خيارات تضعها دمشق أمام الحريري مخرجاً لتأليف الحكومة
هل أعاد الحوار السعودي ـ السوري دمشق مجدّداً، من الباب العريض، الى لبنان؟ بل هل باتت دمشق ترى فرصتها الذهبية في هذه العودة في الرئيس المكلف سعد الحريري مذ رحبت بترؤسه الحكومة الجديدة، فاتحة ولوج مصالحة استثنائية بينها وبينه؟ بل يبدو السؤال الأكثر استفزازاً للجدل وردّ الفعل والخلاف والانقسام حتى داخل الفريق الواحد، بعد السنوات الاربع المنصرمة التي شهدت حقبة في علاقات البلدين الأسوأ التي خبِراها، مقدمة تجعل الاتهام السياسي لدمشق يتحوّل صفحاً سياسياً؟
نقولا ناصيف
ثلاث مهمات في أسبوع تولاها مستشار العاهل السعودي الملك عبد الله ابنه الأمير عبد العزيز في دمشق، رافقه فيها وزير الإعلام والثقافة عبد العزيز خوجة. الأولى في الأسبوع الأخير من حزيران، التقى فيها الرئيس بشار الأسد من دون إعلان، ووزير الخارجية وليد المعلم بإعلان. والثانية في 29 حزيران عندما استقبل الأسد علناً الأمير عبد العزيز. والثالثة بعد ثلاثة أيام عندما زار الأمير العاصمة السورية مجدّداً، بعدما كانت تخللتها زيارة خوجة لبيروت.
وبحسب مصادر دبلوماسية رفيعة المستوى اطّلعت عن قرب على نتائج المهمات الثلاث، نشط الحوار السعودي ـــــ السوري على خطين متوازيين: حرص الرياض على إنجاح ترؤس رئيس الغالبية النائب سعد الحريري الحكومة اللبنانية قبل تكليفه وبعده، وكان الجهد السعودي قد بدأ قبل التكليف في 27 حزيران الماضي، وحرص دمشق على إظهار عدم رغبتها التدخّل في الشؤون اللبنانية مع إبداء استعدادها لإحراز تطور على صعيد العلاقات اللبنانية ـــــ السورية في المرحلة المقبلة وتفهّم وجهة نظر المعارضة وهواجسها.
في الزيارة الأولى حمل الأمير عبد العزيز إلى الأسد لائحة من أربعة مطالب تبادل فيها المتحاوران السعودي والسوري الأجوبة التي تناولت إنهاء ظاهرة المعسكرات الفلسطينية خارج المخيمات، وترسيم الحدود في مزارع شبعا، والضغط على المعارضة للتخلّي عن المطالبة بالثلث الزائد واحداً في حكومة الوحدة الوطنية، وإلغاء المجلس الأعلى السوري ـــــ اللبناني (عرضت «الاخبار» وقائعها في عدد 29 حزيران).
في الزيارة الثانية الإثنين 29 حزيران، في اللقاء العلني بين الأسد والأمير عبدالعزيز، طُرِح على الطاولة اقتراح عقد لقاء في العاصمة السورية يجمع قادة الكتل النيابية الرئيسية، الموالية والمعارضة، برعاية الرياض ودمشق لتحقيق مصالحة لبنانية ـــــ لبنانية جديدة، يتبادل فيها الطرفان الهواجس وينطلقان إلى تأليف حكومة وحدة وطنية، أيّدها الموفد السعودي الخاص، وأخذ الوزير على عاتقه عرضها على الحريري في بيروت، أملاً في انتزاع موافقته عليها. بعد ساعات كان في بيروت يجتمع بالرئيس المكلف الذي رحّب بالاقتراح ما دام يحظى بموافقة الرياض، مفضّلاً استمزاج رأي حليفه، رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط. أرسل الأخير الوزير غازي العريضي لمقابلة الحريري وخوجة حاملاً موقف جنبلاط كالآتي: سعد الحريري يمثّلنا، وليذهب وحده إذا شاء، لكن لا داعي لذهاب الوفد الموسّع.
كانت تلك إشارة ضمنية إلى اعتقاد الزعيم الدرزي بأن أوان زيارته دمشق على رأس تكتّله النيابي لم يحن بعد. إلا أنه أيّد ذهاب الرئيس المكلف إلى هناك لفتح صفحة جديدة في علاقته بسوريا، ينادي بها جنبلاط منذ أسابيع في إطار دعمه بناء علاقات لبنانية ـــــ سورية جديدة متكافئة، في حرارة مثيرة للانتباه بتشديده على البعد العربي للبنان وعلاقات التاريخ والجغرافيا والجوار مع سوريا، ومسألتي العروبة والانعزالية الجديدة، إلى قضية فلسطين. أما الحلفاء المسيحيون للرئيس المكلف، كالرئيس أمين الجميل ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، فقد أوفد إليهما مدير مكتبه نادر الحريري الذي عاد برفض قاطع لزيارة دمشق.
أحدث هذا الموقف صدمة لدى الوزير السعودي الذي توقّع نجاح مهمته في بيروت، بعدما كان قد أعرب للقيادة السورية عن استعداده دعم اقتراح اجتماع الكتل النيابية الرئيسية.
تلاحقت هذه الوقائع وانتهت في الساعات التالية، مساء أول تموز، بسفر مفاجئ للرئيس المكلف إلى جدّة لمقابلة الملك. عاد خوجة إلى دمشق وأطلع المسؤولين السوريين على حصيلة محادثاته في بيروت.
في الزيارة الثالثة استعاد المتحاوران السعودي والسوري جولة جديدة من المناقشات دارت الخميس الماضي (2 تموز)، حملت الأسد على قطع إجازته الأسبوعية في اللاذقية للاجتماع بالأمير عبد العزيز، والبحث في حلول جديدة لملف تداخل فيه تأليف الحكومة اللبنانية برئاسة الحريري مع تصوّر المرحلة المقبلة من العلاقات اللبنانية ـــــ السورية في ظلّ الرئيس المكلف، والتعويل على اضطلاعه بدور أساسي فيه على صعيدين متلازمين: مصالحته مع دمشق وطيّ صفحة الأعوام الأربعة المنصرمة، ودفع علاقات البلدين في وجهة جديدة بالغة الأهمية انطلاقاً من مصالحة دمشق مع قوى 14 آذار، والمقصود بذلك الحريري وجنبلاط، ومباشرة حوار جدّي ينضم فيه الرئيس المكلف إلى رئيس الجمهورية ميشال سليمان في إعادة بناء العلاقات اللبنانية ـــــ السورية.
هكذا انتهى حوار الرياض ودمشق حتى الخميس الماضي بالنتائج التالية وفق ما تكشف عنها المصادر الدبلوماسية الرفيعة المستوى:
تقدّم الرئيس السوري من الأمير عبد العزيز بثلاثة خيارات وضعها في عهدته، لإبلاغها إلى الرئيس المكلف واتخاذ الأخير موقفاً واضحاً منها، يعتقد السوريون أن كلاً منها يفضي إلى تأليف حكومة لبنانية جديدة. إلا أن لكل من هذه الخيارات محاذيره، وليس للحريري إلا أن يقرّر أحدها والمضيّ فيه حتى النهاية لإنجاح مهمته:
أولها، مسارعته فوراً، إلى تأليف حكومة من الغالبية النيابية ما دام هو رئيس هذه الغالبية، فيختار وزراءها من صفوفها بإرادة كاملة بلا أي تأثير من أي جهة أتى، ويؤّمن لها الثقة القانونية المرجّحة في مجلس النواب من خلال حلفائه الذين يمسكون بالأكثرية البرلمانية. وعندئذ يحكم باسم هذه الأكثرية.
ثانيها، تأليف حكومة وحدة وطنية وفق ما طالب الرئيس المكلف. ويجلس حينذاك إلى طاولة التفاوض مع المعارضة التي تحدّد له ما تريده هي في هذه الحكومة إلى أن ينتهيا باتفاق تام، سواء بموافقته على إعطائها الثلث الزائد واحداً الذي تطالب به، أو بتخلّيها هي عن هذا المطلب لتسهيل تأليف الحكومة الجديدة. وشأن الخيار الأول، تجد سوريا نفسها في الخيار الثاني غير معنية به، لا من قريب ولا من بعيد، لأن تأليف الحكومة يكون، والحال هذه، شأناً صرفاً ـــــ لبنانياً لا علاقة لسوريا به.
ثالثها، إذا كان المطلوب من دمشق المساعدة في تسهيل تأليف الحكومة بين الرئيس المكلف والمعارضة، فليزُرها على الأقل كي تتعرّف إليه القيادة السورية وتصغي إلى ما يحمل، من أجل أن تنقل المطالب إلى حلفائها، وتدعوهم إلى التجاوب مع ما يمكن أن يقدمه الحريري، إذ يعبّر عن نيّة صادقة في التعاون والتفاهم.
وربط المحاور السوري الخيار الثالث بسلسلة مبرّرات، منها:
ـــــ ان الحريري زار كل الدول المعنية بالوضع اللبناني، عربية وغربية، ما خلا سوريا، وهي بدورها معنية بلبنان كدولة مجاورة ومهتمة بالاستقرار فيه. تالياً، فإن زيارته لها تمسي مكمّلة لجولاته تلك التي تساعده في تكوين رؤية أوسع لطريقة مقاربة علاقات لبنان بالخارج القريب منه والبعيد.
ـــــ لا علاقة تجمع الحريري بدمشق التي لا معطيات واضحة لديها عن الأفكار التي يحملها في رأسه، وهو على رأس الحكومة اللبنانية. وعندما يطلب تسهيل مهمته مع حلفائها، فحريّ أن يتعرّف إلى المسؤولين السوريين ويحمل إليهم تطمينات ـــــ وتصرّ دمشق على أن لا تقول ضمانات ـــــ تنقلها إلى المعارضة. تدعوها إليها وتناقشها في هواجسها في الحكومة الجديدة.
ـــــ لا تصرّ القيادة السورية على زيارة الرئيس المكلف لها، إلا إذا قرّر الخيار الثالث الذي لا يعني ـــــ وإن ضمناً ـــــ إلا مطالبة دمشق بالاضطلاع بدور إيجابي في لبنان لإنجاح مهمته، سواء وُصِف الأمر بطلب تدخّلها المباشر أو لا. عندئذ لا مناص من حوار بينهما للعمل على تأليف الحكومة الجديدة إذا كان ثمّة اعتقاد لدى قوى الموالاة أن الرئيس السوري، فضلاً عن سائر المسؤولين السوريين، يؤثرون على حلفائهم اللبنانيين في المعارضة.
ـــــ في الخيارين الأول والثاني، لن تمدّ سوريا من تلقائها اليد إلى الأزمة الحكومية العالقة على الشروط المتبادلة والمتناقضة بين الموالاة والمعارضة. وقد أبلغت إلى محدثيها السعوديين، ثم الفرنسيين، أنها ليست في وارد التدخّل في الشؤون اللبنانية وليست في وارد إهدار الرصيد الذي كانت قد اكتسبته خلال الأشهر المنصرمة في علاقة الانفتاح الواسعة بينها وبين المجتمع الدولي، عندما أكدت إصرارها على عدم التدخّل في الشؤون اللبنانية، وفي الانتخابات النيابية الأخيرة خصوصاً. وقد جاءت هذه دليلاً ساطعاً على هذا التصرّف توقفت عنده معظم الدول التي أشادت بالانتخابات النيابية اللبنانية، وصرّحت بأن هذه لم تشهد تدخلاً أجنبياً فيها وتحديداً سورياً.
في حصيلة هذه الوقائع، لم تتوقف الجهود السعودية ـ السورية التي تنتظر جولة اخرى، ولم تذهب حتماً الى ضمور ما دام البلدان قرّرا المضي في الحوار، في انتظار تحديد الرئيس المكلف احد الخيارات الثلاثة هذه او رفضها كلها، للمضي ـ اذ ذاك ـ في خيار لبناني لتأليف حكومته لن يكون متاحاً وسهلاً بالطريقة التي يتصوّر ربما.
الاخبار