الإرهاب متوجهاً للشهود قبل الشهداء
إيلي نجم
يبدو أنّ إشاعة الخوف عند الناس صارت إحدى علامات عصرنا. الواقع أنّه، منذ حوالى نصف قرن، ما من يوم يمرّ إلاّ ويحصد الإرهاب القائم على العنف الجسديّ ضحاياه في مكان ما في العالم. وكانت الأيّام مرادفة للمعارك التي خاضتها العرب ضدّ الأعداء والغزاة.
على وجه العموم، ثمّة نوعان من الإرهاب: ذلك الذي سادَ إبّان الحرب الباردة والذي يمكن وصفه بـ “إرهاب الدول” حيث بدا ضربًا من “الدبلوماسيّة القسريّة”، كما قيل، والإرهاب الذي يبدو اليوم بمتناول المنظّمات الثورويّة والتحريريّة والراديكاليّة والأصوليّة وعصابات المافيا وتهريب المخدّرات، وحتّى الأفراد المهووسين و/أو المختلّين عقلياً… إنّه شكل آخر من الأشكال العديدة للحرب التي لم تعد، كما كان يقول الجنرال والمنظّر العسكريّ البروسيّ كارل فون كلاوزفيتس، وجهاً آخر من الأوجه العديدة لسياسات الدول.
وكان بعض علماء الاجتماع قد لحظَ أربع “موجات” إرهابيّة: يمكن وصف الموجة الأولى بالفوضويّة، وقد انتهت بنهاية الحرب الكونيّة الأولى، في حين أنّ مسرح الثانية كان بلاد البلقان، وقد وضعت الحرب العالميّة الثانية حداً لها. أمّا الثالثة، فقد امتدّت بين عامي 1950 و 1993، وتميّزت بانحسار ظاهرة الاستعمار وبالحرب الباردة، في حين أنّ الرابعة قد أفلتت من السيطرة وبدت أكثر عنفًا ولاعقلانيّة.
ويربط بعضهم بين ثلاثة أحداث جسام افتتح كلّ واحد منها، وعلى التتالي، القرون الثلاثة الماضية: 1- التفجير الذي استهدف نابوليون في 24 كانون الأوّل (ديسمبر) من العام 1800، وقد نجا منه الإمبراطور بأعجوبة. 2- واغتيال أرشيدوق النمسا فرنسوا فردينان في سارايفو في 28 حزيران (يونيو) من العام 1914. 3- والهجمات الإرهابيّة التي استهدفت البرجين في نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) من العام 2001.
ماذا الآن عن أصول الإرهاب؟ قد يرى بعض المحلّلين أنّ الظاهرة قديمة، في حين أنّ المفردة حديثة العهد. نستدلّ على هذا الأمر بما وصلنا من أخبار عن “حرب اليهود” لفلافيوس يوسيفوس وعن جماعة “الحشّاشين” في القرون الوسطى. لكنّ الفارق يبدو شاسعًا بين إرهاب الأمس وإرهاب اليوم: ففي الوقت الذي استهدف فيه إرهاب الأمس الحاكم أو الطاغية بمفرده لأنّه تنكّر لشعبه مثلاً ولم يقم بواجباته، يتطلّع إرهاب اليوم إلى إصلاح النظام السياسيّ أو الأخلاقيّ أو المعرفيّ أو الدينيّ القائم أو تقويضه.
ويلاحظ بعضهم أنّ إرهاب اليوم بحاجة إلى شهود أكثر ممّا هو بحاجة إلى شهداء. إلاّ أنّ العدد الأكبر من الضحايا يكوّن صدمة إعلاميّة تنقل المشاهد اللامبالي إلى شاهد يهتمّ للخبر الذي سرعان ما يقبض عليه، بل يأسره. وهو الأمر الذي يَنشده “الإرهابيّ” لنصرة القضيّة التي يروّج لها ويستميت في الدفاع عنها. في صدد هذا الأمر، يقول أبو داود في مذكّراته (وهو الذي كان وراء عمليّة ميونيخ في أيلول/سبتمبر من العام 1972) إنّه تعمّد الاستفادة من وسائل الإعلام العالميّة التي نقلت نبأ اختطاف الرهائن ليلفت النظر إلى القضيّة الفلسطينيّة ومعاناة الشعب الفلسطينيّ… ويندرج هذا العمل في خانة ما كان قد أطلق عليه المفكّر الفرنسيّ غي ديبور société de spectacle.
كما يلاحظ بعضهم أنّ “الإرهابيّ” يقلب الأمور رأسًا على عقب حين يرى أنّ العمل الذي يقوم به هو سياسيّ بامتياز، وليس جريمة البتّة. وقتذاك، يستحيل الجلاّد ضحيّةً والضحيّة جلاّدًا. أضف أنّ الإرهابيّ يؤثر العمل على القول على نحو ما كان قد ذهب إليه كارل ماركس: “لقد قصر الفلاسفة عملهم على تأويل العالم بطرق مختلفة، في حين أنّ المقصود تحويله”. الواقع أنّ تحويل العالم يستلزم تغييرًا في تصوّر هذا العالم، وأنّه ليس بوسعنا صياغة تصوّر للعالم إلاّ بواسطة تأويل كافٍ لهذا العالم. وهو الأمر الذي يعني أنّ ماركس يستند إلى تأويل معيّن للعالم ليطالب بتحويله. أضف أنّه إذا كان تحويل العالم يستلزم بالضرورة تصوّره، وبالتالي تأويله، فإنّ مجرّد تأويله يعني تحويله بمعنىً من المعاني.
ولعلّ الإرهاب سلاح فعّال بالقَدْر الذي غيّرت فيه بعض العمليّات الإرهابيّة وجه التاريخ أو على الأقلّ بدّلت اتّجاهاته. وعلى سبيل التخيّل والافتراض، ما الذي كان سيحدث لو استطاع الحلفاء اغتيال أدولف هتلر؟ وما الذي كان سيحدث لو لم يُقتل ألدو مورو في إيطاليا (1978) وأنور السادات في مصر (1981) وإسحق رابين في إسرائيل (1995) ؟ وهذا الأمر الافتراضيّ يدخل في نطاق ما يسمّى بالفرنسيّة في علم التاريخ uchronie، أي في اللسان الإغريقيّ ما لم يحدث (ou) في الزمن (khronos).
السؤال: هل يستهدف الإرهاب الغرب وحسب ؟ الجواب سلبيّ بالطبع. ذلك لأنّ الإعلام الغربيّ يُخبر عن العمليّات الإرهابيّة أكثر ممّا يفعله إعلام العالم الثالث. وقد يروّج الغرب للإرهاب الآتي من بعيد بغية اعتماد سياسات مشبوهة أقلّ ما يُقال فيها إنّها مجحفة بحقّ الدول والشعوب الأخرى، وهذه هي، على وجه العموم، دول الجنوب البائسة وشعوبها المغلوبة على أمرها!
فإذا كانت الحرب إرهاب الأقوياء للضعفاء، فالإرهاب إنّما هو حرب الضعفاء على الأقوياء.
المستقبل