الوطنية الإيديولوجية والمُواطنة الحقيقية
بدرخان علي
(إلى أكرم البني…..شريكاً في الهمّ)
ليستِ الحملة الأمنية الأخيرة على نشطاء “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” (إئتلاف المعارضة الوطنية الديمقراطيّة في الداخل، أعلن عنه في خريف 2005، وعقد مؤخراً مؤتمراً لمجلس وطني سوري حضره أكثر من160 ناشطاً ومثقفاً)، ليست وحدَها التي ستضعف أولوية الخيار الديمقراطي في سوريا ومشروعية العملِ السلمي والجماعي على درب تعميق الثقة الوطنية،
المهزوزة، وتكوين فضاءٍ وطني تواصلي وتفاعلي يفضي إلى ابتداع صورةٍ معدلة لِما هو قائم عن مفاهيم الانتماء للوطن والمواطنة والدولة…، التي افتقدت المعنى والدلالة بعد أن جوفت وضيق عليها الخناق سياسياً وإيديولوجياً، وصولاً لتعميم ثقافة وطنية ديمقراطية منفتحة..، إنما الاتهامات الصادرة عن قوى وشخصيات من صف العمل الوطني المعارض نفسه على خطاب الإعلان وهيكليته وآلياته، هي التي ستؤدي إلى ضعضعة الفكرة الديمقراطية، الفقيرة أصلا في العقائد السائدة جميعاً، في العالم العربي “الذي لا تتألق فيه الديمقراطية إلا بغيابها” كما يقول جورج طرابيشي. إن التشنيع الفظيع الذي تعرضت له الديمقراطية على يد السلطات الاستبدادية وجماعاتها من المثقفين والمحازبين، يجد في حالة الفلتان الأمني والعنف والإرهاب في العراق بعد الاحتلال، ما يعيد الأوساط الشعبية والإعلامية، بل الثقافية والسياسية، إلى أحضان خيار المُستبد العادل أو الحكم الفردي التسلطي، كخيار وحيد ملائم لـ”طبيعة” شعوبنا وثقافتها. فما بالكُم بخيار التغيير الديمقراطي، إذاً؟
وإذا كان كل ما كُتب يستحق التحاور الهادئ، يبقى من الأهمية بمكان التوقف عند نزعة احتكار الوطنية والتكفير “الوطني” التي تجلّت بوضوح في الإشارة الصريحة إلى قطاعات من المجتمع السوري اكتشف البعض أنها كائنات غريبة تماماً وبالغة الخطورة على مستقبل سوريا “الوطنية الديمقراطية”. كائنات غزت المشهد السياسي المعارض واحتلت مكانة لا تليق بها.
وعناصر المؤامرة المفترضة، المفترضون، هم: الأكراد، وليبراليون معدودون، حسب جل الاتهامات، وبدرجة أقل، مثقفون وطنيون مستقلون عن الأطر القائمة، آخرون “غير مصنفين” بعد، وتيار إسلامي وطني معتدل قيد التبلور. هؤلاء التَحَفوا عباءة الوطنية دون إذن من أصحاب الاختصاص في إعطاء صكوك الوطنية الحقة.
ودون الدخول في حيثيات ومجريات مؤتمر المجلس الوطني للإعلان قبل عدة أسابيع نقول ان سجالاً مكبوتاً قد انفتح مرةً ثانية حول معنى الديمقراطية والوطنية. وقضى بأن يعود كثيرون إلى عدتهم الإيديولوجية المتقادمة وينضموا إلى حرس الدفاع الوطني الحريصين، وحدهم، على ماضي وحاضر ومستقبل سوريا وعروبتها ومقاومتها للمشروع الصهيوني والإمبريالي وهم (إلى جانب الجبهة الوطنية التقدمية “الحاكمة”) تيار قومي عروبي (ناصري المذهب)، جماعة المؤتمر القومي العربي من أميركا (لا غيرها!)، شيوعيون أصوليون، مثقفون يلوكون خطابا قومياً ـ ماركسياً ـ إسلاموياً، آخرون متخوفون من “البديل الأسوأ” ومتوجسون من جدوى التغيير، ومترددون بسب ذلك ولاعتبارات عديدة..
المواطنة المشروطة ـ إن صح التعبيرـ هي فحوى الخطابات الأصولية المُستنفرة والنزعة الحربية. ومغزى هذا الاختصار هو الصورة الثاوية في مخيلة هؤلاء عن “هوية” سورية ومواطنيها، ككائنات خلقها الله وأوكل إليهم مواجهة المشاريع الصهيونية وهزيمة الامبريالية في عقر دارها (أميركا!)، أو دارنا، وحسب. والمواطنة المشروطة هذه مسيسة، حربية، طوارئية و حصرية بامتياز، فضلاً عن كونها بائسة وكالحة ولن تفلح في إقامة مجتمعات معافاة وعلاقات اجتماعية سليمة بين أبناء البلد الواحد، ولا دول تحترم مواطنيها، بعد تدمير معنوياتهم على يد أعتى الأنظمة الاستبدادية وهزيمتهم الروحية نتيجة لذلك.
وإلى ذلك فهي لا تقوى على إخفاء نزعتها العنصرية، بحق قطاعات من مواطنيها السوريين، كما أسلفنا. يمكن أن تَقَع على شوفينية عرقية تتحدث كالتالي: “درج واقع حال المعارضة السورية، منذ “اعلان دمشق” 16 تشرين أول على استخدام مصطلح “القضية الكردية في سوريا”… و اعتبار الأكراد السوريين بوصفهم “قومية”، حيث نرى أنه لا يحوز هذه الصفة في سوريا سوى العرب..”هذا ما يكتبه، مثلاً، شيوعيون معارضون، بقيادة ماركسي عتيد، ما فتئ يهول من الخطر الكردي القادم. لا يجاريهم في ذلك سوى أرباب الشعائر القومية، من جماعة المؤتمر القومي أين من عنصريتهم رطانة حزب البعث!
وعلى هذا النحو، وأسوأ، يعبر هؤلاء عن تصوراتهم البائسة والمفوتة، صراحةً أومداورة، في تقوى المُقاومات، ما يشرع لهم أن يصطفوا “موضوعياً بجانب، أو وراء، أنظمة “الممانعة” وجماعات الإسلام الجهادي ( “المقاومة” في لبنان وفلسطين والعراق..) مراهنين عليهم وحسب كضمائر متصلّة وحيدة للأمة.
أو كمثل الذي يتحدث بلغة العنف الثوري الطبقوي حين يصور الليبراليين المفترضين، على هيئة أشباح شريرة خطرة على “الطبقات الثورية”. وكأن ليس من مهمةٍ عاجلة أمام المجتمع السوري سوى إقامة دكتاتورية البروليتاريا!
ويشير هؤلاء إلى خيوط علاقات خفية خطيرة اكتشفت مؤخراً بين “الإعلان الليبرالي” (حسب ناشط حقوقي سوري معروف، وزع بيان تجميده في الإعلان لوكالاتِ الأنباء(!) كمن يتبرأ من فعلة مهينة) وجورج بوش وديك تشيني، والمحكمة الدولية وجماعة 14 آذار وأبو مازن والملك عبدالله وجريدة المستقبل! (وكلهم سواء عند أصحاب الشعارات الصادحة؟).
يبقى من الضروري التذكير، أيضاً وأيضاً، أن الواقع ليس على صورة هذه الترسيمات السطحية والعجولة بين مواطنين شرفاء يناضلون ضد المشروع الصهيوني ـ الأميركي وآخرين خونة يتاجرون بالوطن في سبيل غاياتهم ومصالحهم الشخصيّة ومتخلفين عن المعركة القومية الكبرى ومتفرجين على الأبطال وهم يخوضون معمعانها نيابة عنا جميعاً. هذه ثنائية زائفة ومفتعلة. وليس لها من قرائن حقيقية في الواقع، ولا تخدم إلا السلطات الأبدية ودكتاتورية الشموليات العقائدية. ثم ما من داع لهذا الاستنفار الشعاراتي والشحن العاطفي من قبل النخب الثقافية والسياسية السورية، في تدليل الجماهير المناضلة على عدوها الأكبر (فقد أصبحت مثل المقولات المرمية على قارعة الطريق، حسب قول قديم للجاحظ). يكفي أن يقوم هؤلاء بـ”ترشيد” الكتل الجماهيرية الهائجة والمشوشة التي أعيتها الخطابات الحربية، ولا هي بحاجة لنقل هذا “الوعي” إليها أصلاً، لا سيما وأن مشاريع “المقاومة” ضد الأعداء وخلق “المُجتمع المقاوم”، أو “الجهاد في سبيل الله”، حسب البلاغات الإنشائية، تستحيل بسهولة بالغة ويسر شديد إلى حروب أهلية (كما استنتج حازم صاغية في دراسة له) أو انتحارٍ جماعي. ولا نرى، من جهتنا، وسيلة لتفادي هذا المصير الكارثي غير إعادة تأسيس الكيان الوطني السوري على قواعد مواطنية دستورية ـ عقلانية وبناء دولة لكل المواطنين تتكفل بشؤون حماية الشعب والمجتمع من الاعتداءات الخارجية وتحتكر، وحدها، إدارة التمايزات الاجتماعية والسياسية الداخلية بتأسيسٍ قانوني وأفق وطني وإنساني.
وبعد.. هلا ارتفعنا إلى سوية المسؤولية التاريخية في التفكير في مآلات مجتمعنا السوري وهو يتقاطع ويتعايش مع العراق ولبنان في الكثير الكثير؟
المستقبل
الاحد 27 كانون الثاني 2008