صفحات ثقافية

“هيه… لا تنسي الكمون” لهالة العبدالله: تمجيد الضوء في صور الضحايا

null
عامر مطر
تندفع دارينا الجندي بحب نحو الكاميرا، نحو الذاكرة، حيث أزهار كانت تحبها في الطفولة، ثم يبدأ الحزن دفعة واحدة. تبكي دارينا الجندي، وتخرج كلمات جميل حتمل (1956-1993) بصوت حزين: “تعبت يا لله، وأريد أن أعود إلى مدينتي أو إلى بيتي القديم. تعبت من المترو، والأنفاق، والوحدة، وبرد الشتاء الداهم، وحريق القلب الآخذ بالإنطفاء… تعبت وأريد أن أهمس لابني بمساء الخير. تعبت، فأعدني يا لله ولو جثة… أعدني”. تنهض دارينا الجندي وتغادر. هي، وكلمات جميل حتمل، لتطير كل الطيور الواقفة بينها وبين الكاميرا نحو السماء برفقة صوت يولا خليفة.
بدأت المخرجة السورية هالة العبدالله فيلمها الثاني بالمشاهد السابقة، وسمّته “هيه… لا تنسي الكمون”. قصّت فيه أحزان الفنانة اللبنانية دارينا الجندي التي أدخلها تحررها إلى مستشفى المجانين، والقاص السوري جميل حتمل الذي مات منفياً في باريس بسبب مواقفه السياسية ولصدق ما يكتبه، والأديبة البريطانية سارة كين (1971-1999) التي انتحرت في ذروة عطائها.
شخصيات الفيلم الثلاث تعيش أقصى الرفض للمجتمع والواقع، وهذا ما يجمعها في الفيلم، ويجمع ما كتبته.
الفيلم التجريبي ليس توثيقياً، لأنه لا يقدم سيرة حياة أشخاصه بقدر ما يصوّر لقطات قصيرة من مشاعر عاشها كل منهم، بارتكاز مخرجة العمل ومؤلفته على معرفتها الشخصية بدارينا الجندي وجميل حتمل، واطلاعها على مسرح سارة كين. حتى العنوان هو من بين آخر العبارات التي قالها جميل حتمل لصديقته هالة العبدالله قبل دخوله في غيبوبة الموت. حلم حينذاك بصحن من الحمص مع بعض الكمون، كما كان يأكله في دمشق.
تكلم العبد الله صديقها الراحل عند قبره، وتذكّره بأحلام مشتركة جمعتهما سابقاً. تتخلل صوتها مقاطع من قصته “النرجس”. تصمت هالة العبدالله، ويستمر صوت النرجس، لكن مع غناء يولا خليفة، وصوت المصل المعلّق على طرف الصورة. بين هذه الأصوات تدور وترقص نساء جميل حتمل، وتواصل يولا خليفة الغناء لطفلها الذي يودع نساءه. وما دورانهن إلا دائرة مغلقة لموته.
للصوت في الفيلم طاقة تعبيرية تساوي الصورة، ويمكن فصله عنها، إذ يستطيع المشاهد إغماض عينيه أثناء مشاهدته، وإدراك تفاصيل ما يحدث. أما الجانب البصري في الفيلم فيبدو وكأنه محاولات لصنع لوحات تنتصر للضوء وتلعب فيه، كما حاولت العبدالله ومديرة تصويرها سابين لانسلين البحث عن أوسع مساحة من الفراغ في الكادر طول الفيلم.
أعطى الفيلم المساحة الأوسع منه الى دارينا الجندي. صوّرها تتمرن على مسرحية كتبتها بالفرنسية “يوم توقفت نينا سيمون عن الغناء”. تمرنت في باريس وفي بيمارستان حلب. قرأت العديد مما كتبته مع الكثير من الدموع، وقصت حكاية مسرحيتها: “وقت كنت بدي أكتب المسرحية كان أول مرة أسمح لحالي أرجع ألتقي مع حالي… بس بهاي الصورة”.
ثم قصّت حكايتها، وكيف أدخلتها أسرتها إلى مستشفى المجانين بتهمة الجنون: “لينظفوا… حطّوا كل وسخن علي”.
في بيمارستان حلب، توقف الفيلم عند الضوء طويلاً، في انعكاسه على الجدران، وعلى الماء. هنا خاطبت المخرجة المشاهد بصوتها، وهو جهة الخطاب الثانية في الفيلم بعد حتمل: “لنتخيل خلف واحد من هذه الأبواب الخشبية، حيث توجد زنزانات، لنتخيل مجنوناً يتأمل بقعة الضوء هذه، الضوء يتقدم، يغيّر من شكله، يتلمس أحجار البركة…”. حتى عندما تحدثت العبدالله عن سارة كين، وجهت الكلام الى حتمل: “سارة مثلك تماماً، لم تتمكن من تحمل الغربة، في قمة نجاحها قررت الذهاب، انتحرت بعمر 28 عاماً و17 يوماً، سنة 1999، خمس سنوات بعد رحيلك، تركت وراءها أربع مسرحيات، وأصدقاء، وفضاء رمادياً”. بررت العبدالله بهذه العبارات جمع الغريبين، كلاهما عاش غربة تؤدي  إلى الانتحار، ومثلهما دارينا الجندي.
تظهر سارة كين في الفيلم على هيئة سهل الغاب، ومن خلال مقاطع صغيرة من نصوص مسرحياتها “أنا حزينة، أنا مذنبة، أنا معاقبة، أريد أن أقتل نفسي، لقد فقدت كل اهتمام بالآخرين، لا يمكنني أن أتخذ قرارات، لا يمكنني أن آكل، لا يمكنني أن أنام…”، رافقت كلمات سارة كين صور السهل بتعدد ألوانه. لكن ما علاقة السهل بسارة؟ ربما التناقض بين البساطة التي يبوح السهل بها، وبين الرداءة البشرية التي كتبتها كين.
مشاهد السهل بطيئة، كالكثير من مشاهد الفيلم، ويمكن القول إن هالة العبدالله حاولت نظم إيقاع الفيلم بمشاهد قصيرة سريعة فيها الكثير من الحركة تسبق مشاهد السكون الطويلة.
يتحدث الفيلم ثلاث لغات، عربية العبدالله وحتمل والجندي، وفرنسية الأخيرة، وإنكليزية سارة كين.
ينتهي الفيلم بالحلاج الذي غنّته يولا خليفة: “يا نسيم الريح قل للرشا… لم يزدني الِورد إلا عطشا. لي حبيب حبّه وسط الحشا، إن يشا يمشي على خدي مشا، روحه روحي وروحي روحه… إن يشا شئتُ وإن شئت يشا”. ربما أرادت القول إنهم مثله.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى