صفحات سورية

سورية… طغيان زمرة ومأساة شعب

null

عبدالباسط سيدا

يبدو ان محنة السوريين على اختلاف انتماءاتهم ستدوم الى امدٍ غير معلوم, ما لم يحدث تحرك شعبي فاعل. هذا ما يُستشف من المعطيات والقرائن المادية التي نواجهها ونتلمسها من جهة النظام, الى جانب بواعث التشتت والبلبلة, فضلا عن هشاشة المواقف وعدم وضوح الرؤى من جهة المعارضة.

فالنظام السوري, او بتعبير ادق الزمرة المتحكمة بسورية دولة ومجتمعا, قد تجاوزت مرحلة انعدام الوزن, وتمكنت من التقاط انفاسها اثر حالة الدوار والعصابية التي هيمنت عليها بعد سقوط حكم صدام في العراق العام 2003, واقدامها – من دون ارادتها- على اخراج قواتها العلنية من لبنان العام 2005. فقد بدا الامر لجل المراقبين حينئذٍ ان حكم الزمرة المتسلطة تلك في طريقه الى السقوط, وكان اعتمادهم في هذا المجال على جملة مؤشرات, من بينها الحركة الداخلية ضمن مجموعة الحكم نفسها, وتمظهراتها الهستيرية التي تجسدت في سلسلة من الاغتيالات, سواء ضمن اهل الحكم, او المعارضة في سورية ولبنان. كما ان التبشير الاميركي بدمقرطة الشرق الاوسط كان من بين الامور التي تلقفها العديد من المراقبين والمعارضين بعقلية تسليمية غير نقدية, واعتمدوا موقفا قدريا مفاده ان الارادة السامية الاميركية ستمكن الشعب السوري من ممارسة حريته بكرامة في نهاية المطاف اسوة ببقية الشعوب الحرة. حتى بات الفعل التغييري الوطني بالنسبة الى هؤلاء متوقفا على مدى اللهاث من اجل بناء العلاقات مع المخلص الاميركي, من دون تكلف عناء تأمل الواقع السوري من الداخل والتزام مشروع تغييري واقعي, ياخذ بعين الاعتبار الامكانات الموجودة على الارض, ويعمل في سبيل الارتقاء بالعمل الوطني السوري, انطلاقا من الداخل, ليغدو في المستوى المطلوب, وينسجم مع الاهداف , ويتقاطع من جهة المصالح المشتركة للشعب والوطن مع الحسابات الاقليمية والمعادلات الدولية.

لكن الذي تبلور لاحقا, اكد هيمنة نزعات التسرع والسذاجة والرومانسية في تحليلات المراقبين غير المتمرسين, والمعارضين الهواة من المعتقدين بانهيار وشيك لسلطة زمرة الحكم في سورية, التي عاشت بالفعل مرحلة قلقة, نتيجة خشيتها من وجود قرار بازاحتها عن دفة الحكم; ولكن ما ان تبين لها ان المطلوب منها هو التكيف مع المستجدات الاقليمية ضمن الاطر التي تريدها الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل, حتى بادرت الزمرة المعنية الى استخدام جميع اوراقها, واسهمت في دفع الامور نحو التأزيم في العراق ولبنان وفلسطين. وفي المقابل شدت من قبضتها الحديدية على الداخل السوري; فاعتقلت النبلاء من رموز الحراك الديمقراطي السوري من مختلف مكونات واطياف الشعب السوري, هؤلاء الذين يمثلون ذروة النبل الوطني في زمنٍ بات الوطن فيه فريسة ومزرعة لكل من يخضع هذا الاخير لمقاسات حساباته الخاصة; واغلقت البقية المتبقية من المنتديات, بعد ان كانت قد غضت عنها الطرف في لعبة سافرة منها استهدفت تثبيت ابن الرئيس. كما شددت الزمرة ذاتها على الناشطين, ولاحقتهم الى حد الاغتيال – كما فعلت مع الشيخ معشوق الخزنوي- وقمعت المظاهرات والاعتصامات بعنف غير مسبوق, واطلقت النار بصورة عشوائية كيدية على الكرد في مارس 2004, ومارس 2008 , بعد ان ادركت ان هؤلاء – الذين يعانون من اضطهاد مزدوج وظلم مركب- يعتبرون على الاقل في المرحلة الراهنة, محركا شعبيا رئيسا في الساحة السورية, وذلك بفضل ما يمتلكه العامل الكردي السوري من قاعدة شعبية – خاصة على صعيد الشباب- اثبتت حضورها في مختلف الظروف, رغم كل الاجراءات القاسية التي اقدمت عليها السلطات الامنية.

اما موجة الغلاء الكارثية التي تفاعلت مع وضعية الجفاف الطبيعي, فقد غدت هي الاخرى سيفا على رقاب الشعب السوري, تستغله زمرة السلطة لاذلال الناس, ودفعهم نحو الاستكانة, هذا في حين ان الواجب الوطني كان يلزم السلطة المعنية – فيما لو كانت تمتلك ادنى مستوى ممكن من النَفَس الوطني والرادع الاخلاقي- بضرورة التحرك الجاد بهدف تخفيف العبء عن الناس, وتسخير كل الامكانيات لتمكينهم من تجاوز الازمة, بما في ذلك التوجه نحو المجتمع الدولي, وطلب المساعدة منه, باعتبار ان ما يلم راهنا بالمواطنين السوريين عامة, وفي المناطق الكردية على وجه الخصوص نتيجة الجفاف, يجسد كارثة انسانية بكل المقاييس.

وفي اجواء غياب معارضة فاعلة, تمكنت الزمرة المهيمنة في سورية من استعادة اوراقها الاقليمية, او على الاقل قسما منها, وذلك بالتنسيق مع الحليف الايراني. فقد استطاعت بفضل تابعيها في لبنان من تعطيل مؤسسات الدولة هناك, وهي لا تتردد في تعطيل وتخريب كل شيء, طالما ان ذلك يدخل في اطار سياسية التلويح بالقدرة على التحكم التي الفت استخدامها في سياق المباحثات السرية مع المعنيين, بغية رفع سقف الصفقة, والظفر بعقد تسلطي جديد. كما تمكنت عبر الخلافات الفلسطينية من التحكم مجددا بجانب من القرار الفلسطيني. وفي العراق تبنت – بموجب لعبة تبادل الادوار وتنسيقها مع النظام الايراني- الورقة الطائفية السنية لدى قسم محدود من اهل السنة, مستغلة واجهة حزب البعث – المغلوب على امره هو الاخر- وشعاراته القومية الحالمة. كما استفادت من علاقاتها مع جماعات الارهاب المتطرفة; هذا في حين ان النظام الايراني افتعل واحتضن النزعة الطائفية الشيعية; وذلك لاحداث بلبلة طائفية بهدف زعزعة استقرار البلد, وتهيئة الظروف لتدخلات لا تنسجم في مطلق الاحوال مع المصالح الحقيقية للعراقيين, كل العراقيين, بصرف النظر عن الانتماءات القومية او الدينية, او الطائفية او السياسية.

وبالموازاة مع جهودها القمعية في الداخل, والتصعيدية المؤامراتية في المحيط الاقليمي, كانت زمرة الحكم في سورية حريصة باستمرار على مد الجسور عبر القنوات السرية, والعثرات الديبلوماسية مع العدو المفترض الاسرائيلي, وكان الحرص المستمر على تحقيق صيغة من التفاهم مع الاميركان, الامر الذي يؤكد ان الهدف الاساس والمثير بالنسبة الى الزمرة المعنية هو البقاء في مركز التسلط, والتحكم وباي ثمن, من دون اخذ الاعتبارات القومية او الوطنية او الاخلاقية في الحسبان. فهي تدنس المقدس, وتحنث بالعهود والمواثيق حتى بالنسبة الى اتباعها; ولعل اغتيال مغنية في دمشق, يؤكد بصورة لا لبس فيها ان الزمرة المعنية مستعدة للاقدام على اي شيء, والتضحية باي كان من اجل البقاء. والامر اللافت هنا هو ان التكتيك المعهود بالنسبة الى هذه الاخيرة كان باستمرار سياسة مزدوجة, لها ظاهرها الشعاراتي التحريضي الديماغوجي الرواغ, ولها في الوقت ذاته الباطن العملي الذي يسير بموجب قاعدة: لنتفق ونحدد الادوار, شرط ان نبقى في السلطة. ظاهر يُراد به اثارة الانفعالات والغرائز الشعبوية لدى الناس بغية افراغ الطاقات الشعبية الكامنة من محتواها وسلبها قدرتها على التحرك والتغيير; وباطن يحقق للزمرة عينها مراميها الخاصة بها, المتعارضة بالمطلق مع مصالح الوطن واهله.

