كيــف يتكلــم الشــعراء عــن تجاربهــم؟الفـــن الشـــعري
اسكندر حبش
منذ أرسطو، ربما، تعودنا على أن ثمة نصا نقديا، يصاحب الشعر. اصطلح على تسمية ذلك بالفن الشعري. «فن» يتلخص في تقديم بعض الأفكار حول عملية الكتابة نفسها. قد نستطيع أن نسمي ذلك أيضا بملاحظات حول الشعر. فأن تكتب الشعر، ليس معناه فقط أن تقرأ الشعر، بل أن تقرأ ما كتب عن الشعر، لعل في ذلك نافذة أخرى تستطيع أن تطل منها على القصيدة.
هي إذاً نوافذ أخرى أقترحها في هذه المختارات الصغيرة التي أترجمها هنا: إطلالة على الفن الشعري عبر هذه النصوص التي كتبها الشعراء أنفسهم. وفي القراءة نكتشف كم أن الشعر لا يحدد، أي لا يمكن حصره في فكرة ما، ولا في إطار معين. فمن هذا الاتساع يولد هذا العالم الذي ندعي أننا نعرفه واننا فكرنا فيه، لنكتشف في النهاية أن ثمة رحلات أخرى تأخذنا إلى مسافات واسعة وآفاق جديدة. لذلك لا تدعي هذه النصوص الأولى، أنها تقدم أجوبة، بل هي مشروع لفتح أسئلة جديدة. فما الكتابة كلها إلا هذا السؤال الذي لا يمكن معرفة كنهه.
وليام كارلوس ويليامز
الأشـياء المهمـشة
(…) لا تنهض القصيدة بفضل خاصيّة تستعيرها من تتابع الأحداث المنطقي ولا أيضا من واقع الأحداث نفسها وإنما فقط من هذه القدرة المخففة التي قد تقع ـ ربما ـ في عدد كبير من الأشياء المهشمة التي تعطيها بذلك كثافة وجود ما.
شاعر أميركي، (من كتاب «كوري في الجحيم»)
أوكتافيو باث
طــرد المعــنى
(…) الكتابة بحث عن المعنى الذي ترفضه هي بنفسها. وفي نهاية هذا البحث يتبدد المعنى ويُظهر واقعا أخرق كليا. حركة الكتابة المزدوجة: سير نحو المعنى والسهو عنه. مجاز الفناء: هذه الجُمل التي أكتبها، هذا الدرب الذي أبدعه هنا… يمّحيان، ينهاران على الرغم من أني أكتبهما. لم ولن أصل أبدا إلى النهاية، إذ لم يكن كلّ شيء سوى بداية دائمة. ما أقوله، يعني أن أقول باستمرار ما أرغب في قوله وأن لا أنتهي من القول أبدا: دائما أقول شيئا آخر. وما أن يُلفظ القول حتى يتبخر. فعندما أكتب، أسير نحو المعنى، وحين أقرأ ما كتبت، أمحوه، أطمس الطريق. كلّ محاولة تقودنا إلى النتيجة عينها: ذوبان النص في القراءة، طرد المعنى عبر الكتابة. يصل البحث عن المعنى إلى أوجّه في ظهور واقع في ما وراء المعنى ليفككه ويقصيه. ننطلق من البحث عن معنى لنصل إلى إلغائه حتى ينبثق من ذلك واقع يتحلل بدوره. الواقع وبهاؤه، الواقع وكثافته: الرؤيا التي تقترحها علينا الكتابة الشعرية هي ذوبانها. الشعر فارغ تماما مثل الفُرجة المضاءة على لوحة «داد» (Dadd)، إنها ليست سوى مكان الظهور الذي هو، وفي الوقت عينه مكان الاختفاء. لا شيء سيحدث إلا المكان نفسه.
شاعر اسباني، (من كتاب «دروب الإبداع»)
فارلام شالاموف
قـــدر
النثر إرجاع آني، جواب آني عن أحداث خارجية، إدغام ومعالجة آنية لما رأيناه، صياغة، حاجة يومية لصوغ شيء بطريقة جديدة، لا يعرفها أحد بعد. النثر، صيغة للجسد وفي الوقت عينه صيغة للروح.
الشعر هو قدر وقبل أي شيء آخر، نتيجة لمقاومة روحية طويلة الأمد كما أنه طريقة للمقاومة في الوقت عينه، هو النار التي تنبجس بعيدا عن الصدمة مع الطبقات الأكثر صلابة، الطبقات الأعمق. الشعر، وفي الوقت عينه، تجربة، تجربة شخصية، أكثر التجارب الشخصية الممكنة الحدوث كما أنه الطريقة التي وجدناها لنمتن هذه التجربة، هو حاجة، من المتعذر كبحها، للتعبير ولتحديد شيء مهم قد لا يكون مهماً إلا لنفسه.
الحدود بين الشعر والنثر، وبخاصة داخل النفس، حدود متقاربة جدا. فمن الطبيعي إذاً أن يتحول النثر إلى شعر، والعكس صحيح أيضا.
كاتب روسي، (من كتاب «الفولغودا الرابعة، ذكريات»)
بـول دو رو
الشاعر غير موجود
هو الشعر الذي يمسك بيدكم زمن قراءة القصيدة. الشاعر غير موجود، لأن ليس لديه أدنى سلطة على الشعر. (يستحق صانع الأحذية أن يقال عنه صانع أحذية لما يملك من سلطة في صنع الأحذية حين يقرر الجلوس خلف طاولة عمله)…
شاعر فرنسي، (من كتاب «يوما بعد يوم»، الجزء الثالث، دفاتر 1985 ـ 1989)
أنطوان إيماز
سمعت القصيدة
لا أعرف من أين يأتي صوتي: إنه يلتصق بالكلمات كيفما استطاع. ومع ذلك، سمعت القصيدة وأنا أكتبها. لم تكن مرئية بل كانت تطن في البداية. يمكن نظرتي أن تثبت أو تتحرك على ركن الطاولة أو فوق النافذة؛ وفجأة تُوقف الكلمات ذلك كله لتحتل الفضاء الذهني. من أين تأتي؟ لا أعرف شيئا. وفي كل مرة لا أعرف شيئا.
شاعر فرنسي، (من كتاب «نبات، أيضا»)
كلير مالرو
الكلمة جماعية
من المواجهة بين اللغات تعلمت هذا: الكلمة ليست فريدة وغير متواطئة، الكلمة ليست مستوحدة، الكلمة ليست فردانية. إنها جماعية. إلى حدّ ما، أو بشكل مثالي، نجدها تجمع في طياتها كلّ الكلمات الأخرى. لنحاول أن نحفر في واحدة منها لنتيقن أن لديها شيئا مشتركا مع كلمة أخرى، وهذه الأخرى مع واحدة ثالثة، تماما مثلما نجد شخصا عند جاره وهذا الجار عند آخر. تتوزع ذبذبة التقاسم عبر قاموس الكلمات كله، تشتعل الكلمات باحتكاك الواحدة بالأخرى، كل نص هو سحابة غبار.
لا تأخذ الكلمة معناها إلا في علاقتها أو في تعارضها مع ما يجانسها. يتمثل عمل الكاتب في إدخالها ضمن مجموعة بطريقة تجعلها تعترف بكل كمال المدلولات المجتمعة، أو على العكس من ذلك، في عزل التباينات الأدق، أو أن يظهر من خلالها التباين غير المعروف بعد.
الشعر هو النوع الذي يدفع هذه المحاولة المزدوجة إلى مكان أبعد. الترجمة أيضا هي كذلك بطريقة أقل.
شاعرة ومترجمة فرنسية، من كتاب «آثار، أثلام»
بيير أوستر سوسوييف
لحظة التحليل ولحظة الاعتراف
أراهن على العقلانية المؤسسة للفعل الشعري. يأمر الانتباه ـ أو الحب ـ في الواقع لحظة التحليل كما لحظة الاعتراف. وبما أننا أكثر من منتبهين فإننا لا نفصلهما أبدا.
[
ثمة قطيعة نهائية تهدد القصيدة. وبالتأكيد، ما من فعل أدبي ينجح في الوصول إلى ذلك. فما ان يطرح هذا الموضوع، حتى نجد الرفض بالذهاب لغاية منبع الجملة… وملاحقة طريقها، في أن نتحرك في فضائها…
[
شعر بمثابة إضمار لعلم النحو، للتتابعات العلامية التي تتناسل من الهرمونيا السفلية، شعر متأمل يُخرج ويعظم البنى المحررة.
[
بحث عن بساطة من المتعذر الوصول إليها أو عن تعقيدات لا تبين.
[
لتلعب بصُدف الأبيات الشعرية واحدة وراء أخرى؛ لتترجم دمار اللغة.
شاعر فرنسي، من كتاب «التماسات» فصل «من أجل فن شعري»
فرانك فوناي
تنفــس
تحيلني الكتابة مريضا. تتوزع أيام عملي كلها بين طاولة العمل والسرير الذي أتمدد عليه، بينما أضع يدي على جانبي الأيمن، كي أهدئ من روعي. هذا الذهاب والإياب بين المكانين، هو أساس كتبي جميعها. فأن أتكلم عن الكتابة من دون أن أنتبه إلى ذلك كله سيكون مستحيلا أو كذبا. يمر كل شيء عبر الألم الجسدي، ومع ذلك، أستمر في الكتابة. لا أجيد شيئا آخر. حتى أنني أخشى أنه لم يبق لي أي نوع من سباق مع الكتابة التي أصبحت حاجة، تطلبا، تماما كأنها عملية تنفس. وإذا ما استعملت هنا، فجأة، كلمة تنفس، لأن الأمر ليس صدفة البتة. أناضل بعناد تقريبا كي أتنفس جيدا. مع العلم أني مقتنع بأن لذلك علاقة مباشرة مع ما أكتــبه. في الواقع، أشعر بأني أكتب بثبات، بأنني أتخــيل، بدون توقف، حكايات محتملة وبهذا الشــكل أجد أنها وسيلة واعية جدا لأستوعب الصدمات. أنا على يقين تقريبا بأن الكــتابة مرتبــطة عضويا بحياتي. حياة تافهة مســاوية للمرور إلى الفراغ والصمت. أعتقد أن الكتابة أصبحت حياة، والحياة كتابة.
شاعر فرنسي، من «الكتابة»، حوار مع دومينيك لاباريير نشر في كتاب «رجل في الحرب»
يان واغنر
تولــد القصيـدة
تولد القصيدة من كلمة، من صوت، من جملة تلتقطها وهي طائــرة، من استــعارة معزولة أو من مشهد ـ غالبا من دون أن يكــون باستــطاعتنا أن نتوقع يوماً أن تولد القصيدة منها…
تولد القصيدة بالطريقة التي نضيف فيها إلى هذا النبع كلمات، أصواتا وصورا التي، وخلال سيرورة الكتابة، لا تتوقف عن وزنها وعن إنكارها حين تواجهها.
تولد القصيدة ببطء، مع الزمن والصبر. إن مسحة العبقرية هبة ـ وخلافاً للهدايا المعتادة ـ نتفحصها بدقة وبطــريقة نقدية قبل أن نقبل بها.
تولد القصــيدة بطريقــة لا نســر منها سريعاً.
لا تولد القصيدة فقط من جمع الكلمات ببعضها البعض، بل أيضا من الانتقاص الجذري، (الأليم أحياناً)، للمادة والتخلي عنها.
تولد القصيدة من الميراث ـ ولن تصبح ما هي عليه إلا عبر تجــنب التعاقدات الشعرية والكليشـيهات، أو مــن خــلال النجــاح باللــعب بذلك كله.
تولد القصيدة في كيفية استدارتنا نحو المجرد وفي كيفية خشية الكلمات الكبيرة. فالقفاز الضائع أهم من مفهوم «الحرية». أو لنقل ذلك بطريقة أخرى: إن قصيدة ذات موضوع عن قفاز مفقود يمكن لها أن تصبح قصيدة عن الحرية، ولكن ذلك الذي يقترح أن يكتب قصيدة عن الحرية قد يقع في خــطر أن لا يرى القفاز المفقود وبالتالي لن يرى هذا الــشيء ذا القيمة الكبيرة…
شاعر ألماني، من كتاب «أرشيف مترحل»
ريمون فيدرمان
الصوت الذي يقاوم
ما نسمعه داخل العمل الفني (أكان أدباً أم موسيقى أم تشكيلاً، لأن الموسيقى والفن التشكيلي يتحدثان إلينا مثل الأدب) هو الصوت ـ صوت دائم، وهذا الصوت الذي يتكلم عن أصلنا (العدم حيث كنّا قبل أن نتفوه بكلمتنا الأولى) يتحدث أيضا عن نهايتــنا (العدم الذي نتوجه إليه). بهذا المعــنى يكـون الصــوت، في الوقت عينه، ولادة (أو انبعــاثاً) وموتاً (أو تبدى للشكل). الصوت هو من يقــاوم اللاشيء الذي يسبقنا واللاشيء الذي يواجــهنا ـ ولنقل ذلك بطريقة أخرى: إن النـفس حين يدجن في حنجرة الحيوان البشري يثير الصــوت، ولما ينطلق، يمسك بالبهيمة الأسطورية، الواعية أو الأخلاقية (أو غير الأخلاقية) التي نحن عليها، ليروي المغامرة الإنسانية بأسرها.
شاعر فرنسي، من كتاب «جسدي في تسعة أجزاء
السفير