الرحيل إلى ضفة الألم … إلى فارس مراد
مسعود عكو
رحيل كبير وحزن أكبر، المهاجر يستقل قارباً أصغر من همومه، مآسيه أكبر من قطرات المطر، الموت جرف معه كل الآلام، هكذا غادر السنونو وطار إلى لحد كئيب، وحده الغراب نعق ذلك المساء، رحل فارس السجون، وبطل المنفردات، الفارس يرحل إلى التراب. ذلك التراب الذي دفع مهره حباً أكبر من كل القضبان.
آلام بحجم السماء، وآمال كعظمة الكون، مستقبل كمتاهات سجون كئيبة، الظلام أطفأ كل النجوم، وحده الليل أشعل شمعة بالقرب من شاهدة قبر، الثرى رفع قدح مي وقال بصحتك أيها الفارس، حينها رحب ملكين بضيف لطالما كانا ينتظران قدومه في رحلة تسعة وعشرين عاماً من القيود والآلام. سلب الموت حريته هذه المرة.
فارس امتطى الموت، شد لجام الفراق، وغادر الربيع، ترك خلفه إرثاً مثقلاً بهموم وطن، قطتين وكتاب، خط القدر بحبر الأسى سيرة حياة سجين وطن، القدر انتهى من ترجمة حياة مليئة بالحب والحرية، حياة مرت بأسرع من سلحفاة هرمة، الحزن يتألم عندما يقرأ صفحاتها. وحدها الأحرف أعلنت الحداد عليه.
صمت رافق كائنات متناثرة على مد رحلة طويلة، التأمل افترش بساطاً واسعاً من السواد في طياتها، ألوان متموجة في كلمات مرسومة بريشة الموت، كلها تثير زوبعة من الفراق والأسى، محاولات مختلفة للملمة ذكريات ترامت بين السجن والوطن، محاولات فاشلة لرسام حاول إعادة توزيع الألوان، سيمفونية عزفها الفارس، رتب ألحانه على جدران عتيقة. نثرها قليلاً قليلاً على مد أيامه.
القلب يئن كل يوم، لحظات الفرح تخجل الدنو من آلامنا، الكلمات تتلاطم للخروج في جنازة الفارس، والألم يبكي على وداع أخير، لحظات تمر بفراق جديد، توقف الزمن هنا، ذهول خيم على ضحكات أطفال تائهين، الحزن رسم ابتسامة على شفتي فتاة كانت ألوان ثيابها تنثر الكلام على قبر كئيب، جبل هدر الموت دمه، قمر أطفأت الغيوم الكئيبة ضياءه، الشمس باتت تبكي زهوراً بريئة أفسد الفراق ألونها، الموت طرق باباً صغيراً، أعلن الموت أخيراً، جنازة حلم وأمل. أمل وطن متخم بالألم بالحنين والأسى.
الزمن غادر المكان بصمت، الموت يرسم لوحة رحيل، وأعلنت السجون رحيل نزيل آخر، وخيم رحيله على أرجاء الكلام، الموت صور مشهداً مخيفاً للوحة خائفة، صمت الليل وبدأت الشمس برثاء فارسها، أغنية بين أنين خائن وخجل يطير بعيداً نحو الشمس، بين أبيات قصيدة وجدائل عروس، الموت رسم فاجعة بكلمات الطيف، وهاجر السنونو بعيداً. ما زالت فيروز تغني “أنا عندي حنين”.
آلام ضاعت بين طيات زنزانة ظالمة، وقبو كئيب، المشهد يصدر أزيز ضوضاء متلبدة، عبرات عصفور صغير، انتحبت القطا قلباً بات خاوياً سوى من آسى، وأنين لحظات أليمة كئيبة، الكلمات خانت الأقلام. انهمر من ثغورها قطرات ندى ربيع متأخر.
رحيل آخر ألبس الأزهار وشاحاً أسوداً، ألم اخترق الأذان كدوي صاعقة سماوية تبكي من أنينها كل كلمات الأرض، وحاول القلم من خلال أنينها الأجوف، رسم ابتسامة صغيرة قد تطفئ كآبة الأيام القاحلة، وتشفي جراحاً مل القدر من تأخر التئامها، منتظرة البوح بحنين جديد يطفأ ألم فراق أبدي. غادر الحزن أخيراً.
أيها الفارس في كل ربيع ستزدهر الزهور، وتنثر الورود عبيرها، الغد سيعزف أجمل أغنية بقطرات المطر حين انبعاثه من المزن المثقل بآمالنا، سيغادرنا الضباب الأصفر، وتبدأ الطيور موسم الهجرة نحو الربيع، تاركاً خلفها كل القيود والسلاسل، وترتدي القطا ثوباً أجمل في عيد رحيلك. النجوم تتذكر حديثها معك كل مساء.
أيها الفارس ترجل من جوادك، آن الأوان لخلودك، أرحل بعيداً عنهم خلف الغيوم، وراء النجوم، بجانب كل الألوان هناك، السماء التي منعوك من النظر إليها، باتت بين يديك فارسم فيها لوحة حبك واعزف مقطوعة الحرية وأنشودة المطر، انتهت أيامك ولن تنتهي أمالك، إن لها فرسان كثر، بقدر كل زهرة ربيع، وحبة مطر.
أيها الفارس، ارحل بعيداً عنهم، مثلك لا مكان له هنا، وحدها السماء تليق بكلماتك وأحلامك، إن السماء تبكي فرحاً لقدومك، إقامة ليست كإقامتهم، أيها الفارس غادرت سفنك أخيراً، غادرت ورحلت إلى ضفة الألم.