صفحات ثقافية

الشعر والصمت

null
فؤاد أفراس
السؤال عن ماهية الشعر يغلفه الصمت، وحتى السؤال في حد ذاته ـ بمعزل عن موضوعه ـ هو عبارة عن جواب غائب وصامت، جواب لم يمنح نفسه للسائل لحظة بزوغ السؤال، وإلا لما كان هناك من ضرورة للسؤال أصلا .. فما هو الشعر ؟، جواب هذا السؤال هو في طي الصمت والمجهول، لأنه يشير إلى ماهية ناقصة، مثل الموجة التي ما تفتأ تتهدم كلما لامس المد اكتمالها، الشعر هو …، أمام (هو) يبرز صمت كثيف ومساحة من الفراغ مسترسلة في بياضها، حتى لو ملأناها بالكلام، فسيبقى كلاما يتلوه كلام دون الوصول إلى نقطة النهاية ، كأننا أمام عطش متصل، أو أمام خلاء لا يحده أفق، فالسؤال عن ماهية الشعر، هو سؤال غريب ومدوخ، لأننا نألف أنفسنا أمام صمتين: صمت السؤال عن الجواب، وصمت الشعر عن الحد والانحصار، وبالتالي فإننا هنا نزاوج بين صمتين، لكن صمت الشعر هو أكثر هيمنة وتسلطا من صمت السؤال، لأن هذا الأخير على الأقل يضمر الجواب ويستدعيه بشكل ضمني ومبطن، لذلك أمام هذه الهيمنة يصبح السؤال حجرة صغيرة في صرح الشعر، أي يصبح السؤال من ممكنات الشعر العديدة وغير المتناهية، يصبح صمتا صغيرا متضمنا في صمت شاسع وهائل، لذلك بدل السؤال عن ماهية الشعر، بدل إقامة سؤال يبرز وينتصب مثل خارج ومثل انفصال، بدل ذلك، علينا أن ندمج السؤال في الشعر ليصبح جزءا من ماهيته وليس منفصلا عنها، لنعيش السؤال داخل الشعر لا أن نقيمه خارج الشعر وحوله في محاولة للإحاطة بماهيته، لأن الشعر على هذا القبل هو أكبر وأشسع من السؤال، وكل هذا بسبب الماهية الناقصة للشعر ، هذه الماهية المنخورة بالبياض والصمت، فالمساحة التي يحتلها الصمت في الشعر هي أكبر من مساحة الكلام، رغم أننا تعودنا على وصف الشعر بأنه فن لغوي، أي يجد تشكله وتحققه في الكلمات، فالشعر مثل الوجود كتلة حية ومتوهجة وسديمية، فما ندركه من الوجود هو تلك الحدود التي رسمها العقل طلبا للانسجام والتكيف والتطابق، وأعلى صور تلك الحدود تظهر في المنجزات التقنية والعلمية، لكن يبقى هامش هائل من الوجود لم يدركه العقل بعد أو يؤطره بحدوده، وفي ذلك الهامش الصامت والغائب يشتغل الشعر، لذلك يفر الشعر عن أي تحديد أو حصر، فهو دائما يرفد من شساعة الوجود إمكاناته غير المتناهية من التشكل والتكون والتخلق، أساسه في ذلك اللغة، على اعتبار أن وجود الإنسان متضمن في اللغة حسب (هايدجر)، لما للغة من قدرة على استحضار الأشياء وامتلاكها، لكن اللغة تتضاءل وتفقر أمام شساعة الوجود ولا محدوديته، فيحتل اللغة الكثير من الصمت، أي صمتها عن ما يحبل به الوجود من تنوع وشساعة، وهنا يبرز دور الشعر، من خلال مد اللغة باحتمالات الوجود وممكناته الأخرى التي لا تبرز في اللغة المتداولة والمستعملة، فيوسع من حدود اللغة ويغني فقرها وينطق صمتها عندما يلقحها بالمختلف والغريب والمدهش، فالشعر يستحضر الهامش والمقصي والمتناقض والعابر أي كل ما يصمت عنه العقل التقني ويقصيه طلبا للانسجام ، أي أن الشعر يستحضر الصمت ويمتلكه ويطوقه بالكلام، لكي يمنحه سلطة الحضور، فيصبح ذلك الصمت حقيقة جمالية ممتلكة لسلطة البوح والانكشاف، عندما يظهر مثل اختلاف لما هو سائد ومألوف، وهنا نستحضر حكاية أبي نواس عندما طلب منه أحد النقاد أن يحفظ مائة ألف بيت من الشعر ثم ينساها، والنسيان هو صمت الذاكرة عن موضوع معين، فنسيانه أو الصمت عنه لا يعني انمحاءه وانعدامه، بل يعني اضماره ومن ثم تجليه في صور تختلف عن الموضوع الأصل، كما هو الحال مع التناص حيث النص الظاهر هو إضمار وإدماج لمجموعة من النصوص وتجليها بصور مغايرة ومختلفة، فأبو نواس مدعو لنسيان تلك الأبيات، ليس بإدخالها في حكم الإلغاء والعدم، وإلا لما استوجب منه حفظها أصلا، بل مدعو إلى التخفيض من صوتها وضجيجها، ليخط على صمتها صوته، ويكتب على بياضها حبره الخاص، أو لنقل إنه يرمم صمت تلك الأبيات بصوته الذي سيستحيل بدوره إلى صمت من نوع آخر يحتاج إلى من يرممه ويملأه وهكذا في لعبة تواترات حيوية بين صمت يستدعي النطق وصوت يستدعي الخرس، وهذه هي لعبة الشعر، فهو عندما يصمت عن شكل مألوف وضاج من الوجود، فهو يفعل ذلك لكي يستنطق أشكالا أخرى بعيدة في صمتها وتواريها وانحجابها، فالشعر على هذا القبل يوقظ ويستنطق ويجلي ويكشف، ولا يثبت ما هو مثبت أصلا، ولا يرسخ ما هو كائن ومكتمل، بل يلغيه ويتجاوزه عندما يصمت عنه، لذلك فالشاعر غير معني بالجمهور، لأن الشاعر لم يعد مرتبطا بالذات الجمعية من قبيلة وحزب وعقيدة، الشاعر لم يعد يمثل أفق انتظار الجماعة، فقد أصبح لسانها الصامت عن ما يشكل لها موضوع اجماع واتفاق، فالشاعر في نظر الجماعة كائن صامت، لأنه لا يتحدث لغتها، ولا يصرخ بشعاراتها، ولا يردد عقائدها، فالشاعر على هذا القبل ينتمي إلى خارج اللغة التي تتكلمها الجماعة، أقصد بلغة الجماعة أي في وظيفتها المتداولة والمستعملة والمتفق عليها، مادام يجترح لنفسه لغة أخرى مغايرة في شكلها ووظيفتها، لذلك عندما تتلقى الجماعة لغة الشاعر فهي تتلقاها باعتبارها إشارات صامتة، لأنها لا تعثر للغة الشاعر على أثر أو مرجع في ذاكرتها الجمعية والتقليدية والمتوارثة، وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بانقطاع التواصل، وهذا الأخير هو شكل من أشكال الصمت، والذي نجد تجسيده في قضية الغموض، وهي القضية التي مازالت مثار نقاش وانشغال منذ فترة طويلة، فالذين استنكروا على أبي تمام غموضه قائلين (لم لا تقول ما نفهم؟)، كانوا يرومون بهذا السؤال الاستنكاري جر الشاعر إلى قول ما يشكل أفق انتظارهم، إلى قول لغة مكتملة ومتشكلة في أذهانهم، أي قول لغة ضاجة بالنطق، لكنه أجابهم: (ولم لا تفهمون ما أقول؟)، محاولا بدوره جرهم إلى قول صمته، أي إلى اعتماد آلية التفسير والتأويل، لكن دون الاتكاء على ذاكرتهم الجمعية التي يسكنها الضجيج، بل الاتكاء على ما في الشاعر من فرادة واختلاف وانقطاع وقفز خارج السياق .. فالشعر يوسع من دلالة الدال، فلا يعد الدال مقترنا كما هو حال اللغة العادية بمدلول واحد ووحيد، ولا يعد مرتبطا به ارتباطا معجميا ضيقا، فالدال في اللغة العادية غيره في الشعر، لأنه في الأولى دال ناطق بمدلول وحيد ومرتبط به ومتعالق معه، بينما في الثانية فهو دال صامت عن مدلوله الأول الذي وضع له في الأصل ومنفتح على مدلولات متعددة ومتنوعة، وفي هذا الصدد يقول (عبد القاهر الجرجاني) في كتابه (دلائل الإعجار): (إن المعنى هو المفهوم من ظاهر اللفظ. أما معنى المعنى فهو أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر) ، فالمعنى الأول (أي المفهوم من ظاهر اللفظ) هو معنى صائت، بينما (معنى المعنى) فهو معنى صامت، ويحتاج إلى قوة التأويل الاستنطاقية، فالمجاز انتقال من دلالة ظاهرة ومتكلمة، إلى دلالة مغيبة وصامتة، المجاز هو إثبات للصمت واحتفاء به، وهذا ينطبق على سائر الوجوه البلاغية الأخرى بدرجة أو بأخرى، والصمت هو في حد ذاته دال غادر حسيته وماديته، فالصمت هو ظل الدال أو أثره الممحو، أو لنقل هو دال باطني وروحي يشير ويومض وينبض بأكثر من دلالة وبأكثر من معنى منسجما مع حركية الشعر وفعاليته الباطنية وانفلاته من كل تحديد أو حصر، وهذا ما يعطي للصمت في الشعر زخما دلاليا يفوق ما يعطيه الكلام، وهو ما عبر عنه (عبد القاهر الجرجاني) بالقول :
)إن ترك الذكر قد يكون أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد من الإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن)، فالصمت هو لغة الذوق والحدس والخاطر، فالمتصوفة مثلا كانوا يصمتون في لغتهم، بما يضمنون تلك اللغة من رموز وإشارات، وهذا الصمت كان بدافعين، واحد داخلي والثاني خارجي، فالداخلي يتمثل في ضيق اللغة ومحدوديتها في نقل مواجدهم ورؤاهم الشاسعتين، لذلك كانوا يستعينون بالهامش غير الظاهر من اللغة وهو هامش الصمت بما يحتويه هذا الهامش من شطح وتغريب وانزياح، أما الخارجي فيتمثل في خوفهم من سلطة الرقيب التي كان يمثلها فقهاء الظاهر والمجتمع التقليدي المدجن والخاضع لحقيقة واحدة ومتعالية، لذلك يحجبون رؤاهم ومواجدهم واستبطاناتهم بتلك اللغة الخاصة التي تصمت أكثر مما تقول فتحميهم وتفلتهم بالتالي من سلطة الرقيب بما تتضمنه تلك السلطة من محاكمة وعقاب قد يصل حد القتل، فالمتصوفة بما أنهم أهل ذوق تتخذ اللغة على أيديهم صورة صمت يشير ويرمز ويلغز أكثر من صورة الكلام الذي يفضي ويعبر ويصف .. كما يحضر الصمت في التوزيع البصري للقصيدة تغاضيا عن شكلها الفني، ففي القصيدة العمودية حيث ذلك البياض الفاصل بين الصدر والعجز، بياض يفصل بصريا لكنه يصل إيقاعيا أو في التدوير حيث تتوزع الكلمة الواحدة بين نهاية الصدر وبداية العجز أو بين نهاية سطر وبداية السطر الموالي كما في قصيدة التفعيلة، أو نجد الكلمة تتشظى إلى حروف يتوزعها البياض كما في قصيدة النثر، إنه شكل من أشكال الإيقاع البصري الذي يتآلف مع الإيقاع الصوتي، والإيقاع الصوتي هو في حد ذاته انتقال بين الحركات والسواكن بين الصوائت والصوامت .. وكأن فائض الصمت الذي يسكن القصيدة دلاليا وإيقاعيا، تقوم هذه القصيدة بتصريفه بصريا، أو كأن القصيدة في كثافتها المادية ـ بالإضافة إلى كثافتها المعنوية ـ تخاطب الحواس ولو عن طريق تغييب موضوع تلك الحواس: العين في مواجهة البياض والأذن في مواجهة الصمت، كما لا ننسى حضور الصمت من خلال خاصية التكثيف، والتكثيف هو تصعيد للصمت، وإعلاء من سطوته، بتغييب ومحو ما أمكن من الدوال والصوائت، التكثيف هو تخليص اللغة من حالة الترهل بممارسة التشذيب والمحو والشطب والإلغاء، فتصبح اللغة الشعرية قرينة للروح في خفتها وتساميها .. فالشعر على هذا القبل يحقق ثراءه الدلالي والوجودي والوظيفي في كل ما يشكل صمتا وتقشفا وعزلة وهامشا.
‘ فؤاد أفراس / شاعر مغربي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى