هالة العبدالله واستعادة أحلام الموتى والمنفيين
علي جازو
تأخرت المخرجة السينمائية السورية هالة العبدالله، ( مواليد حماه 1956)، سنوات عديدة إلى أن غامرت أخيراً ـ منذ حوالي ثلاث سنوات ـ بكتابة وانتاج وإخراج أول فيلم سينمائي لها، بالاشتراك مع المخرج والمصور عمار البيك. “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها”. هذا هو فيلمها الأول بالأبيض والأسود بروحه الشعرية الخالصة، وامتزاج أساليبه التصويرية الموزعة بين الرواية والطابع التسجيلي والنكهة التوثيقية المبتكرة، اعتمد على المغزى الجمالي والنفسي القاسي لقصيدة ومصير الشاعرة السورية الراحلة دعد حداد: “أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها، أبكي من شدة الشعر”. جاء صوت الراوي والمعلق من هالة نفسها، حيث تلقي في نهاية الفيلم المقطع الشعري الذي منه استقت عنوان فيلمها. حاز الفيلم على تقدير خاص وعلى غير جائزة من مهرجان ودولة، منها ذهبية مهرجان روتردام للأفلام الوثائقية، وجائزة اتحاد الوثائقيين الإيطاليين من مهرجان فينيسيا، وبرونزية مهرجان دبي، وذهبية مهرجان تطوان، (لم نسمع بعرض الفيلم في سورية بلد المخرجة والمخرج والشاعرة!!). هذا الفيلم ذكرها بنفسها ومشاريعها عبر تذكر صديقات لها عانين النفي والغربة والنبذ.
تناول الفيلم الطويل نسبياً حياة ثلاث نساء سوريات حولهن التقدم في العمر إلى مرايا متحسرة تستعيد ما جعل الأيام الماضية مخيبة، سوداء وباردة كتذكر الكوابيس . سؤال فردي ـ يخص في العمق كل فرد ـ عن السبب الذي يمنع الإنسان في بلادنا من تحقيق أحلامه في حياة عادلة وحرة ومجتمع منفتح ومتآخ وآمن، لا تتحول فيه السلطة إلى بشاعة ولا طلب الحرية إلى نفي واعتقال وتعذيب وفوضى تعبث بكل شيء. كان لقاؤها مع السينمائي الشاب عمار البيك حاسماً في تحويل عملها المتشعب والمبعثر والمؤجل إلى عمل مكتمل. كانت الشاعرة دعد حداد امرأة حرة وبسيطة، ولكن مرفوضة بالخصوص من قبل عائلتها، ناهيك عن مجتمعها ذي الأفق الضيق، شاعرة مغمورة لكن بسذاجة هي الاسم المختفي من الذكاء، وبراءة تظل تضغط على المشاعر حتى تحولها إلى قصائد تتغنى بحياة جميلة ضئيلة وتتحسر من أوجاع آمال مغتالة.
رحلت دعد في ظروف غامضة عام 1991. يبدو أن العيش بحرية وبساطة أشبه بمعجزة في دول لم تذق مواطنيها سوى القمع والأسى، عبر سلاسل جهنمية تقيد المجتمع لأجيال كادت تفقد قدرتها على النظر ببراءة بعد أن تشوهت عقولها في مدارس حولت أجيالاً كاملة إلى ببغاوات، وآلات كره أعمى، وموظفين بلا كفاءة ـ يبحثون أثناء العمل عن عمل آخر ـ وجامعيين عاطلين عن العمل وشعراء منبوذين، ومفكرين بلا قراء، ولصوص هم قادة وأمناء أحزاب ومناضلون ثوريون، وريفيين أنهكوا المدن وأرصفتها بعد أن أنهكهم زعماء المدن وحولوا قراهم إلى خرائب فقر وعوز!!
إنها قيود لا مرئية، خوف احتكر حتى الهواء، لا سيما بالنسبة لنفوس حساسة وبريئة وصادقة. نفوس تسعى بجهد استثنائي لجعل حياتها ذات معنى وحضور وألق، نفوس لم تفقد حراة إيمانها بأفكارها، ولا إحساسها بواجب أخلاقي وإنساني تجاه مجتمعها المفكك والمسحوق، ولا رضخت لبشاعة واقع بائس أضحى الحديث فيه عن الشأن العام وأفق المستقبل أشبه بنكتة مضجرة.
صرح الشاعر محمود درويش يوماً بيأس مرير أن الطموح في حياة عادية غدا أمراً مستحيلاً. هالة العبدالله هي كذلك، واحدة من النساء القليلات اللاتي بدأن حياتهن الاجتماعية بالتزام سياسي مبكر، كالكثير من أبناء الجيل اليساري السوري الذي تحمل وقاسى مرارات منهكة ومصائر مفزعة. إنها تنتمي إلى جيل حالم ورومانسي كانت نتيجة مطالبه العادلة ردَّ فعل قاسياً من قبل السلطة الحاكمة بوسائل القمع والاعتقال والإكراه. تعتبر هالة نفسها منسحبة إلى الداخل، متقشفة بالنسبة لطموحاتها الذاتية، زاهدة في العمل حين يتعلق العمل بشخصيتها هي كمخرجة عكفت على مد الجسور والتعاون، لكن متحمسة وذات إراة لا تلين حينما تشترك أو تتعاون في إنجاح مشروع يحقق طموح الآخرين. في الوقت الذي ساهمت فيه مع مخرجين لبنانيين وسوريين وبالتعاون مع شركات ومؤسسات إنتاج عديدة في تمويل وإنتاج ومشاركة في إخراج الكثير من الأفلام خلال مدة تزيد عن عشرين سنة، كانت، في الوقت نفسه، تسود الكثير من المشاريع والأفكار في خيالها، كانت قادرة على النظر بأكثر من عين والعمل بأكثر من يد، لأنها تملك أكثر من قلب . ما يشدنا إلى تجربة هالة العبدالله اعتمادها الكلي عل نفسها، شغفها الساحر والمسحور بالعمل ودأبها الحثيث وهدؤوها الرقيق، إضافة لثقتها الفعالة المتنامية وحيويتها المعدية بقدرة الروح الجمالية داخل الإنسان، حتى إذا كان وحيداً على تجاوز الآلام، إضافة إلى حساسيتها الشعرية العالية. لقد انتظرت طويلاً وصبرت وكافحت وعانت وهامت وقرأت وتعلمت، مختبرة أكثر من بلد وأكثر من ثقافة ومصغية إلى أنين شعبها ومتأملة انكسارات أصدقائها، وأحوال بلدها القاسية. لم تتذمر ولم تشكُ ولم تتراجع، لكنها وجدت في انسحابها إلى داخلها المضيء والحميم قدرة عميقة وصلبة على تحويل معاناتها وشكوكها إلى إبداع فني. في شروط لا تزال ضد كل ما هو جميل ونبيل، وأثقل وطأة وصعوبة إذا كانت تتعلق بعمل تنجزه النساء خاصة، تمكنت هالة من إنجاز فيلمين، ثانيهما أيضاً عن المنفى والاغتراب والقهر، تناولت فيه الساعات الأخيرة من احتضار القاص السوري المنفي (جميل حتمل) راقداً في مشفى باريسي قبيل رحيله العام 1992 منفياً وبلا أهل سوى أصدقاء منفيين مثله. وللحديث عن هذا الفيلم الجديد: (هيه.. ! لا تنسي الكمون) بقية، حيث سيعرض للمرة الأولى داخل سوريا يوم 29 الجاري في صالة المركز الثقافي الفرنسي بدمشق.
المستقبل