اما الوجه الاخر من محنة السوريين – بكل انتماءاتهم- فيتمثل في واقع المعارضة المنظمة التي لم تتمكن بعد من بلوغ مرحلة التعبير المؤثر عن ماساة السوريين وتطلعاتهم, ولم تفلح في عملية الاستلهام الصادق لتوجهاتهم; فهي ما زالت معارضة متارجحة مترنحة تحت وطاة نزعات التعصب القومي المتكلس, او الطائفي المذهبي, باشكالها المختلفة. تقتات من عقلية الخمسينات والستينات; كما انها تعاني كثيرا من نتائج المغامرات الفردية لبعض الهواة. ولعلنا لا نذهب بعيدا اذا قلنا ان زمرة السلطة من جهتها ما زالت تحتفظ ببعض الخلايا النائمة – اذا صح التعبير- بين صفوف المعارضة, تحركها بين الحين والاخر في مختلف الاتجاهات, بمظاهر خادعة, وشعارات هلامية ايهامية,تستهدف في المقام الاول زعزعة الثقة بين المعارضين, وبعثرة الجهد المعارض, منعا من وصوله الى مستوى التهديد الفعلي لسلطة الزمرة اللامرئية التي تتحكم بالبلد, وتسيره بصورة تتعارض بالمطلق مع المصالح الوطنية, ومع الحد الادنى لاحترام كرامة الناس وحقوقهم.

المعارضة السورية باجنحتها المختلفة مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى بالالتقاء حول برنامج وطني عام, اساسه عقد وطني ديمقراطي بين مختلف مكونات الشعب السوري; عقد يحدد الحقوق والواجبات للمواطنين الافراد, ويساوي بين الجميع امام القانون الذي يُسن بارادة شعبية حقيقية للاسهام في عملية النهوض بالمجتمع السوري وتطويره, عقد يحترم الخصوصيات المجتمعية, ويوائم بينها في صيغة تناغمية تكاملية, لتصبح هذه الاخيرة عوامل ايجابية فاعلة, تستثمر امتداداتها الاقليمية والدولية لصالح وحدة سورية وحريتها وازدهارها, شرط ان تكون لكل ابنائها, لا فرق بين عربي وكردي, مسلم ومسيحي, سني وعلوي, اسماعيلي و درزي وايزدي, علماني ومتدين, ليبرالي ويساري ومحافظ, لا فرق بين كل هؤلاء الا بمدى الاخلاص لسورية والوفاء لها; مقابل ان تكون سورية الحرة الكريمة حاضنة كبرى تستوعب كل الخصوصيات, وتحفظ حقوق الجميع بعهود مكتوبة,واضحة ذات مصداقية لا تقبل التاويل او التقويل; وممارسات وطنية, تعزز الثقة المتبادلة, وتقطع الطريق امام الخشية من المستقبل, والتوجس من الاخر المختلف على صعيد الانتماء الفرعي, الشريك في الانتماء الوطني الاساس.

الشعب السوري باسره يعاني ويقاسي الامرين منذ عقود, وقد بلغت هذه المعاناة ذروتها بعد موجة رفع الاسعار الاخيرة, التي جاءت لتغطي على نهب زمرة الفساد والافساد لثروات سورية وامكانياتها التي لا يُستهان بها. وما ينتظره هذا الشعب من نخبه السياسية والثقافية هو ان تقدم هذه الاخيرة على عمل يرتقي الى مستوى التحديات الداخلية وما اكثرها. وهي تحديات فرضتها زمرة تشدقت على مدى عقود طوال بانجازاتها السماوية الوهمية, ومعجزاتها المخابراتية غير المسبوقة; ولكن ها قد ذاب الثلج وبان المرج, وهاهي الغالبية العظمى من الشعب السوري المبتلى تعيش تحت حد الفقر; حتى بات رغيف الخبز اليومي بالنسبة الى الناس حلما كبيرا عصي المنال, ناهيك بالمقومات المعيشية الاخرى.

تُرى اين نحن من العصيان المدني الذي لن يكون مجديا ما لم يمهد له بتنسيق وطني عام, ويبدا من المدن الكبرى خاصة: دمشق وحلب وحمص واللاذقية والسويداء وقامشلي?

تساؤل يفرض ذاته على قوى المعارضة السورية بكل اطيافها; تساؤل مصيري ينتظر الاجابة الحاسمة لان الشعب لم يعد يحتمل اكثر


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى