ولكنهم سرعان ما يختلفون معها عندما لا تتلاقى رؤياهما فتحدث القطيعة بين المثقف وسياسة الحزب الضيقة.
الكاتب السوري مصطفى اسماعيل
السلطة والمعارضة سواء
الناشط الحقوقي والكاتب الكوردي السوري مصطفى إسماعيل يؤكد أن المثقف الحق يكاد يكون غائباً أو مقصياً أو منفياً نفسياً أو جغرافياً, هل يعيد التاريخ سفر أبي حيان التوحيدي وموقفه من السلطة والموت جائعاً بالتالي, فالمثقف لا يسمح له كبريائه التحول إلى مجرد إكسسوار في مؤسسة السلطة, وساق مثالاً بالشاعر الكوردي شيركوه بيكس, الذي كان وزيراً للثقافة في حكومة إقليم كوردستان العراق خلال عقد التسعينيات, ولكنه استقال من الوزارة, لرفضه التدخلات الحزبية الكوردية في شؤون وزارته.
ويعلق أنه لم يكتب على جبين المثقف أن يكون مستقلاً, فحين يعلن المثقف عن اختلافه مع النظام السياسي الحاكم في بلده معرياً فساده واستبداده, فهو يكون حينها معارضاً لهذه السلطة, وهنا قد يكون المثقف ذاك معارضاً فرداً أو منخرطاً في إطار تنظيمي ما معارض بدوره ( شريطة أن يكون هذا الإطار التنظيمي المعارض مستنداً في معارضته على برنامج واضح المعالم ), ولكن ينبغي للمثقف أن يتعامل معه كمجرد نافذة على إمكان ممارسة دوره, ولكن العديد من التجارب في المنطقة لا تشجع على انخراط المثقف في أي كيان سياسي معارض أو موالي, لأن ذلك يشوه دوره ويجرده من المصداقية ويحني قامته.
ويرى إسماعيل أنه لا يمكن للتنظيم المعارض أن يكون قبلة للمثقف الذي اختار الصف المعارض, فلا فارق جوهري بين السلطة والمعارضة في بلداننا فهما وجهان لعملة واحدة مهترئة وكاسدة, والحالة هذه تفرض القول أن ليس ثمة ما يجذب المثقف إلى حزب معارض. معلقا بأن الهاجس الأوحد لدى المعارضة والسلطات أينما كانت هي إثقال جيوب المثقفين بالحجارة إذا لم يتمكنوا من تطويعهم.
في استطلاع لشبكة الإعلام العربية “محيط” عن انضمام المثقف العربي ضمن حركات المعارضة السياسية، رأى 68 % أنه يمثل دعم فعال للمعارضة وللمثقف، بينما اعتقد 20 % أنها لا تفيد المعارضة ولا المثقف في حين جاءت النسبة الأقل 12 % لتبين أنه دعم للمعارضة فقط.