صفحات العالمما يحدث في لبنان

فزاعة التوطين أو عودة المكبوت

فواز طرابلسي
من عادات الأفراد والجماعات عندما تشتدّ عليهم وطأة العجز عن تقرير أي شيء مهم يتعلّق بمصيرهم ان يتلهّوا بالخرافات والفزاعات.
أما ميدان الخرافات فالأثير فيه عندنا هو الخرافات عن الذات، فيرتفع منسوب العنفوان عن الاستقلال والحرية والسيادة، وشمخات الرأس، بارتفاع نسبة الاستتباع والعجز والاستسلام للخارج.
وأما عالم الفزاعات، فالأثير فيه طبعاً فزاعة «التوطين». ولم يكن مستغرباً ان تعود إلى «الساحة» ـ وقد بات الاسم الحركي للبنان ـ لتملأ الوقت الفراغ الذي تنتظر فيه الطبقة السياسية نتائج المداولات بين الذين أعفوها من مهمة التقرير في الأمور الأساسية المتعلّقة ببلدها.
والميزة الكبرى لفزاعة التوطين انها عابرة للانقسام بين 8 و14 وحمالة أوجه بامتياز. بل انها تسمح لافرقاء لا يجمع بينهم جامع ان يجتمعوا هكذا لتسجيل انهم… اجتمعوا. لذا تجد بند «التوطين» يعلو جدول أعمال اللقاء الأخير بين منسّق اللجنة المركزية لحزب الكتائب ورئيس تيار «المردة». في الأمر بعض الغرابة. لا لشيء إلا لأن حزب النائب سامي الجميل ابلغنا انه قد قضى باكراً على «مؤامرة التوطين». فمنذ شهور قليلة طلع علينا بحملة إعلانات شهيرة يعلمنا أحدها: «للتوطين حطّينا نقطة على السطر». ومتى؟ عام 1975! منذ ذلك الحين، لم يتبرّع أحد بإعلامنا لماذا سقطت النقطة عن السطر.
مهما يكن، فأبرز العاملين على إعادة النقطة إلى السطر هو بلا شك رئيس «كتلة التغيير والإصلاح»، النائب الجنرال ميشال عون. وقد ارتفعت وتيرة تنبيه الجنرال لهذا الخطر منذ عودته من فرنسا وتحديداً بعد ان ارتأى ان شعار «تحرير» الوطن من «الاحتلال السوري» قد استنفد أغراضه إثر انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005.
خلال زيارته الأخيرة لدمشق، خصّ الجنرال الموضوع الفلسطيني بالقسط الأوفر من محاضرة ألقاها في حضرة طلاب كلية الهندسة بجامعة دمشق. قد يعجب المرء لماذا لم يجد الجنرال غير مؤسس علم النفس سيغموند فرويد والمؤرخ الإسرائيلي المنشق ايلان بابيه، يستشهد بهما مثالاً عن يهود مناهضين للصهيونية. ولماذا اغفل أعلاماً من المفكرين اليهود المناهضين للصهيونية أمثال سبينوزا وكارل ماركس وروزا لوكسمبورغ والشاعر هنريش هاينه وليون تروتسكي، وآينشتاين، وغيرهم كثر.
لكن اللافت في رؤية الجنرال للقضية الفلسطينية هو انه صبّ جام غضبه في قصة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني لفلسطين على قرار التقسيم لعام 1947 الذي حمّله للأمم المتحدة حصراً. فكأن لا مسؤولية لبريطانيا أو الولايات المتحدة، ولا حتى للاتحاد السوفياتي ـ الذي اعترف بالدولة اليهودية حتى قبل ان تعترف بها الولايات المتحدة الأميركية! ـ عما أسماه الجنرال «الأذى الأكبر» الذي لحق بالفلسطينيين. وإذ تشدد الجنرال في مطالبته بالقرار 194 حول حق العودة للاجئين الفلسطينيين، نصح إسرائيل بأن تستعيد الفلسطينيين… إليها.
في مناسبة تالية، دعا الجنرال إلى «تدويل قضية اللاجئين» مطالباً الإدارة الأميركية هذه المرة بأن تأخذ لاجئي لبنان إلى الولايات المتحدة.
لما كنّا في سيرة فرويد والفرويدية يمكن القول ان الجنرال أفصح هنا عن «عودة المكبوت»، إذ باح بما يكبته دعاة رفض «التوطين»: الدعوة إلى تهجير ربع مليون فلسطيني على اعتبار ان لبنان لا يتحمل استمرار بقائهم على أرضه.
تأكيداً على ان ليس في الأمر أي نزوة من نزوات الجنرال، عاد إلى الموضوع ذاته في تصريح خص به الزميلة «الأخبار» (عدد 7 تموز 2009) وعبّر فيه عن خوفه على مصير لبنان. ممَّ يخاف الجنرال؟ وعلام يخاف؟ يخاف على السيادة: «ضاعت السيادة ما دام قرار تأليف الحكومة لم يعد على الأرض اللبنانية، وضاع الاستقلال وبيع القرار اللبناني إلى ممولي الانتخابات». هكذا، بكل بساطة. وعلى الرغم من ذلك، ليست هذه هي أكبر معضلة تواجه لبنان. ها هو الجنرال يكبّ الماء الباردة على مواطنيه الذين لا يفكرون «صح». ففي وقت يرفض فيه نتنياهو حق العودة ويدعو إلى «قيام الدولة اليهودية» العنصرية التي تبشر بدورها «بترحيل الفلسطينيين الباقين على أرض إسرائيل (كذا!)»، يتلهى اللبنانيون بنتائج الانتخابات وبأخطار مزعومة من مثل التشادور وولاية الفقيه. وهم غافلون عن «أكبر معضلة تواجه لبنان منذ بداية المأساة الفلسطينية وهي التوطين».
ولما كان الإدغام سيّد الأحكام في هذه الديماغوجيا الشعبوية، لا بد للمؤامرة من ان تكتمل بمشاركة الطرف الذي يحمّله الجنرال كل مصائب البلد: إذ يعلمنا ان مالاً سعودياً يُضخّ في لبنان بهدف… توطين الفلسطينيين.
وهكذا لكل فزاعته. والشطارة من يفزع جمهوره أكثر من الآخر. بل من هو الأشطر في «شدّ» جمهور الآخر إلى فزاعته هو.
لا يبدو ان الجنرال مهموم إلى هذه الدرجة بالسلاح خارج المخيمات ولا بالسلاح داخل المخيمات. ولو كان مهموماً فعلاً، فهل يعتقد ان تحريضه هذا يطمئن أي فلسطيني على نفسه في لبنان ليلقي سلاحه؟
الجنرال عون مشغول بالوزن السكاني لربع مليون مدني فلسطيني يتواجد معظمهم على أرض لبنان منذ بداية «المأساة الفلسطينية» عام 1948. والحل الذي يقترحه حلّ استباقي: التهجير قبل ان يقطع سيف حلّ النزاع العربي الإسرائيلي إمكانية عودة فلسطينيي الشتات إلى وطنهم.
بناء عليه، لا معنى لنقاش عقلاني يذكّر بأن فلسطينيي لبنان، شأنهم شأن سائر الفلسطينيين، لا يبحثون عن وطن بديل. ولا معنى للتمييز بين إقامة الفلسطينيين في لبنان وبين «التوطين» و«التجنيس». ولا معنى للحجة التي تقول بأن المسيحيين هم أصلاً أقلية سكانية من أقل من 38% فلن يغيّر شيء وجود ربع مليون مسلم إضافي لا حقوق مواطنة لهم أصلاً، طالما ان نسبة التمثيل الطوائفي بالمناصفة ليست مبنية على الوزن العددي.
يجهر الجنرال برغبة أكيدة في إعادة موقع رئاسة الجمهورية إلى ما كان عليه قبل اتفاق الطائف على اعتبار ان الاتفاق فُرِض على لبنان بالطيران والدبابات، على ما ذهب الجنرال أبو جمرا، بدون ان يفيدنا طبعاً عن هوية الطرف الذي فرض الاتفاق بواسطة الطيران والدبابات! فما موقع هذه الرغبة ـ البرنامجية من رفض «التوطين»؟
لا نريد ان نصدّق ان الجنرال عون العلماني يقصد ان خطر الوجود السكاني الفلسطيني يزيد من وزن موقع رئاسة الحكومة في وجه رئيس الجمهورية العتيد؟! هذا إذا كنا نريد ان نكون مهذّبين!
مطلع السبعينيات، خيّل لطرف سياسي ان حلاً للنزاع العربي ـ الإسرائيلي بات وشيكاً وانه يوجد «شعب زائد» في المنطقة لا مكان له في الحل هو الشعب الفلسطيني. فكان لا بد من اقتلاعه بالسلاح باسم «مؤامرة التوطين». يتكرر التصوّر ذاته الآن.
للتذكير: أسهم ذلك التصوّر وما استتبعه من سياسة في إشعال حرب استغرقت 15 عاماً. استدرجت عدداً من الاطراف الخارجية لقطع دابر «التوطين»، ناهيك بالمجازر. ولم توضع النقطة على السطر.
فهل من طريقة أخرى لإنهاء السطر أو على الأقل لتكملة النص؟!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى